شهادات ومذكرات

مع سائق أرمني في موسكو

ضياء نافعما ان جلست في سيّارة الاجرة، فاذا بسائقها يقول لي رأسا بعربية ركيكة ولكن مفهومة – (كيفك؟). اندهشت انا طبعا من سؤاله، واجبته مبتسما – (زوين)، فقال لي بالروسية، انه لم يفهم جوابي، واضاف انه كان يتوقع ان اقول له – (كويّس)، فضحكت أنا واوضحت له باختصار (صلب الموضوع !)، وهكذا بدأنا ندردش معا وبحيوية ومرح طوال الطريق، ورغم هذا المرح، فان المواضيع التي تكلمنا حولها كانت في غاية الاهمية والجديّة .

انه أرمني يسكن ويعمل في موسكو، وقد تعلّم عدة كلمات عربية من أصدقائه الارمن، الذين هربوا من سوريا . قال لي، ان هؤلاء الارمن يحنون للعودة الى سوريا ويعتبرونها وطنهم، رغم انهم واقعيا عادوا الى وطنهم الحقيقي ارمينيا، وان الارمن كافة قد هاجروا فعلا من سوريا، وهاجروا ايضا من العراق، ولم يبق اي ارمني في العراق الان، رغم ان اجيالا منهم قد ولدوا وعاشوا هناك عشرات السنين . ابتسمت أنا، وقلت له، ان معلوماته ليست دقيقة، وانها تعتمد على اقوال فلان وفستان ليس الا، فسألني رأسا، وهل تعرف انت عراقيين ارمن لا زالوا يعيشون في العراق ؟ قلت له، نعم اعرف الكثيرين منهم، وهم عراقيون مثلنا جميعا . نظر اليّ باندهاش، وقال، انه يفهم الان لماذا الارمن الذين هربوا من سوريا يريدون العودة من وطنهم ارمينيا الى بلد هجرتهم سوريا، وانها لظاهرة غريبة فعلا بالنسبة لامثاله من الارمن . قلت له، ان الارمن من اصدقائي في العراق عراقيون بكل معنى الكلمة، وانهم عاشوا ودرسوا معي في الاتحاد السوفيتي وعادوا الى العراق بعد انتهاء دراستهم ليعملوا ويعيشوا في وطنهم العراق، مثل معظم طلبتنا آنذاك، رغم انهم زاروا وطنهم الاصلي ارمينيا، وكانوا يقدرون ان يبقوا هناك طبعا، ولكنهم عادوا الى العراق . سألني مرة اخرى، وهل انت تعرف بعضهم شخصيا ؟ فقلت له، لقد درست معنا وفي كليتنا ارمنية عراقية، وتزوجت من عراقي وولدت بنتا اسمتها سيفان، وهي تسمية البحيرة الارمنية الجميلة كما تعرف، وعادت الى العراق مع زوجها وابنتها بعد ان تخرجت في جامعة موسكو . سألني السائق، وهل زوجها كان ارمنيا ايضا ؟ قلت له لا، انه عراقي عربي، فسألني رأسا، هل هو مسيحي؟ فقلت له لا، انه مسلم، فاندهش وسألني، وهل وافقت عائلتها على زواجها هذا، فقلت له، ربما لم يوافقوا كليا، ولكنها تزوجت قبل اكثر من خمسين سنة، وعندهم الان اولاد واحفاد، وهم لايزالون يعيشون في بغداد ضمن عائلة عراقية جميلة وعريقة، فقال، لو ان ابنته قررت الزواج بهذا الشكل لما وافق على ذلك ابدا، ضحكت انا، وقلت له، انني اعرف الكثير من الزواج المختلط في الاتحاد السوفيتي آنذاك، ومن بينهم زواج ارمنيات، فقال نعم، ولكن دون موافقة اهلهم كما يجب ان يكون الامر وحسب التقاليد الارمنية، وأضاف بحزن، بعد ان صمت قليلا، قائلا – لقد تعرّض الشعب الارمني الى حملات ابادة رهيبة، ويجب علينا الان - نحن الارمن - ان نحافظ على ما تبقى لنا، قلت له، ان الارمنية التي تتزوج غير الارمني تبقى ارمنية طوال حياتها، فقال نعم، هي تبقى ارمنية، لكن اطفالها لن يكونوا ارمن، اذ اننا لسنا مثل اليهود، الذين يعتبرون ان كل من يلد من امرأة يهودية هو يهودي بغض النظر عن جنسية والده او قوميته او دينه، وضحك وقال، ان اليهود شياطين، وقد وجدوا حلاّ لهذه القضية المعقدة جدا . 

عندما اقتربنا من العنوان المطلوب، قال لي هذا السائق، انه ممنون جدا من موقف العراقيين والعرب عموما تجاه الارمن، وان هذا هو رأي كل الارمن الذين يعرفهم في ارمينيا او خارجها، وانه لهذا لا يريد ان يأخذ منيّ اجرة سيارة الاجرة تعبيرا عن امتنان الارمن لنا . رفضت انا هذا العرض (الحاتمي!) من قبله، وقلت له، انك حتما تحتاج لهذا المبلغ البسيط منيّ ومن غيري من الركاب، للعيش في مدينة غالية مثل موسكو، فشكرني جدا على ذلك، وقال، انكم تتفهمون مشاكلنا، فنحن – ابناء الشعوب السوفيتية سابقا - نتصارع مع الحياة من اجل عوائلنا، كي نوفر لهم – وبالكاد – لقمة العيش الضرورية - ليس الا - في موسكو او في بلداننا هناك...

 

 أ.د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم