شهادات ومذكرات

علي بن عيسي الرماني فيلسوف النحو العربي

محمود محمد عليكان أبو الحسن علي بن عيسي الرماني (ت:384هـ) متقننا في علوم كثيرة، منها النحو، واللغة والعروض، والفقه، والمنطق، والنجوم، والكلام علي مذهب المعتزلة  (132). وقد ظهر أثر هذه الثقافات الواسعة في مؤلفاته التي تجاوزت المائة، حيث تناولت موضوعات: النحو، واللغة، والقرآن، والفلسفة، والكلام. ومن الكتب التي وضعها في الكلام والاعتزال: "مقالة المعتزلة" و"الرد علي الدهرية" و"صنعة الاستدلال"، و"أصول الجدل"، و"أدب الجدل" و" الرسائل في الكلام" و"جوامع العلم في التوحيد" . وكان من عنايته بهذه العلوم الكثيرة ووضعه فيها الكثير من الكتب، أن أصبح معروفاً بـ "الجامع" و" صاحب التصانيف المشهورة في كل فن .

وقد ولِدَ الرماني في سنة 296 هـ ما يوافق 909 م، ويعود نسبه إلى سامراء، ومكان ولادته مختلف عليه، وكلمة الرماني في اسمه قد تشير إلى قصر الرمان وهو قصر معروف بمدينة واسط، أو أنَّها تُشِير إلى مدينة الرمان على رأي من يقول بولادته في تلك المدينة، وكان يُعرَف أيضًا بالوراق والإخشيدي.

تذكر بعض المصادر أنَّ الرماني ولد في مدينة بغداد، بينما تذكر مصادر أخرى أنَّه ولد في مدينة سامراء أو الرمان ثُمَّ انتقل في صغره إلى بغداد. نشأ الرماني في بغداد، وأخذ النَّحو عن الزجاج وابن السراج، والعربية عن أبي بكر بن دريد، وعلوم الدين والعقيدة عن ابن الأخشيد المعتزلي.

ويُعد واحداً من أشهر نحاة المدرسة البغدادية، وكان يميل إلى آراء نحاة البصرة، ولسيبويه - إمام نحاة البصرة - تأثير هائل عليه، إلا أنَّه انتهج أسلوباً فريداً في النَّحو، فكان تعامله مع المسائل النَّحوية مشحوناً بالفلسفة والمنطق، حتى قال أبو علي الفارسي: «إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله فليس معه منه شيء»، وقال أحد الأدباء: «كنا نحضر عند ثلاثة مشايخ من النحويين، فمنهم من لا نفهم من كلامه شيئاً، ومنهم من نفهم بعض كلامه دون البعض، ومنهم من لا نفهم جميع كلامه، فأما من لا نفهم من كلامه شيئاً، فأبو الحسن الرماني، وأما من نفهم بعض كلامه دون البعض فأبو علي الفارسي، وأما من نفهم جميع كلامه فأبو سعيد السيرافي». اشتهر الرماني في بغداد، وجلس في مجلسه عدد من الطلاب، نَبَغَ منهم أبو القاسم الدقيقي، وكان أبو القاسم خليفته بعد وفاته. اشتغل الرماني بأمور الفكر والعقيدة، وكان معتزلياً في عقيدته، وله تفسير مشهور للقرآن، وتُفِيد كثير من المصادر أنَّه كان شيعياً، إلا أنَّه لم يكن إمامياً في تشيعه، غير أنَّ روايات عنه تُفِيد خلاف ذلك. تُوفِّي الرماني في 11 جمادى الأول من سنة 384، ما يوافق 994 من التقويم الميلادي، عن عمر 85، أثناء خلافة القادر بالله

