شهادات ومذكرات

محمد أحمد السيد.. رائد التفكير الناقد

محمود محمد عليتزخر الساحة الفكرية والفلسفية العربية بالأسماء الكبيرة التي أبدعت وقدمت الكثير من الرؤى والأفكار والنظريات في مختلف المجالات، وقد تميزت كتاباتهم بالأصالة والرصانة والإبداع، وكانت مرآة حقيقية تعكس الواقع السائد في المجتمع العربي مما جعلها مسرحاً تتصارع فيه الكثير من الاتجاهات والنظريات والأفكار العربية، مثل الوضعية، والماركسية، والوجودية، والبرجماتية، وغيرها من الاتجاهات، ومن خلال تبني المفكرين العرب لها ومحاولة تطبيقها، أمثال زكي نجيب محمود، وعبد الرحمن بدوي، وفؤاد زكريا، حسين مروة، ومحمد أحمد السيد.

ويعد محمد أحمد السيد أحد الأسماء الهامة واللامعة في سماء تخصص المنطق وفلسفة العلوم في مصر والعالم العربي؛ حيث أسهم بقسط وافر في بناء هذا الصرح، وتعد لبناته الفكرية والأدبية التي وضعها بالجهد والعرق بمثابة الأساس الذي بني عليه الكثيرون من تلامذته مشاريعهم الفكرية، ورؤاهم الفلسفية .

ولم يكن محمد أحمد السيد مجرد فيلسوف نذر حياته للبحث عن الحكمة متذرعاً بمبادئ الحق والخير والجمال، لكنه كان – قبل كل ذلك وبعده – إنساناً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. إنساناً في تفلسفه، وفيلسوفاً في إنسانيته. وبين الإنسان والفيلسوف تتجلى شخصية محمد السيد متعددة الأوجه، كمترجم وكناقد وكأديب.

ورغم إنجازاته المُبكرة فى مجال تخصصه، وهو فلسفة العلم، إلا أنه فى السنوات العشرين الأخيرة قد أثرى المكتبة العربية بدراسات متنوعة وعميقة فى شتى مجالات فلسفة العلم ، وتاريخ العلم والمنطق الرمزي ، والتفكير الناقد وأخلاقيات العلم ، والثقافة العلمية ، بداية بكتابه "التمييز بين العلم واللاعلم" الذى صدر منذ عشرين عاماً، وحظى فى حينه باستقبال حافل، وحصل على عدد من الجوائز المصرية والعربية وإلي الآن.

والدكتور محمد أحمد السيد واحد من الخريجين الأوائل المتفوقين المحبوبين من كلية الآداب جامعة الاسكندرية، والكاتب الذي أسهم في الحياة الفكرية لسنوات طوال بكتاباته الجذابة ونقده العلمي والاجتماعي والسياسي وقدرته على الاختلاف والتعبير عن وجهات نظر خاصة بتعبيرات براقة وأسلوب جذاب". كما كان رجلا اجتماعيا يضفي على كل جلسة من روحه المرحة وذكاء طرحه وسخريته الضاحكة اللماحة، وقد امتدت علاقتنا لسنوات طوال وحتي الآن.

كما أثري محمد السيد في أجيال من الطلاب بجامعة المنيا بطريقته الفريدة الشيقة في مزج العلم الجاد بالفلسفة والمرح ومشكلات الحياة في تواصل إنساني حميم بين الأستاذ الكبير وطالباته وطلابه . كما كان أحد أبرز المفكرين الذين كرسوا حياتهم للعلم، والذي نتج عن قراءة متميزة للمستقبل، تاركا مؤلفات أثرت في نجاح العديد من الباحثين واستفاد منها القراء، كما ستؤثر في الأجيال القادمة، وسيظل علمه ينتفع به على مدار العقود المقبلة.

والدكتور محمد السيد من المفكرين الذين يملكون رؤية واضحة عن تطور تاريخ الوعي الفلسفي والفكر العربي المعاصر وهو لا يعرف الحلول الجاهزة والاجابات المسبقة ولا يؤمن بالمطلقات الانسانية او الدوائر المغلقة للفكر، منذ ستينيات القرن الماضي.

