شهادات ومذكرات

عريان والوطن والبرلمان

علي المرهجتابعت بتأنٍ حدث وفاة شاعر العراق الأشم عريان السيد، سيد الشعر الشعبي بلا منازع، يُنافسه النواب والكاطع على هذه الصفة.

وأفرحني الخبر الذي نشره البرلماني الشاعر (وجيه عباس) من أن غداً سيكون يوماً وطنياً لتأبين عريان السيد خلف (شاعر الوطن الجريح)، وتلك مُبادرة ولو كانت مُتأخرة إلَا أنها تحمل في طيّاتها تقديرٌ لقامة ابداعية ونخلة عراقية جنوبية سامقة جمعت كل أطياف العراقيين وتنوعاتهم العرقية والدينية والمذهبية، فنعته وكأنها تنعى فقيداً لها، فآتوني بمثل عريان يتفق العراقيون على الاعتراف بقيمته كعراقي!، أظن أنه سؤال صعب جوابه في ظل ما نعيشه من فرقة وتصارع. فقط عريان بابداعه خرق منظومة الصراع المذهبي والعرقي والديني ليقول الشعب قولته وداعاً عريان بكل صدق ومحبة.

لم أجد العراقيين ينعوون شخصاً بكبرياء مصحوباً بألم مثلما نعوا عرياناً، وكأنهم بفقده تعرى بعض كبرياء القول والكلم.

كل من نشر مقالاً في صحيفة أو موقع ألكتروني أو منشوراً في وسائل التواصل الاجتماعي إنما كان ينعى وطن.

عجيب أمر هذا الرجل! الشُعراء كُثر والمُبدعون أكثر، وكثيرٌ منهم ودَع الحياة الدُنيا وحزن عليه البعض، وبعض منهم لم ينل حظه من الستذكار كما ناله الكبير عريان، ولكن عرياناً كأن بفقده سلبٌ لحياة أفضل كُنَا فرحين بوجوده فيها، هو صوت من لا صوت له.

إنه (صوت الأرض)، (صوت المُستضعفين)، بل و(صوت الشعب) فهو "الوجاغ" التشب ناره، وهو سمفونية العشق المُجتمعي التي يعزفها كل أبناء العراق فلا تجد فيها نشازاً يخترق نسق المحبة، وهو قصيدة (الغراف) التي لن تجد فيها زُحافاً خارج مصب الرافدين في انسيابية اللفظ والمعنى ليجعل من قصيدته أيقونة شعرية تسمع صُراخه:

إنزف صبر يا وطن

بيه إلك مية جرح..

أفديك يا وطني لو ميت مره أنذبح

وأشرب نخب هيبتك من المسه للصبح

مثلك جرح ما إلي وغيرك مُحب ما يصح

عريان عنفوان الأرض وبقايا النزعة الثورية في الشعب (جور ليل الصبر) وتحمل معاتب الدنيه والصدَ، وظل مُحب عطشان بدروب المحبة، وبساكيا الروح يشتل ورد فلاح المحبة بفضل ناعورنه اليترس محبة او يبدي.

عريان يا ناعور المحبة (يا انت..وكفاني اتوهدنت وياك)

واتدوهنت والدمعه اعل خدَي.

ودكيت روحك نذر للجايب بشاره

امن العاشك الولهان لمن ترك داره

وعميت عين الوجاغ الما تشب ناره

الما يحبك يا وطن صدك إلك شاره

عريان عنوان الورع والتنسك في العيش، فلم يختر موطناً غير العراق له ولا مسكنا، وكان بمقدوره أن يجعل من كل بلاد الأرض مُستقراً له فيها ترحيب وتهليل بقدومه، ولكنه اختار العراق، (ومنك ما روت يدعج بعد روحي..ولا رادت..ولا سمعت..ولا حبت..لا تحمل نجاة بليل لو غنت...يا كمرة حياتي البعد ما هلت..يا انت وكفاني توهدنت وياك..تحسبني وحسبتي وياك ما فلت).

لا تتمنه ياكلبي لا تتمنه ما طول جافانه الهوى وبطلنه

وك لا عين ظلت خاليه ولا ظل ولف يتعنه

وك لا تدك يالدكت قهر مقفول باب الجنه

وهينوب ما مش ظنه

...

وما طول راضي بموتنه ستطان

أه يا خسارة نوحنه ويارخص ذيج الونه

ردفن علينه اسهامكم وعله الصبر دامنه

لا احنه للدنيه صفينه ولا هي ولا هوى الدنيا إلنه

متبدل بطبعه الوكت لو احنه اللي اتبدلنه

ولا تبدل ولا تبديل في ساعة المحنة وساعة من ظن أنه تخلص من محنة الوقوع في الزلل فسمح لنفسه وأتباعه أن يكونوا من الذين لا يمسهم السوء فكانوا أسوأ من حكموا في تاريخ عراقنا المُعاصر، ولكن عرياناً (شهكة الزردوم) من يشهك بعالي الصوت "خاف أصعب عليك وخاف بيدي تموت".

عريان كلمة الوطن وصوته التي لا يعلو فوقها صوت، فرغم مرارة الاقصاء ظل عرياناً صوت الفقراء والمُهمشين، فآثر على نفسه ترك محاسن الاغراء ليتربع على عرش "تل الورد" وما أبهاه من عرش، فبه ومنه تمكن من أن يكون ملكاً بلا عرش لأنه "صياد الهموم"، وكم صيَاد يدَعي بتبجح أنه يُتقن الصيد، ولكن عريناً أثبتت مهارته بالصيد مُمارسة يشهد له من رافقه في رحلات الصيد، ويشهد له كل العراقيين أنه تمكن من صيد محبتهم باقتدار.

صحوة البرلمان بنعيه واستذكاره لشاعر الاتفاق الوطني (عريان)

وإن لم يُحسن البرلمان ما ينبغي عليه حُسن الفعل فيه ألا وهو اتقان التعبير عن الحُزن بفقد الكبار من الذين كانوا (ايقونات) محبة جماهيرية ولوحات شرف وطنية نعاهم الشعب بألم، ولكن ليكن استذكار عريان يوماً وطنياً يحتفي به العراقيون باستذكار مُبدعيهم من كل الأطياف.

 

د. علي المرهج

 

في المثقف اليوم