لقد كان من مزج الرماني لثقافات عصره،وخلطه لها أن تداخلت عنده ألوان العلوم التي بحث فيها، حتي غدت ممسوخة مشوهة، فأنكرها أصحاب الاختصاص فيها علي أيامه، يقول أبو حيان التوحيد (ت: 414هـ) فيه :" .. وأصحابنا يأبون طريقته . وكان "البديهي الشاعر" يحط عليه، ويقول فيما حكاه أبو حيان : ما رأيت علي سني وتجوالي وحسن انصافي لمن صبغ يده بالأدب، أحدا أعري من الفضائل كلها، ولا أشد ادعاءً لها من صاحب " الحدود " .. راجعت العلماء في أمره، فقال المتكلمون، ليس فنه في الكلام فننا، وقال النحويون : ليس شأنه في النحو شأننا، وقال المنطقيون : ليس ما يزعم أنه منطق منطقاً عندنا . وقد خفي مع ذلك أمره علي عامة من تري " .

ولم يكتف  " أبو حيان التوحيدي "  بذلك، بل سعي إلي وصفه بأنه " عالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق وعيب به "، وعقب علي ذكر المنطق بأنه كان له منحي خاص، غير منحي أصحاب هذا العلم المنقطعين له فقال " وعيب به " إلا أنه كذا، ولعل الصواب : لأنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفرد صناعة وأظهر براعة " .

وقد ظهر هذا واضحاً جدا في شروحه لكتاب سيبويه، ولمقتضب المبرد ولأصول ابن السراج، وهي الشروح التي كانت معرضا لأساليب الجدل والاحتجاج وصورة ناطقة بغلبة المنطق عليها وبشدة تأثر مصنفها، مما حمل معاصره " أبا علي الفارسي " علي انتقاده بقوله : " إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس منه شئ، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شئ " .

وقد علق أبو حيان التوحيدي نقلا عن السيوطي علي ذلك بقوله :" النحو ما يقوله أبو علي، ومتي عهد الناس أن النحو يمزج بالمنطق، وهذه مؤلفات الخليل وسيبويه، ومعاصريهما، ومن بعدهما بدهر، لم يعهد فيه شئ من ذلك ".

ومن كل ما سيق يتضح لنا أن الرجل كان له مذاهب خاصة في جملة العلوم التي شارك فيها، وما يعنينا إنما هو آثار المنطق الأرسطي في منهجه النحوي، ويظهر أن أول ما استهواه من المنطق إنما هي فكرة الحدود، وقد وضع في هذا كتاب " الحدود في النحو " الذي يعرض فيه لمعاني الأسماء التي يحتاج إليها في النحو بالتعريف والتحديد، وتنقسم هذه الأسماء أو هذه المصطلحات التي يوردها الرماني في هذا الكتاب إلي مصطلحات منهجية مثل القياس والبرهان والحكم والعلة والغرض والسبب والعامل، ومصطلحات منطقية مثل الجنس والنوع والنقيض والخاصة والمادة والصورة، ومصطلحات نحوية مثل الاسم والفعل والحرف والبناء والتغيير والتصريف والجملة، ومصطلحات بلاغية مثل الحقيقة والمجاز والاستعارة " .

وأول ما يلاحظ هنا أن الرماني ينادي بأن النحو محتاج للمنطق، وبذلك تصبح المفاهيم المنطقية في رأيه أمرا يحتاج إليه النحو، كما يلاحظ أن تعريفات الرماني لهذه المفاهيم تعتمد مع الجوانب التي يمكن استغلالها في النحو، وليس كل عناصر هذه المفاهيم كما عرفت في مصادرها المنطقية، ولعل ذلك يفسر لنا هذه الرواية التي ينفي فيها المناطقة أن يكون الرماني واحدا منهم .