والدكتور محمد أحمد السيد هو أستاذ المنطق وفلسفة العلوم وعميد كلية الآداب جامعة المنيا بجمهورية مصر العربية ، وهو أستاذ بقسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنيا والذي عمل معارا من قبل بجامعة الامارات العربية وجامعة الكويت ، وقد حصل علي درجة الماجستير في الآداب عام 1982 ، ثم علي درجة الدكتوراه في الآداب (فلسفة) جامعة بوسطن ، وله مؤلفات كثيرة نذكر منها : بول فيرابند : ثلاث محاورات في المعرفة وهو ترجمة وتعليق، والعلم والنسبوية تأليف لاري لودان ترجمة محمد السيد ونجيب الحصادي، ودراسة بعنوان العلم ليس غرضه اليقين وصد صدر في الكويت 2014، ودراسة بعنوان ما هي النسبوية – الكويت 2015، ودراسة عن الربيع العربي والتحول إلي الديمقراطية – الكويت -2015، وكتاب طرح السؤال المناسب : مرشد للتفكير الناقد بالمشاركة مع د. نجيب الحصادي، ودراسة بعنوان ما تبقي من الفكر المزدهر إلي أين انتهي الفلاسفة الفرنسيون العظام ، الكويت 2016، وكتاب التميز بين العلم واللاعلم ، وكتاب المشكلة الحقيقية ( الوعي ، وكتاب نقد الصورة المبكرة للنموذج الإرشادي ، ودراسة بعنوان هل نحن بمفردنا في هذا الكون ، ودراسة بعنوان وقود المستقبل ، ودراسة بعنوان عندما يصل العلم إلي أقصي مدي، ودراسة بعنوان وبحث منشور عن أزمة الفكر الفلسفي المعاصر ، وبحث منشور عن علم النفس بين التشرذم والوحدة ، وبحث بعنوان نسبية المعرفة عند بول فييرابند سنة 1997 وهي مشورة ضمن كتابه الذي ترجمه عن فييرابند بعنوان ثلاث محاورات في المعرفة ، وبحث منشور الأسس المنطقية والعرفية للتكنولوجيا، وبحث هل العلوم الاجتماعية أدني مرتبة ؟ ، وبحث عن أخلاقيات الاستنساخ البشري ، وبحث عن اللاقياسية واللاعقلانية في فلسفة العلم عند توماس كون ، وبح عن دفاع عن العلم : نظرية لاكاتوش بين فلسفة العلم وفلسفة الرياضيات، وبحث النصوص الفلسفية المترجمة بين الأمانة والخيانة " لودفيج فتجنشتين وتوماس كون نموذجا" ، وبحث بعنوان لودفيج فتجنشتين : رسالة منطقية فلسفية، قراءة في ترجمة دورية لوجوس، وبحث عن فرنسيس بيكون مجرب العلم والحياة ، وبحث بعنوان من فلسفة العلم إلي تاريخ العلم ، وبحث بعنوان التفكير الناقد والمغالطات المنطقية : دراسة في المنطق المعاصر ، والأسس المنطقية للتفكير الناقد ، وبحث بعنوان أنا أتمرد إذن أنا موجود.

كما نشر أبحاث كثيرة في مؤتمرات علمية: الثورات العلمية المجهضة في العلم العربي ، التفكير الناقد والمغالطات المنطقية، التكنولوجيا بين العلوم النظرية والعلوم التطبيقية ،وبحث الثقافتان، والفلسفة الأمريكية المعاصرة ، واتجاهات معاصرة في فلسفة العلم، وقضايا الفلسفة في عصر ما بعد الحداثة، آفاق الفلسفة التطبيقية، والحداثة وما بعد الحداثة ، والكمبيوتر والفلسفة ، والبحث العلمي : طرقه وأهميته، وزكي نجيب محمود رائد التنوير والعقلانية، وأخطاء التفكير العلمي في الحياة اليومية، والمنهج العلمي عند المسلمين: جابر بن حيان والحسن بن الهيثم، وأدب الحرب عند جمال الغيطاني، والتسامح الفكري، والثقافة العالمية في عالم متغير.

وقد شارك محمد السيد في كتابة منهج المنطق الجديد لمرحلة التعليم الثانوي ( الصف الثالث) بمصر 2015، وشارك في كتابة منهج المنطق الجديد لمرحلة التعليم الثانوي ( الصف الثاني بمصر 2014، كما شارك محمد السيد بالكتابة والحديث في العديد من الصحف المصرية والعربية والعديد من اللقاءات الفكرية والثقافية في برامج تلفزيونية وإذاعية من بينها: القناة الأولي بتلفريون الكويت، والقناة الأوربية (تلفزيون الكويت)، البرنامج العام بالإذاعة المصرية، إذاعة صوت العرب، إذاعة القاهرة الكبري، البرنامج الثقافي بالإذاعة المصرية ، قناة البوادي( الكويت) ، قناة النيل الثقافية بالتلفزيون المصري، تلفزيون أبو ظبي، قناة العربية، قناة المحور، MBC القنة الأولي والثانية والفضائية المصري، وصحف : الأهرام ، والقبس، الرأي ، روزراليوسف.. الخ حول القضايا الثقافية والسياسية الراهنة .

ورغم أن محمد السيد قد تجاوز الستين من عُمره، إلا أنه، ظل نموذج الأستاذ الجامعي المرموق الذي تعلم باقتدار وأثرى وأثّر في أجيال من الطلاب بجامعة المنيا الفريدة الشيقة- في مزج العلم الجاد بالفلسفة والمرح ومشكلات الحياة، في تواصل إنساني حميم بين الأستاذ الكبير وطالباته وطلابه".

وقد يكون من أهم ما قام به من أعمال في هذا المجال ، هو تأليفه لكتاب " التفكير الناقد " لأنه بهذا الكتاب ، كان يعي أنه إنما يفتح مجالاً جديداً للدراسات حول التفكير الناقد في العالم العربي، يقول محمد السيد: إلى عهد جدّ قريب، اقتصر تدريس مهارات التفكير الناقد في أغلب جامعات العالم على تدريس مساق في علم المنطق الصوري، يغمر المتلقين في فيض من القواعد الرمزية، ويخفق في إكساب تلك المهارات. ولئن مكّن هذا المساق دارسيه من التعرف على سبل تجنب بعض الأغاليط المنطقية، فإنه يعجز غالبا عن جعلهم قادرين على الدفاع عن وجهات نظرهم وتفهم وجهات النظر التي يعترضون عليها. وكما يقر جاكوب هنتيكا، أحد أبرز أعلام المنطق المعاصرين: كان المنطق في الأصل دراسة للتفوق في التفكير، لكنه صار مجرد دراسة لكيفية تفادي الوقوع في الأخطاء في المنطق، عوضا عن حفاظ المرء على فضيلته المنطقية، إذ يتم تخصيص معظم الوقت لتعريف الطلاب بقواعد استدلالية لا تعدو أن تكون قواعد احترازية لتفادي الأوهام والضلالات، وتفشل من ثم في تبيان كيف يفكر الناس، وكيف يتوجب عليهم أن يفكروا .

وتماما كما أن المرء لا يتقن لعبة الشطرنج بمجرد معرفة قواعدها، وإن تسنت له معرفة متى يتم اختراقها، فإن تعلم قواعد القياس المنطقي كما يري محمد السيد لا يضمن تنمية مهارات التفكير الناقد، وإن أمكن توظيفها في الكشف عن بعض الحجج الفاسدة. ثمة حاجة ماسة إلى الدراية باستراتيجيات تقحم المتعلم في عملية التفكير، ولا تقتصر على تطبيق قواعد شكلية بطريقة آلية صرفة.

معظم المعارف البشرية، التي تشكل قوام الحياة البشرية، استدلالية من حيث بنيتها، فالمرء كما يري محمد السيد لا يقف بنفسه على كل معارفه، بل يخلص إلى كثير منها استنادا إلى معارف أخرى استقاها إما من خبرات مباشرة أو معتقدات استدل عليها استدلالا. ولأن كثيرا من الاستدلالات البشرية تعاني من اختلالات جمة، ثمة حاجة إلى علوم تعين على التيقن من صحة ما نخلص إليه من نتائج، أو ترجيح صحته على أقل تقدير. هذا هدف العلوم المنطقية على وجه العموم. وعلى وجه الخصوص، فإن الوصول إلى قرار مستنير بخصوص أكثر النتائج وجاهة غاية كل تفكير ناقد.

إن التفكير الناقد نشاط مقلق بطبيعته، فهو كما يري محمد السيد محاولة لامتحان افتراضات نقرها أو نصادر عليها أو نسلك بمقتضاها. غير أن الناس لا يرغبون في أن تمتحن افتراضاتهم وتبتلى تصرفاتهم أكثر مما يجب، ولا يروقهم ـ على حد تعبير إزيا برلن ـ أن تصبح جذورهم بادية في العراء. معظم البشر، فيما ينبهنا رسل، يفضلون الموت على التفكير، غير أن الحياة غير المتفكرة ليست بشرية بأي حال.

ثمة مبدأ يضمره كل تفكير ناقد، مؤداه كما يقول محمد السيد أن الحقيقة ليست في حوزة أحد، وأن قيمة الفكرة إنما تكمن في وجاهة ما تؤسس عليه من أسباب، وأن الحوار مع الآخرين أفضل سبيل لفهمهم والإفادة من تجاربهم. على هذا النحو يعد مساق مهارات التفكير الناقد مشروعا تنويريا يكرس قيم العقلانية والموضوعية والتعددية والتسامح الفكري. التغاضي عن رأي الآخر، إسكاته أو التقليل من شأنه لمجرد أنه لا يتسق مع ما نقر من معتقدات، جريمة في حق أنفسنا قبل أن يكون جريمة في حقه.

إن بداية، القضايا التي يفترض أن يسهم التفكير الناقد في حسم أمرها كما يري محمد السيد قضايا خلافية في سوادها الأعظم، إذ لا جدوى عادة من إعمال المرء مهاراته النقدية في مسألة يتفق في الحكم عليها مع الآخرين. الحال أنه كلما كانت المسألة أكثر خلافية، كانت أدعى لإعمال المهارات النقدية.

من منحى آخر، فإن الدراية بأهم القضايا التي تشغل المجتمع الغربي المعاصر كما يقول محمد السيد أمر ضروري لثقافتنا العربية والإسلامية، سواء اعتبرت نفسها في صراع مع ذلك المجتمع، أو حاولت إقامة حوار حضاري معه، أو تطلعت إلى محاكاة بعض أنظمته ومؤسساته وسبل عيشه. لم يعد الانفتاح الثقافي الذي يشهده العالم المعاصر يتيح المجال للانكفاء على الذات والتشرنق حول مشاغلها، كما أن المجتمع "الآخر"، مهما اختلفنا معه في رؤيته للواقع، يظل بشريا، والقضايا التي تؤرقه، مهما اختلفنا معه في سبل حسمها، تظل إنسانية.

ينضاف إلى هذا أن الثقافة الغربية كما يري محمد السيد أكثر جرأة في نقاش قضاياها، وأكثر حرصا على إعمال ملكات التفكير الناقد في تناولها. حسبنا أن نطّلع على الصحف الغربية لنقدر مدى الاهتمام الذي توليه تلك الثقافة لسرد الحجج والأدلة، ونستشعر المسحة الارتيابية التي تكتنف ما تصدر من أحكام. في المقابل، تحشد صحافتنا العربية بالأحكام الجزمية، وتحفل بالتعبيرات الإنشائية والخطابية، والمسكوت عنه فيها أكثر مما يقال. وبطبيعة الحال، ثمة استثناءات لافتة، في الصحافتين العربية والغربية، تلزمنا بإبداء بعض التحفظات على هذا الحكم، لكنها تظل استثناءات بمقتضى الطابع العام الذي تتسمان به.

ويمكن أيضا عدّ عناية ما قام بترجمته محمد السيد بقضايا تشغل المجتمع الغربي المعاصر دون أن تشغل مجتمعنا منقبة تحمد له لا مثلبة يلام عليها، كونها تمكن من ولوج عملية التفكير الناقد عبر دروب ميسرة نسبيا. ذلك أن الخوض في قضايا لا تستثير الحفائظ ولا تستنفر العواطف ـ لأنها منعزلة عنا بدرجة أو أخرى ـ إنما يسهم في تبيان كيف أن هناك أوجها متعددة ومغايرة للثقافة والعيش والحياة، أوجها لا تقل شرعية من حيث إنسانيتها عن تلك التي ألفناها. الثقافات المختلفة رؤى متباينة في الواقع، لكن العالم نفسه لا يتشبث ضرورة بأي منها، وإن تشبث بأي منها، فإننا نجهل هوية ما تشبث به. الحال أننا بتناول قضايا تشغل أمما أخرى، تأسس الانشغال بها على قائمة مختلفة من الأولويات، إنما نسهم في شحذ رباطة الجأش في مواجهة ما ننكر من قضايا، ونتعلم كيف نجادل الآخرين دون مصادرة على تعاليم نجزم بصحتها. وكما يقول هنري برجسون، فإن صفاء الذهن يستدعي قطعية مؤقتة مع العرف المفيد. هذه هي روح التسامح الفكري التي يكون هذا المساق أنجز الكثير لو أنه اقتصر على تكريسها.

ويطول بنا المقال غير أني لا أملك في نهاية حديثي عن الدكتور محمد السيد إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري مني لهذ الرجلٍ العظيم الذي لم تغيره السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم