شهادات ومذكرات

جمال حمدان.. فيلسوف الجيوبوليتيكا

محمود محمد علييعد الدكتور جمال حمدان أحد أعلام الجغرافيا المصريين الأفذاذ، والذى حلت ذكرى رحيله السادسة والعشرين قبل أيام، فقد تفرد بلا منافس في علوم الجغرافيا وفلسفات الشعوب، ولطالما ظل اسمه مدونًا في كل المراجع العالمية بلا استثناء، بل ترجمت كتبه العظيمة لمختلف اللغات، واعتبره البعض حالة متميزة جادت بإبداعاتها بكل تفانٍ وإخلاص، ولم لا، فقد كان راهب الجغرافيا والوطن والعروبة بامتياز، جمع بين العلم والفن والفلسفة، كما عُد أحد أعلام الجغرافيا المصريين، ولكنه كما قيل، لم يكن مجرَّد أستاذٍ للجغرافيا في جامعة القاهرة، بل كان مفكِّرًا وعالِمًا، أفنى عمره كلَّه باحثًا عن ينابيع العبقرية في الشخصية المصرية، محلِّلاً للزمان والمكان والتاريخ الذي أدى إلى حفاظ تلك الشخصية على مقوماتها.

فمثلا نجد أنه شكل بمفرده مدرسة راقية في التفكير الاستراتيجي المنظم، مزج فيها بطريقة غير مسبوقة ما بين علم الجغرافيا الذي لا يتعدى مفهومه لدى البعض نطاق الموقع والتضاريس، وعلوم التاريخ والاقتصاد والسياسة، ليخرج لنا مكون جديد أسماه “جغرافيا الحياة”. وأوضح “حمدان” في مقدمة كتابه الموسوعي “شخصية مصر” المقصود بتلك الجغرافيا مشيرًا إلى أنها: “علم بمادتها، وفن بمعالجتها، وفلسفة بنظراتها.. وهذه الرؤية ثلاثية الأبعاد في التعاطي مع الظاهرة الجغرافية تنقل عالم الجغرافيا من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير، ومن جغرافية الحقائق المرصوصة إلى جغرافية الأفكار الرفيعة.

ولم تكن الجغرافيا هم “جمال حمدان” الوحيد، لكنه أراد أن يجعل منها مركزًا لكل العلوم، فكان لكل وادٍ عنده نظرية، ولكل بحر دلالة وأهمية، ليصيغ من خلال ذلك نظرية استراتيجية كاملة في عبقرية المكان، ويحلل من خلال تلك النظرية التاريخ والحاضر والمستقبل.

وُلد جمال حمدان في العام 4 فبراير 1928م ، وحصل على الشهادة الابتدائية عام 1939، وقد اهتم والده بتحفيظه القرآن الكريم، وكذلك تجويده وتلاوته؛ مما كان له أثر بالغ على شخصيته، وعلى امتلاكه نواصي اللغة العربية، وقد ظهر ذلك جلياً في كتاباته التي تميزت بأسلوب أدبي مبدع.

وبعد المرحلة الابتدائية التحق بالمدرسة “التوفيقية الثانوية” وحصل على شهادة الثقافة عام 1943، ثم حصل على التوجيهية الثانوية عام 1944، وكان ترتيبه السادس على القطر المصري، ثم التحق بكلية الآداب قسم الجغرافيا.

تخرج من كليته في عام 1948، وتم تعيينه معيداً بها، ثم أوفدته الجامعة في بعثة إلى بريطانيا سنة 1949، حصل خلالها على الدكتوراه في فلسفة الجغرافيا من “جامعة ريدنج” عام 1953، وكان موضوع رسالته: “سكان وسط الدلتا قديما وحديثاً”.

كان الدكتور جمال حمدان يرى أن مصر تحوَّلت من أول أمّة في التاريخ إلى أول دولة، ثم أول إمبراطورية، وتوصل إلى تلك الحقائق من خلال دراسات جادة وأبحاث متعمقة، درس في كلية الآداب- قسم الجغرافيا، وتخرَّج منها في العام 1948 ليعُيِّن معيدًا بها، ثم يسافر إلى بريطانيا في بعثةٍ لدراسة الدكتوراه في العام 1953، وكانت أطروحته بعنوان “سكان الدلتا قديمًا وحديثًا”.

ولا شك في أن كتاباه “دراسات عن العالم العربي” و”جغرافيا المدن”، كانا أول ما سلّط الضوء على عمله المتميز، ليحصل على جائزة الدولة التشجيعية وعمره حينها لم يتجاوز31 سنة.

والناظر بإمعان إلى كتابات حمدان ومنهجه ونظمه الجغرافي؛ يجد أنه كان قد حلَّق بعلم الجغرافيا إلى آفاق بعيدة، لم يستشعر بها أحد من أقرانه الجغرافيين قبله، فحمدان هو روح الجغرافيا الجديدة المتجددة دائمًا وأبدًا، مع أن كتاباته تميل إلى النسق العلمي المتسق بالأدب.

ترك جمال حمدان إرثاً عظيماً نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: (دراسات في العالم العربي، القاهرة، 1958) و(أنماط من البيئات، القاهرة، 1958) و(دراسة في جغرافيا المدن، القاهرة، 1958) و(المدينة العربية، القاهرة، 1964) و(بترول العرب، القاهرة، 1964) و(الاستعمار والتحرير في العالم العربي، القاهرة، 1964) و(اليهود أنثروبولوجيا، كتاب الهلال، 1967) و(شخصية مصر، كتاب الهلال، 1967) و(استراتيجية الاستعمار والتحرير، القاهرة، 1968) و (مقدمة كتاب (القاهرة) لديزموند ستيوارت، ترجمة يحيى حقي، 1969) و(العالم الإسلامي المعاصر، القاهرة 1971) و(بين أوروبا وآسيا، دراسة في النظائر الجغرافية، القاهرة، 1972) و(الجمهورية العربية الليبية، دراسة في الجغرافيا السياسية، القاهرة، 1973) و(6 أكتوبر في الاستراتيجية العالمية، القاهرة، 1974) و(قناة السويس، القاهرة، 1975) و(إفريقيا الجديدة، القاهرة، 1975) و(موسوعة شخصية مصر ـ دراسة في عبقرية المكان من 4 أجزاء، القاهرة، 1975 – 1984).

ولم يكتف جمال حمدان بذلك بل كتب عشرات الصفحات من خواطره، أتوقف أمام بعض منها، متأملا ومتعلما، حيث يقول، العرب بغير مصر "كهاملت" بغير الأمير، سيناء ليست مجرد صندوق من الرمال كما يتوهم البعض، وإنما صندوق من الذهب الأسود. مصر كانت دائما شعبا محاربا، ولكن دون أن تكون دولة محترفة حرب، لأنها محارب مدافع أساسا لا محارب معتد.

وعن إسرائيل يقول : إسرائيل ليست عنكبوتا، ولكنها بناء ملئ بالثقوب، يقوم علي أرض أكثر امتلاء بالحفر، والعلل الأصيلة في مجتمعها هي نقاط قوة لنا في صراعنا ضدها، ونقاط ضعف محققة لها، غير أن إسرائيل، لن تهزم بالنقاط كما يقولون في عالم الرياضة، وإنما تهزم بالضربة القاضية. علي المسلم الذي يكتب عن العالم الإسلامي، أن يضع نفسه في مكان غير المسلم، خاصة الأوروبي المسيحي، ليس فقط ليكون موضوعيا، وإنما، ليستوعب وجهة نظر الآخر. نحن والأقباط شركاء، وإنهم أقرب المسيحيين في العالم، إلي الإسلام بمعني أو بآخر. .

ولم يكتف بذلك بل وينسف بكل ثقة ويقين ادعاءات إسرائيل بأحقيته المزعومة  في أراضي ومقدسات فلسطين، وكذا يستشرف مبكرًا باقتدار مآلات واحتمالات الصدام والتصدع المبكر بين القوى العالمية المهيمنة على إدارة المشهد الدولي حينها ولكن قبل حدوثها بسنوات.

ومن الرؤى المستقبلية التي طرحها وتبدو في طريقها إلى التحقيق تلك النبوءة الخاصة بانهيار الولايات المتحدة، حيث كتب “حمدان” في بداية التسعينيات يقول: “‏أصبح من الواضح تمامًا أن العالم كله وأمريكا يتـبادلان الحقد والكراهيـة علنًا، والعالم الذي لا يخفي كـرهه لها ينتظر بفارغ الصبر لحظة الشماتة العظمى فيها حين تسقط وتتدحرج، وعندئذ ستتصرف أمريكـا ضد العالم كالحيوان الكاسر الجريح”.

كذلك كان أول من أشار إلى مدى تأثير البترول ليس فقط على المجال الاقتصادي، ولكن على المجال السياسي والاستراتيجي أيضًا، وذلك في كتابه “بترول العرب”، وبالفعل ثبت كلامه، فكان البترول وسيلة ضغط فعالة استفاد منها القادة العرب خلال حرب أكتوبر 1973.

كما تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي في كتابه “استراتيجية الاستعمار والتحرير” عام 1968، وبالفعل انهار الاتحاد السوفيتي عام 1991، كما قام في كتابه الشهير “اليهود أنثروبولوجيًا” بإثبات أن يهود إسرائيل ليسوا أحفادًا لليهود الذين خرجوا من فلسطين قبل الميلاد، وإنما ينتمون إلى إمبراطورية “الخزر التترية” التي قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود، واعتنقت اليهودية في القرن الثامن الميلادي، هذا الأمر الذي أكده بعد ذلك “آرثر بونيسلر” مؤلف كتاب “القبيلة الثالثة عشر” الصادر عام 1976.

وذكر الأستاذ إبراهيم النجار (في مقاله الذي نشره بجريدة الأهرام "جمال حمدان.. درس في عشق مصر) أن جمال حمدان المؤرخ المصري، في (17 أبريل 1993م)  قد اغتيل ، عقب احتراق شقته في القاهرة، ووجد وقد احترق نصف جسمه، إثر تسرب غاز حسب الرواية الرسمية آنذاك، إلا أن شقيقه قال، إنه رأى أثار ضربة بأداة حادة في رأس جثة جمال، فيما لم تتجاوز الحروق منطقة الصدر.

كما ذكر شهود عيان، أن ثلاثة كتب انتهى حمدان من تأليفها اختفت من البيت، أهمها "اليهود والصهيونية وبنو إسرائيل"، كما اختفى أجنبيان أقاما شهرين ونصف في شقة تقع فوق شقة حمدان. فهل قتل حرقا أم بضربة على الرأس؟!

ونحن في رحاب الذكري السادسة والعشرين لرحيله، مازال السؤال يتردد، ومازالت هناك علامات استفهام كبيرة لا تنتهي، لا زالت قائمة حتى اليوم، ولم تجد من يفك ألغازها ويجيب علي طلاسمها، حول رحيل واحد من المع وأنبل الظواهر المعرفية في تاريخنا المعاصر، وسط إهمال يعكس جهلا مطلقا بقيمته العلمية والأدبية، ووسط ضياع للإجابة عن سؤال يتعلق بكراسات موسوعته العملاقة، "جغرافيا العالم الإسلامي". وكراسات كتابة المهم "اليهودية والصهيونية"، وهو السؤال الذي لم يجب عنة أحد حتى الآن، ولم يقل لنا أحد أين توجد كراسات الموسوعة والكتاب؟.

وفي نهاية مقالي لا أملك إلا أن أقول رحم الله جمال حمدان، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت امرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه إذا يعروه فقدان في كل يوم ترى أهل الفضائل في نقصان عد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

مركز دراسات المستقبل : جامعة أسيوط

 

 

 

في المثقف اليوم