إن من يقف علي " شرح كتاب سيبويه " للرماني لا يسعه إلا أن ينكر أن يكون هذا الشرح مادة نحوية، إذ يجد نفسه أمام مادة ليست مشحونة بألفاظ المنطقيين وتراكيبهم وحدودهم فحسب، بل هي مؤسسة وقائمة علي منهج البحث المنطقي من حيث البناء والتقسيم والتعليل والاستدلال    فمثلا يعرف الرماني " القياس " بقوله : " القياس جمع بين أول وثان يقتضيه في صحة الأول صحة الثاني، وفي فساد الثاني فساد الأول "، وهذا التعريف يحتمل تفسيرين، إما أنه يشير إلي نظرية القياس الأرسطي فيكون الأول هنا هو المقدمات والثاني هي النتائج، فإذا صحت المقدمات صحت النتائج، وإذا فسدت النتيجة دلت علي فساد المقدمات، كما أنه يشير إلي نظرية القياس الفقهي التي تشابه نظرية التمثيل الأرسطي، فيكون الأول هو المقيس عليه والثاني هو المقيس، ولكن التعريف في كلتا الحالتين لا ينتمي انتماءً خالصا لإحدى النظريتين، فهو لا يساير نظرية القياس الأرسطية في مجموعها، حيث قد تنتج هناك نتائج صحيحة عن مقدمات كاذبة وكما أنه لا يساير نظرية القياس الفقهي لأن فساد المقيس لا يؤدي إلي فساد المقيس عليه، ولأنه لا يشير إلي فكرة الجامع بين المقيس والمقيس عليه، وهي فكرة أساسية في القياس  الفقهي .

وإذا انتقلنا إلي المفاهيم النحوية فإن أول ما نلاحظه أن الرماني قد استطاع أن يصوغ هذه المفاهيم صياغة منطقية، يبدو هذا واضحا من تعريفه لعلم النحو، حيث يقول " صناعة النحو مبنية علي تمييز صواب الكلام من خطئه علي مذاهب العرب بطريق القياس الصحيح "، وهو نفس الغرض من المنطق الذي بناه أرسطو وأكده فلاسفة العرب .

ومن العناصر المرتبطة بمفهوم النحو عند الرماني تعريفاته للعامل والإعراب والبناء والجملة والمعني واللفظ والكلام من تجرد وحصر للمحدود . فالعامل هو " موجب لتغيير في الكلمة علي طرق المعاقبة لأتلاف المعني والأعراب هو " تغيير آخر الاسم بعامل " . والجملة هي المبنية علي موضوع ومحمول للفائدة .

وتكاد تعريفات الرماني لأجزاء الكلام تكون أرسطية في جوهرها فهو يعرف الاسم يقول : الاسم كلمة تدل علي معني من غير اختصاص بزمان دلالة العيان " وعرف الفعل بأنه كلمة تدل علي معني من غير متخصص بزمان دلالة الإفادة من معناه في غيرها " .

أما إذا انتقلنا إلي الجانب التطبيقي من نحو الرماني ونعني به شرحه لكتاب سيبويه، فإننا نجد مبدأ التعليل يكاد يشكل صلب المنهج الذي أصطنعه الرماني في إعادة صياغة النحو العربي .

ومن أمثلة تعليلات للأحكام النحوية فكرة وجوب إتباع الصفة للموصوف : يقول الرماني " وإنما وجب في الصفة أن تتبع لأنها بمنزلة المكمل لبيان الأول، ومع أن الثاني فيها هو الأول... وقلنا هي مكملة لبيان الأول ليفرق بينها وبين الخبر الذي هو الأول، إلا أنه منفصل منه وليس معه بمنزلة اسم واحد " .

وكذلك تعليله لجواز أن يوصف الموصوف الواحد بصفات كثيرة لأنه يحتاج إلي تخصيص الموصوف بصفات كثيرة، إذا يكون بوصفين أخص منه بصفة واحدة، وثلاث صفات أخص منه بصفتين، وكأننا هنا أمام فكرة المفهوم والماصدق في المنطق الأرسطي، بحيث كلما زاد الماصدق قل المفهوم والعكس صحيح، وهي الفكرة التي تقوم عليها نظرية الحد المنطقي .

هذه هي بعض النماذج التي تبين مزج النحو بالمنطق عند الرماني، وهي أن دلت علي شئ تدل علي أن الرماني يعد بحق أكبر المناصرين لمزج النحو بالمنطق الأرسطي بعد ابن السراج.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم