شهادات ومذكرات

جلال أمين وأكذوبة الديمقراطية

محمود محمد عليتعلمت من خلال كتابتي في السير الذاتية، أن حياة المفكر مليئة بتفاصيل صغيرة وكبيرة، وعندما  أكتبها أجد نفسي مستعبدا أمور كثيرة في حياته، فهي ليست مهمة بالنسبة لي أو لا تهم الناس كما أعتقد، وبالتالي فإن مثلي هنا كمثل النحات الذي ينحت قطعة من حجر، ينحتها كمن يكشف عن سر في منحوتته لاستخراج ما هو مهم بالنسبة لي، ثم أزيل الأجزاء غير المهمة كما أتخيل . وعندما أتحدث عن الدكتور جلال أحمد أمين أروي ما يخصي من أمر هذا الرجل، فأنا لم أعرفه ولم أحتك به إلا عندما طلب مني أستاذي الدكتور نصار عبد الله بأن أرشحه لجائزة النيل (بوصفي كوني رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة أسيوط)، وهنا بدأت أتواصل معه وأقرأ كتبه وفكره وأشهد الله أن جلال أمين قد لعب دوراً مؤثراً في تشكيل عقليتي السياسية، فلقد أخرجني هذا الرجل من إسار الاكاديمية القحة في الفلسفة (وبالأخص المنطق وفلسفة العلوم) إلي أن أكتب وأصوغ أروع كتاباتي في حروب الجيل الثالث والرابع والخامس والفكر السياسي الإسلامي ..الخ.

والدكتور جلال أمين حالة فريدة في فكرنا العربي، ويعد من أكفأ المفكرين بين أبناء جيله، ويتميز بمقدرة فريدة في الوصول المباشر إلى قلب القارئ، فهو الإنسان الذي لا يماثل أحد غيره، ولا يماثله غيره، وفقرة من أعماله تبين لك سمة الصدق التي لا تغيب عنه مفكراً وإنساناً، هو موسوعي المعرفة، ويمتلك القدرة على التواصل مع الآخرين، ومشتبك دائماً مع الحياة اليومية، ولم يهرب في أي مرحله من مراحل حياته من أداء مهمته كناقد ومثقف موسوعي.

وقد وصفه عبد الله السناوي (في مقاله بعنوان جلال أمين: ظاهرة فريدة لن تتكرر) بأنه ظاهرة فريدة في الحياة الثقافية والفكرية المصرية، مثقف موسوعي، مُدقق في فلسفة الحياة، يصعب تصنيفه سياسًا، لكن يمكن تصنيفه بأنه عروبي، ويميل إلى تيار اليسار، فبالرغم من أنه درس الاقتصاد، وأحد المفكرين القليلين في آخر 40 سنة على الأقل، إلا أنه كان يهوى علم الاجتماع والظواهر الاجتماعية التي تحدث في مصر، فأحد مؤلفاته كتاب "ماذا حدث للمصريين؟". وأكد أنه دائما كان يناقش الظواهر الاجتماعية التي تعبر عن حركة المجتمع، فكتاباته كانت تميل إلى النظريات الاجتماعية والتي أكسبته شعبية كبيرة في أوساط القراء. وأوضح السناوي، أن "جلال أمين" كان دائما يناهض الكيان الصهيوني، خاصة اتفاقية كامب ديفيد، كما رفض الهيمنة الاقتصادية والفكرية للولايات المتحدة الأمريكية فهو شخصية فريدة لن تتكرر، من حيث درجة الاهتمام والتفكير ونوعية الكتابات والاهتمام بالظواهر الاجتماعية.

كما وصفه الدكتور نصار عبد الله (في مقاله بعنوان الدكتور جلال أمين: صورة من الذاكرة) فيقول: الكثيرون من أبناء جيلي من خريجي قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية مدينون للدكتور جلال أمين بالكثير، فلقد أسعدنا الحظ فى عام 1966 بأن يُدرس لنا لأول مرة فى تاريخ الكلية مادة: "تاريخ الفكر الاقتصادي"،... ومنذ المحاضرة الأولى شعرنا جميعا بأننا إزاء نموذج نادر يصعب أن يتكرر، ليس للأستاذ الجامعي فحسب، وإنما أيضا للمثقف واسع الثقافة، وكذلك للمفكر الحر النزيه الذى لا يقيم وزنا ولا يحسب حسابا إلا للحقيقة العلمية وحدها، وفوق ذلك وأهم من ذلك بالنسبة لنا أنه كان يقدم مادته العلمية في أسلوب بالغ الجاذبية والتشويق تجعلها أشبه ما تكون بالعمل الفني الممتع دون أن تفقد مع ذلك شيئا من دقتها الأكاديمية!!.. وكثيرا ما كان يوجه إلينا أسئلة توقظ الذهن وتشحذ التفكير ولا تقل جاذبية عن الإجابات التي كان يقدمها لنا إذا ما عجزنا عن الإجابة".

ولد جلال أمين 1935 من القرن الماضي، ووالده هو الكاتب الشهير أحمد أمين (صاحب المؤلفات ضحي الإسلام وفجر الإسلام. الخ)، وقد دخل جلال أمين المدرسة في عمر صغير يبدأه في روضة الأطفال ومكث فيها ثلاث سنوات من سن 5 إلي 8 سنوات ثم دخل مدرسة مصر الجديدة الابتدائية الحكومية بشارع العروبة، ثم المدرسة النموذجية، ثم دخل المدرسة الثانوية وحصل علي المركز الأول في المملكة المصرية وكان ذلك 1951 وكنت حاصل علي 83%  وفي الجامعة دخل كلية الحقوق بعد أن تحصل علي الدرجة الأولي عام 1955، وانتهي به الأمر في دراسة الاقتصاد بعد أن سنحت له الفرصة السفر إلي لندن لدراسة للاقتصاد، حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة لندن. ثم شغل منصب أستاذ الاقتصاد بكلية الحقوق بجامعة عين شمس من 1965 إلى 1974 وعمل مستشاراً اقتصاديا للصندوق الكويتي للتنمية من 1974 إلى 1978، كما عمل أستاذاً زائراً للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا من 1978 إلى 1979 وأستاذاً للاقتصاد بالجامعة الأمريكية بالقاهرة من 1979 وحتى وفاته في الخامسة والعشرين من شهر سبتمبر 2018 بعد صراع مع المرض.

وللدكتور جلال أمين كتابات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال : كتاب وصف مصر في نهاية القرن العشرين، وكتاب عولمة القهر، وكتاب عصر الجماهير الغفيرة، وكتاب عصر التشهير بالعرب والمسلمين، وكتاب العولمة، وكتاب العرب ونكبة الكويت، وكتاب مكتوب على الجبين: حكايات على هامش السيرة الذاتية، وكتاب مصر والمصريون في عهد مبارك 1981 إلى 2008، وكتاب ماذا حدث للمصريين؟، وكتاب خرافة التقدم والتأخر، وكتاب العالم في 2050، وكتاب شخصيات مصرية فذة، وكتاب فلسفة علم الاقتصاد، وكتاب الدولة الرخوة، وكتاب قصة الاقتصاد المصري، وكتاب ماذا حدث للثقافة في مصر، وكتاب المثقفون العرب وإسرائيل، وكتاب محنة الدنيا والدين في مصر، وكتاب ماذا علمتني الحياة، وكتاب عصر الجماهير الغفيرة، علاوة علي الكثير من المقالات التي نشرت في كثير من الصحف والجرائد... وهلم جرا.

آراء وأفكار الدكتور جلال أمين تحظى باحترام الكل في مصر والعالم العربي نظرًا إلى أنه مفكر مستقل بمعنى الكلمة، ولما يتميز به فكره من إبداع وجرأة وبعد نظر. مؤخرا، فاز الدكتور جلال أمين بجائزة السلطان قابوس للثقافة والفنون والآداب في مجال الدراسات الاقتصادية.

والحديث عن جلال أمين متشعب وطويل، ولكن استوقفتني كلامه حول الديمقراطية، فهو يري أن الديمقراطية تمثل أكذوبة، حيث كان يعتقد أنه عبر تاريخ الإنسانية فإن صاحب السلطة يسيطر علي الأقل قدرة، وعبر العصور دائما الذي لديه القدرة والسلطة علي قهر الآخرين يقهرهم، وحتي ديمقراطية اليونان والتي يضرب بها المثل كانت تستخدم لقهر العبيد والعبيد ليسوا مشتركين في لعبة الديمقراطية، وفي العصور الوسطي كان السيد الاقطاعي يسيطر علي الباقين، وفي ظل الرأسمالية أصبح صاحب المال هو الذي يسيطر .

وهنا يتساءل جلال أمين ماذا حدث؟ يعتقد جلال أمين أن التطور التكنولوجي للتكنولوجيا أعطي سلطة وقدرة علي القهر لمؤسسات جديدة، منها الشركات متعددة الجنسية أو الشركات العملاقة أو الشركات التجارية أو كل من له مصلحة في غسيل المخ فأصبح القهر ألآن يأخذ صورة ليس من خلال البوليس وإنما من خلال وسائل أخري، فالديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات أكذوبة يستخدمها العالم وتروجها تلك الدول العظمى ومؤسساتها لتحقيق أهداف أخرى غير التي تعلنها، وقد يتعجب البعض من هذا الرأي، لكنه حقيقي وأؤمن به 100%، لا توجد ديمقراطية ولا حريات في العالم كله، بل العكس تماما، فالعالم أصبح يسير بكل قوة في عكس اتجاه الديمقراطية».

ولتوضيح يقول جلال أمين :"كم تغيرت الدنيا منذ كنا فى صبانا ومطلع شبابنا نتعلم ألف باء السياسة. كان هذا فى منتصف القرن الماضي، عندما اعتنقنا أفكارا عن الحرية والديمقراطية تبدو الآن ساذجة للغاية. لم يكن السبب مجرد صغر السن وقلة الدراية والتجربة، بل كان من الأسباب أن العالم كان مختلفا جدا عنه الآن، فلم تعد الأفكار المقبولة (بل والصحيحة) حينئذ، مقبولة أو صحيحة اليوم . كنا نعتقد (وهكذا قال لنا الكتّاب والمحلّلون السياسيون) أن العقبات الأساسية أمام تحقيق الديمقراطية تتلخص فى حاكم مستبد، يفرض رأيه بالقوة، ويمنع أي معارضة، ويودع معارضيه السجون، إلى جانب شيوع درجة عالية من الفقر، تجعل الناس يقبلون الاستبداد في سبيل الحصول على لقمة العيش، ودرجة عالية من الجهل، تجعل الناس فريسة سهلة لأكاذيب الحكام، بل وتفقدهم القدرة على التمييز بين ما يحقق مصلحتهم وما لا يحققها. كان نظام الحكم في ظل الخلافة العثمانية حتى نهاية القرن التاسع عشر، أو فى ظل محمد على في مصر، في النصف الأول من ذلك القرن، مثالين واضحين للمعوقات الأساسية للديمقراطية: حاكم مستبد وفقر وجهل شائعان.

ثم يؤكد جلال أمين أنه مع حلول القرن العشرين أضيفت إلى عقبات الديمقراطية استخدام وسائل الإعلام فى خداع الناس وتضليل الناخبين. وكانت الأمثلة الصارخة على ذلك حتى منتصف القرن، استخدام جهاز جبار للدعاية من جانب ستالين فى روسيا السوفييتية، ومن جانب هتلر فى ألمانيا النازية، وموسولينى فى إيطاليا الفاشية. هكذا أصبح «غسيل المخ» أحد المعوقات الأساسية للديمقراطية، بالإضافة إلى ميل الحاكم للاستبداد، وإلى الفقر والجهل.

وهكذا كان الحال كما يري جلال أمين عندما بدأ وعينا يتفتح على ما يحدث فى العالم. نعم، كنا فى مصر ندرك أن هناك عاملا آخر مهما لابد أن يضاف إلى هذه العوامل، وهو الاحتلال الأجنبى، إذ كيف يمكن أن نتصور أن يسمح المحتل الأجنبي لشعب مستعمر بأن يحظى بحكومة ديمقراطية تعبر عن آمال الناس التى لابد أن تتعارض جذريا مع أهداف الاحتلال؟ ولكن من الواضح أن هذا لم يفت فى عضدنا، بل بدأنا نمارس مختلف طقوس الحكم الديمقراطي بمنتهى الجدية، منذ وضعنا دستور 1923، وحتى ثورة 1952، رغم خضوعنا طوال هذا الوقت للاحتلال البريطاني، فضلا عن شيوع الفقر والجهل بين ثلاثة أرباع السكان.

إلا أن الدكتور جلال أمين يري أنه منذ ذلك الوقت تغيرت الدنيا، فلم تعد لا شخصية الحاكم المستبد، ولا الفقر أو الجهل، ولا حتى الاحتلال الأجنبى معوقات شائعة فى طريق الديمقراطية. ومع هذا، فإن الديمقراطية تبدو وكأنها كالسراب، تبتعد عنا كلما ظننا أننا نقترب منه، ليس فى بلادنا فقط بل وأيضا فى تلك البلاد التى ابتدعت الديمقراطية، ونطمع فى تقليدها. إن القول الذى يتردد بين حين وآخر بأننا نعيش فى عصر ازدهار الديمقراطية، هو أقرب إلى الأكذوبة، بل هو أكذوبة كبيرة يصدقها للأسف عدد كبير من الناس فى بلادنا وبلادهم على السواء.

ويعطينا جلال أمين مثالا علي ذلك، فيقول : فلنأخذ أولا تلك البلاد «العريقة ديمقراطيا». نعم، لقد اختفت أو كادت تختفى تماما أمثلة الحاكم المستبد الذى تنحنى له الجباه، وينصاع الناس لأوامره، بل وكادت تختفى أيضا أمثلة الرؤساء الذين يجمع الناس على احترامهم وحبهم بما لهم من كاريزما وجاذبية شخصية. ففى نصف القرن الماضى لم تعرف بريطانيا مثلا سياسيا له مواهب وجاذبية ونستون تشرشل، ولا فرنسا رئيسا مثل شارل ديجول، ولا عرفت الولايات المتحدة رئيسا مثل جون كينيدى (بل ويلاحظ أن اختفاء أمثال هؤلاء الرؤساء والقادة ليس مصادفة بل له علاقة وثيقة بتطورات أخرى سوف أذكرها بعد قليل). لقد عرفت هذه البلاد وغيرها رؤساء لديهم من صفات الممثلين أكثر من صفات الزعامة الحقيقية، من أمثال تونى بلير فى إنجلترا، وجورج بوش فى أمريكا، وبيرلسكونى فى إيطاليا.

ثم يعلق جلال أمين علي ذلك فيقول يبدو إذن وكأن وجود حاكم قوى ومستبد كعقبة فى وجه الديمقراطية ظاهرة آخذة فى الزوال. ولكن العقبتين الأخريين (الفقر والجهل) قد تراجعتا بشدة هما أيضا، خلال المائة عام الماضية، وعلى الأخص خلال نصف القرن الماضي، ومع ما حدث من ارتفاع فى مستوى المعيشة وانتشار التعليم. فما الذى حدث إذن خلال الخمسين عاما الماضية، ليجعل المجالس النيابية فى هذه البلاد أقل أهمية بكثير مما كانت، وأعضاءها يفقدون الكثير مما كانوا يحظون به من احترام، ويجعل نسبة المشتركين فى التصويت فى الانتخابات تنخفض انخفاضا شديدا، ويزيد من جرأة الحكومات على اتخاذ قرارات لا تحظى بتأييد شعبى والاشتراك فى حروب لا تحظى برضا الرأى العام، بل ويعارضها ويتظاهر ضدها معظم الناس؟

ويعطينا جلال أمين أمثلة علي ذلك فيقول : فى البلاد الأقل عراقة فى الديمقراطية حدثت أشياء مماثلة. ففى روسيا لم يعد من السهل تصور ظهور حاكم له ما كان لجوزيف ستالين من استبداد وانفراد بالرأى، ولا أن يظهر فى الصين حاكم له صفات مثل ما كان لماوتسى تونج، لقد بعث سقوط الشيوعية فى روسيا، وما أصابها من ضعف فى الصين، آمالا كبارا فى أن يحل بالدولتين عصر جديد من الحرية السياسية، ولكن الحقيقة أن الذى ينخر بشدة فى عظام الديمقراطية فى الدول العريقة فى الديمقراطية فى الغرب، قد بدأ ينخر أيضا فى عظام النظام السياسى فى الشرق، حتى بعد سقوط النظام الشيوعى الصارم.

ثم يحاول جلال أمين أن يسقط ذلك علي الشرق الأوسط فيقول : أما بلادنا نحن، فقد كان من المحتم أن  تتأثر بما يحدث خارج حدودنا، مع بعض الاختلافات الناتجة عن طول عهدنا بالاستعمار والتبعية. لقد عرفنا حتى وقت قريب ظاهرة الحاكم المستبد، حتى بعد أن كادت الظاهرة أن تختفى فى الغرب. ولكننا منذ السبعينيات، عرفنا أيضا حكاما لهم صفات أقرب إلى صفات الممثلين منها إلى صفات الزعماء والقادة. ومع ذلك فقد استمرت محنة الديمقراطية عندنا، لعدة أسباب منها طبعا استمرار ظاهرتى الفقر والجهل، ومنها استمرار تبعيتنا لقوى خارجية، ولكن هناك سببا ثالثا هو الذى أريد أن أركز عليه وهو نفس السبب المسئول عن محنة الديمقراطية فى العالم ككل.

ويستطرد جلال أمين فيقول : خلال الأربعين عاما الماضية نمت ظاهرتان مهمتان، بينهما صلة وثيقة، وكان لهما تأثير بالغ على الحياة الاجتماعية والسياسية فى البلاد المتقدمة صناعيا، فى البداية، ثم انتشر تأثيرها فى منطقة بعد أخرى من العالم حتى شمل العالم كله، وكان من بين أثارهما إلحاق ضرر بالغ بالديمقراطية. ومنذ أوائل السبعينيات من القرن العشرين، التفتت الأنظار بشدة إلى ظاهرة أطلق عليها اسم «الشركات متعددة الجنسيات»، وهى الشركات العملاقة التى يمتد نشاطها فى الإنتاج والتسويق، إلى مختلف أطراف الأرض، ومن ثم يصعب نسبتها إلى دولة معينة أكثر من نسبتها إلى أخرى، والتفتت الأنظار إلى نموها السريع وضخامة حجم نشاطها حتى فاق حجم بعضها حجم إنتاج دول بأكملها.

ويوضح جلال أمين : لم تكن ظاهرة الشركات العملاقة جديدة على العالم. فشركة بريطانية كشركة الهند الشرقية يعود نشاطها فى خارج حدود بريطانيا إلى أكثر من ثلاثة قرون. ولكن الأمثلة كانت محدودة فزادت وتضاعفت. وكانت الشركة تخضع للدولة الأم التى  نشأت فيها وتلتزم بسياستها، فأصبحت تتحدى حكومة دولة المنشأ وتتجاهل المصلحة القومية. بدأ الكلام إذن يكثر عن تضاؤل سلطان الدولة فى مواجهة سلطان الشركات العملاقة، وعن خضوع السياسة، أكثر من أى وقت مضى، لإدارة هذه الشركات بدلا من العكس. وأصبح الدبلوماسيون المنتشرون فى الدول المختلفة، يعتبرون من أهم مهامهم، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، تحقيق مصالح هذه الشركات. وأصبح من الممكن أن نقول الشىء نفسه عن الهيئات الدولية. الدولة تضعف والشركات تقوى، والولاء للأمة يضعف فى مواجهة تيار العولمة. فما الذى يمكن أن نتوقع أن يحدث للديمقراطية السياسية؟ البرلمانات تُنتخب، والأحزاب تتنافس، ولكن الحقيقة أن محادثات خفية تجرى بين السياسيين وممثلى الشركات (سواء كان ممثلو هذه الشركات سياسيين أيضا أو لم يكونوا)، فلا تُلقى هذه المحادثات بالا للمناقشات البرلمانية، وتنتهى بقرارات لم يحددها أى حزب ابتداء، بل أصبحت هى التى تحدد اتجاهات الأحزاب (بما فى ذلك قرارات بشن حرب لصالح هذه الشركات). شعر الناس بذلك وإن لم يعترف صراحة به فأخذت نسبة الاشتراك فى التصويت فى الانتخابات تتضاءل، وفقدت المناقشات البرلمانية والخلافات السياسية بين الأحزاب الكثير من أهميتها، بل لقد تضاءلت الاختلافات بين الأحزاب المتنافسة (لنفس الأسباب)، وتحولت هذه الاختلافات، أكثر فأكثر، إلى اختلافات تافهة، كاختلاف درجة جاذبية رؤساء الأحزاب، أو الاختلاف حول قضايا بعيدة الصلة بالسياسة، كالموقف مثلا من إباحة أو حظر الإجهاض، أو إباحة أو حظر الزواج المثلى...الخ.

ثم يوضح لنا جلال أمين حقيقة مهمة بالنسبة لكذب الديمقراطية فيقول : استمر بالطبع الزعم بأن الشعب هو السيد، وأن القرارات الأساسية تُتخذ بجميع الأصوات، وان الفرد هو الذى يختار حكامه، ويفرض إرادته بكل حرية فى ميدان السياسة، كما أنه يختار بمطلق الحرية بين السلع المعروضة عليه فيختار أفضلها. ولكن الحقيقة أن هذه الحرية السياسية أكذوبة كبيرة، كما أن حرية المستهلك فى اختيار أكثر السلع تحقيقا لمصلحته، فى ظل وسائل الدعاية والإعلام المختلفة، هى أكذوبة كبيرة أخرى.

لقد انتقلت هذه التطورات إلى بلادنا بدرجات مختلفة كما يقول جلال أمين، منذ بدأ تطبيق السياسة المعروفة باسم الانفتاح الاقتصادي (والتي لم تنتهجها دول العالم الثالث بمطلق حريتها بل فُرضت عليها فرضا)، وأصبح اتخاذ القرارات الأساسية فى بلادنا يخضع، أكثر فأكثر، لمصالح وإرادة الشركات العملاقة، تماما مثلما حدث فى الدول «العريقة ديمقراطيا»، مع اختلاف فى درجة الخضوع بين دولة وأخرى، ولكن المسيرة هى فى كل مكان فى نفس الاتجاه.

هكذا أصبح العائق الأساسي أمام الديمقراطية السياسية فى بلادنا كما يقول جلال أمين، مثلما هو فى بلادهم، ليس الحاكم القاهر المستبد، (رغم ظهوره بين حين وآخر)، وليس هو الفقر أو الجهل (رغم استمرارهما فى كثير من البلاد)، وإنما أصبح العائق الأساسي هو سطوة الشركات العملاقة التى يساعدها فى ترسيخ هذه السطوة، نمو ظاهرة المجتمع الاستهلاكي. نحن لا نعيش للأسف فى عصر ازدهار الديمقراطية. كل ما حدث هو حلول مستبد جديد محل مستبد قديم.

وفي نهاية حديثي لا أملك إلا أن أقول رحم الله جلال امين الذى تعلمت منه كثيرا وما زلت أتعلم حتى بعد رحيله ... رحم الله جلال أمين الذى ما زالت ذكرياتنا معه، وما زالت أعماله وإنجازاته.. وسوف تظل باقية. رحم الله جلال أمين وغفر له، ذلك أنه لا يبقى من المبدع رغم كل شىء إلا الإبداع الجميل، ولقد كان إبداعه جلال أمين جميلاً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم