شهادات ومذكرات

الجاحظ المجحوظ !!

sadiq alsamaraiهو أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الحلقي البصري الكناني، (775-869) ميلادية، ولقب بالجاحظ لأن عينيه كانتا بارزتين، وأقول أنه سمي الجاحظ ليس لجحوظ عينيه وإنما لبروز عقله ونبوغه وتألقه وتمكنه من الحجة والدليل والبرهان الإقناعي، الذي يتسلل إلى العقول والنفوس والأرواح بأساليب أريحية وفكاهية ذات أفكار تتمكن من القارئ والسامع بوعي منه أو لا وعي.

فالعقل عند الجاحظ هو الميزان الذي به توزن الأمور، وتقاس الحالات ولا يمكن لغيره أن يكون القاضي العادل وفقا لوقائع المكان والزمان، وما عنده من معارف ومعلومات وحقائق ودلائل ذات عنوان.

الجاحظ عالم نفس وخبير سلوك وضع ملاحظاته المدروسة في كتبه، التي بقيت موسوعة كبيرة توثق السلوك البشري وتحلله وتمعن النظر بدوافعه ونوازعه وما يجيش في أعماق فاعله، ولهذا كان كتابه البخلاء من أروع المسطورات السلوكية التي كنزتها الثقافات الإنسانية.

الجاحظ الفقير المعدم اليتيم الذي باع الخبز والسمك في أسواق البصرة ومربدها ليعيش، وهو في ضنك أحواله إمتلك شهية وشراهة للكتب والقراءة والمعرفة، فكان آفة كتب، ومدمن قراءة وتأمل وتفكير وملاحظة سديدة ذات قيمة معرفية وعلمية، وهو الذي قدمت له والدته ذات يوم أوراقه وكتبه ليأكلها عندما سألها عن طعام.

والعجيب في أمر كتاب البخلاء، أن الذي أحياه وأظهره للدنيا باحث فرنسي إسمه "فالتين "، وبهذا يتأكد أن العرب يجهلون تأريخهم وتراثهم، والأجانب هم الذين أدلوهم وكشفوا لهم آثارهم وأهميتها وقيمتها، كما حصل مع جميع الآثار العربية سواء في العراق أو مصر وغيرهما من الدول العربية.

الجاحظ كشف لنا عن حقيقة التدوينات والمرويات المنقولة وكيف أنها مغشوشة، وفيها المفتريات والمحشوات اللازمة لتسويغ سلطة وجرائم الكراسي الفاعلة في الحياة، فالأقلام تكتب بمداد الكراسي وكذلك الخطباء يتحدثون، وذوي العمائم واللحى يتمنطقون ويفتون، مما يؤكد أن التأريخ الذي نقرأه في الكتب فيه نسبة من الإفتراءات والأكاذيب والمغالطات، وتدفعنا إلى قراءته بعيون أخرى وعقل حصيف.

إتصل الجاحظ البصري المولد والمنشأ بالثقافة البغدادية والبيئة الحضارية السامرائية، بعد أن ذاعت شهرته وإنتشرت كتبه وتمرسه بالتعبير عن عقيدة الإعتزال، التي تعلمها من إبراهيم بن سيار النظام وهو من أشهر المتكلمين بها.

وبميل المأمون للمعتزلة وإتخاذه مذهبا وجعل القول بخلق القرآن فرضا، قرّب قادة المعتزلة إليه وجعلهم متنفذين.

وتوثقت صلته بالمأمون ووضعه على ديوان الرسائل فلم يلبث فيه أكثر من ثلاثة أيام، لكنه إستطاع أن يبدأ علاقاته مع رموز عصره من الوزراء والكتاب، ومضى يكتب الرسائل بناء على رغبة الخليفة العباسي ، خصوصا في زمن المأمون والمعتصم والواثق، كما أنه تواصل في زمن المتوكل، وربما توفى في زمن المعتز أو المهتدي.

لقد جمع الجاحظ بين الأدب وعلم الكلام، وكان متحدثا بمذهب المعتزلة ورؤاهم في الخلق والتكوين والإجتماع الإنساني والأمم والشعوب، والخلافة والسياسة، والأدب والشعر والنثر، وفي إجتهاداته وإبداعاته لتأييد الخلافة العباسية وتسويغ شرعيتها وأفضليتها وأحقيتها، ومناهجها المتنوعة.

وعاش في عصر بغدادي عولمي التطلعات والممارسات والتفاعلات، إذ أسهمت حركة الترجمة النشطة في إستحضار ثقافات الأمم والشعوب ونشرها والتفاعل معها، وكان لدار الحكمة دورها الأكبر في صناعة المفاهيم العولمية وطرح التحديات الحضارية، التي على العرب مواجهتها وإستيعابها وتمثلها والإنطلاق منها وبها في مسيرتهم التألقية.

وقد إستغرقت حياة الجاحظ ما يقرب من ثلثي عصر الترجمة في بغداد والذي إمتد لمئة وخمسين سنة، كما أن وجوده في البصرة المنفتحة المتنوعة المتعددة المذاهب والمشارب، والبارعة في العلوم اللغوية والنحوية والتفاعل الفكري الحر مع المستجدات، قد أوقد ذهنه وأسهم في بناء منهجه الإستدلالي العقلي، ومنحه الأدوات والقدرات اللازمة للإقناع والمحاججة والإستدلال المنطقي الواضح، الذي يفحم الآخر ويفند ما ياتي به من طروحات وإدعاءات، ولهذا كانت له مجاهدات فكرية ومناظرات ومعارك محتدمة مع الذين كانوا يريدون بالعرب سوءً، ويعملون على الحط من دورهم وأهميتهم وقدرتهم في صناعة الحضارة.

وقد دافع بشراسة وبلا هوادة عن الهوية العربية وفند المدعين بضعف العرب، وعدم مساهمتهم في الحياة الإنسانية، وبأنهم بدو رحل لا أثر عندهم للعمارة ولا للإنجاز الحضاري المبين، فوقف بحزم أمامهم وأثبت أن رقي العقل العربي ونضوجه الفكري وتمامه المعرفي، هو الذي جعله مؤهلا لحمل رسالة كونية منيرة للعالمين وتجسيد معانيها ومعالمها بفعل مجيد.

وفي خضم صراع الأفكار ومناهج الفكر سعى لحوارات فكرية داخلية وإقليمية بعقل يؤمن بالحرية والإنفتاح وفهم الرأي الآخر وتمثله، فكانت صراعاته الفكرية ذات قيمة حضارية، لأنها تصب في تيار تفاعل الثقافات وحوار الحضارات، والتأكيد على قيمة العروبة كهوية ومنطلق حضاري إنساني متميز.

فكان الجاحظ قائد إنطلاق العقل العربي وتنويره ورقيه وإبداعه المعرفي المتنوع، فهو كالجذوة التي أوقدت مواقد العطاء العربي الأصيل.

وقد مضى في طريق الإبداع المفتوح المتسع، وشيّد منهجه الفكري على التحليل والمقارنة والنقد والتمحيص، وكشف التضاد والتناقض الداخلي في الأفكار المطروحة عليه، وعبّر عن عشقه الفتان للمعرفة بهذا الأسلوب الجميل العلمي الهزلي في بعض الأحيان، كما في كتابه البخلاء الذي أراد أن يؤكد فيه على قيمة ومعاني الكرم العربي وعلاء شأنه بأسلوبه الجذاب.

وفي ما كتبه يؤكد على المنهج والطريقة العلمية والمناظرة والجدل والإيمان بالحرية، ورفض التعصب والإنغلاق والأخذ بالإعتبار المقاييس الموضوعية وإستيعاب الرأي الآخر وربط الأفكار بالحاجات.

وكان مجاهدا ومقاتلا بقلمه في سبيل العلم والحقيقة، التي يراها بعقله المفتوح المتوقد الرافض للجمود والإنغلاق والسطحية والجزئية والتهافت المنطقي الضعيف، بل أنه غاص في جوهر المعارف العميقة بعقله الثاقب اللطيف المتسلح باليقظة والموضوعية.

وكان يرى ان "العقل وكيل الله عند الإنسان"!!

ويرى أيضا أن هلاك الناس منذ كانوا وحتى قيام الساعة "بحب الأمر والنهي، وبحب السمع والطاعة"!!

الجاحظ كلما زرته أشعر بأننا كما قال في "دهر صعب وزمن فاسد، لأن المحقين قليلون، كما أنهم ضعفاء، ولأن العدد الكبير من الناس قد إنتظموا معاني الفساد أجمع، وبلغوا غايات البُدع، ثم قرنوا ذلك بالعصبية".

فما أحوجنا لألف جاحظ وجاحظ لإستنهاض الأمة من حفر الإنقراض وميادين الإفتراس، وتخليص العرب من سلوك قتلهم بسلاحهم، وحفظهم من المزالق والمآزق التي يتساقطون فيها كالجراد في الخنادق.

 

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم