شهادات ومذكرات

نساء القرية و جسر أبو الدوَب

علي المرهجيفصل بين قلعة سكر وقرية (بني ركاب) جسر حديدي نُسميه جسر أبو (الدوَب)، وهو جسر طائف يُحملُ على صناديق حديدية تُسمى (الدوَب)، توضع بين (دوبة) وأخرى قوائم تمتد بعرض أمتار ستة بين (دوبة) وأخرى، و(الدوبة) هي غرفة حديدية مجوفة مُحكمة القفل يملؤها الهواء مطلية بـ "القير" أو طلاء لمنع تآكل الحديد.

كانت هُناك أغنية مشهورة تُغنيها سميرة توفيق "يا عين موليتين يا عين موليه جسر الحديد انكطع من الروحه والجيه" والجسر لم تقطعه (الروحه والجيه) بل تقطعه مرَات إرتفاع الماء وسرعة موجاته.

(الدوَبة) جسر الهوى وتلاقي الريف بالمدينة، وهي ذاكرة العبور من الألم للفرح، عند أهل القرية، فبين الجُرفين يتحول الغراف من ريف التعب إلى شغف اكتشاف الحضر، ولكنه عند أهل المدينة (الحضر) شغف بنسائم الغراف وجمال الطبيعة الأخَاذ للتخلص من صخب الحياة والألم.

يبدو أن الإشباع هو الحد الفاصل بين الجمال والقُبح، فكل ما لا نشبع منه فهو يُمثل عندنا مثال الجمال وشغفنا في تحقيقه بوصفه المُتمنى، فابن الريف يرى في المدينة جمال النظام والتناسق الحضري، ولا يرى في الريف مثلما يرى ابن المدينة، والعكس صحيح.

في زيارة ليَ للقرية التي يقطنها أبناء العمَ كُنت قد زرتُ ابن عمَ ليَ لم يخرج من القرية وعمره بلغ الثامنة عشر، فسلمتُ عليه، وقلت له (ها محمد شلونك) فأجابني (شلوني خويه، ماكل تبن) وهو يركب حماره ورجلاه تخطَا في الأرض، فتعجبت من ردَه، لأنني مُعجب بجمل الريف ونقاء طبيعته وفطرة أهله فقلت له (ليش خويه ماكل تبن حشاك) فأجابني على الفور (خويه طكت روحي أريد أشوف الولايه، وأبشرك كربت) فقلت له كيف؟، فردَ عليَ (باقي جم يوم وأتحق بالعسكريه، وأخلص من أبوي وهذا التعب مال الكاع والرعي. خويه مليت وعلي بن بي طالب، شيب راسي)!. في هذه اللحظة عرفت أن الإشباع من عدمه هو مصدر الحُكم على جمال الحياة من قُبحهها.

لأعود لحكايتي:

كان أبناء الريف يأتون للمدينة وجميعهم يحلمون بجمال لم تراه أعينهم، وكان جُلَ همهم أكل (الكباب) والجلوس في مقاهي المدينة، فقد كانت قلعة سكر ملأى بالمطاعم والمقاهي، وأغلبها تعتاش على القادمين من الريف، شباب ورجال. أما بنات الريف فكُنَ يأتينَ يحملنَ على رؤسهن (صواني) من عطايا القرية من الجبن والقشطة (قيمر العرب) وبعضهنَ يحملنَ في (الزنبيل) بعض من البيض الطازج ودجاج العرب و (الفسيفس) = (الديك الرومي) و (البش) = (الوز العراقي) ليبعنَ ما يحملنَ لبعض من تُجار المدينة في (السوك الجبير) وهو سوق قريب من جسر (الدوَب) وكثير من بنات الريف يرمنَ التخلص مما حملت رؤوسهنَ، ولأنهنَ ذاقنَ الألم من فرط ما حملنَ، ولنباهة ابن المدينة التاجر (الشايلوكي) تجده ينتظرهنَ عند بوابة جسر (الدوبة) فيُرحب بهنَ، وستجدهنَ فرحات بترحيبه ولكنهنَ لم يعرفنَ ما يُضمر لهنَ بعد هذا التهليل والترحيب.

وأتذكر واحداً من الذين يشترون من بنات القرية ونسائها اللواتي يحملنَ (كواصير) التمر والجبن وقيمر العرب في (السوك) يستقبلهنَ بالترحيب والتهليل، (هلا بالحبياب، هلا ابنات عمي) وهُنَ فرحات بترحيبه، فيزن ما عندهنَ من نتاج الماشية والداجن، فيُعطيهنَ أجرهنَ بعد أن جف عرقهنَ، وهُنَ يملأهنَ السرور.

كان (دكان) هذا الرجل مملوء بالدبس والراشي والتمر (المجبوس) والجبن والقيمر والسمسم و(بيض العرب)...إلخ، وهو دُكان قديم لا إضاءة فيه، مُعتم، في مُقدمته دكة مصنوعة من بقايا الصفيح و (الجينكو) مرفوعة على بقايا أعمدة قديمة.

أما صاحب الدكان، فهو كبير السن ملتحٍ بلحية ليست كثة، يملؤها الشيب، يُظهر الوقار، ولكن سنحته تدل عليها حركاته وإيماءاته التي تشي بأن خلف هذا الوقار يختبئ ثعلب ماكر. دشداشته ملأى بالثقوب من فرط ما يقع عليها من جمرات سكائر اللف، وهي دشداشة عتيقة لا ترى الغسل، أظن أنها كانت بيضاء وما السمرة التي وشحت بها حتى ظننا بأن لونها هكذا هي من فرط ما اتسخت به من التراب ودخان السكائر. أسنانه صفراء لم يمسسها الملح ولا غررته وبالتأكيد الفرشاة لا علم له بها ولم يكن هو فقط بل جُلَ أبناء المدينة.

مُحدودب الظهر قليلاً أجش الصوت ضعيف البنية.

ولشطارة شيطانية يكتنزها هذا (البيَاع شرَاي) بعد أن يزنَ حمولة بنات الريف، وهُنَ لا دراية لهنَ في الحساب يُخبرهنَ أن حُسابهنَ مقداره دينار أو أقل بقليل وربما أكثر، وهُنَ يحسبنه (التقي النقي) وبعض من التُجار يستغربون تعاطف هؤلاء النسوة معه لمعرفتهم به، ولكنه شاطر يُتقن خُداع النسوة الريفيات لأنه بعد أن يزن حمولتهنَ بعد خُداعهنَ بقيمة الوزن كأن يكون عشر كيلوات ونصف، فيُخبرهنَ بأنه تسع كيلوات ويُحاسبهنَ على هذه القيمة الوزنية، ولكنه مُخادع (شايلوكي) وبعد حين يلحقهنَ قُرب (راس الجسر)، بدايته من جهة المدينة، ليُخبرهُنَ بأن لهنَ حساب باق، وهو لا يرتضي لنفسه خُداع أحدهنَ، وهُنَ فرحات بهذا التاجر الذي (يخاف الله) ولم يعرفنَ أنه سارق لكيلو أو أكثر من حُملوتهنَ، ولكنه يُتقن اللعب والتزييف.

يبيع ويشتري وكل من يبيعنَ له راضيات مرضيات لأنه يُسدد لهنَ فارق الأجر في الوزن كونه يخاف الله!!، ولم يعرفنَ يوماً أن فارق الأجر هذا إنما هو فارق جهل وتجهيل بين من يعلم بمقدار المكيال ومن لا علم له.

وبقيَ تُجار السوق الذين لا يُتقنون الكيل بمكيالين خارج لعبة الحياة في اللعب على جهل (الآخرين)، بنات الريف اللواتي لا علم لهنَ سوى أنهنَ يثقنَ بمن وضع التشريع والكيل بمكيالين، ولكنه موضع ثقتهنَ، ولم يدَر بخلدهنَ أن من يدعي تفقهاً في اتقان الكيل أو التشريع المعياري للقيمة الاقتصادية لا يعني بأي حال من الأحوال أنه غير مُفسد، ولا أدل على ذلك من تاجر جسر أبو (الدوَب).

 

ملاحظة: الصورة منقولة لأحد جسر الدوّب في محافظة ذي قار، وقلعة سكر أحد أقضيتها.

 

في المثقف اليوم