شهادات ومذكرات

العراقيون بجامعة موسكو في الستينيات ومصائرهم (7)

ضياء نافعنستمر في هذه الحلقة بالحديث عن الطلبة العراقيين في كلية الاقتصاد بجامعة موسكو . في الحلقة السادسة تكلمنا عن اول رئيس لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي المرحوم د. محمد علي الماشطة، الطالب في كليّة الاقتصاد، ونتحدث في هذه الحلقة عن الرئيس الثاني للرابطة، الطالب ايضا في كليّة الاقتصاد وهو المرحوم د. وجدي شوكت سري . وصل وجدي الى موسكو بعد عامين من وصولنا، والتحق بكليّة الاقتصاد بعد ان درس اللغة في الكلية التحضيرية . كانت هناك هالة كبيرة حوله باعتباره كان مناضلا شيوعيا في العراق ودخل السجون والمعتقلات بسبب عقيدته الشيوعية، وهكذا اصبح رأسا الرئيس الثاني لرابطة الطلبة العراقيين في الاتحاد السوفيتي، ولكن الفرق بينه وبين محمد علي الماشطة كان واضحا، اذ كان وجدي مغرورا ومتعجرفا ويهتم بمظهره الخارجي ودائم الحديث عن نفسه ونضاله عكس محمد علي الذي كان يمتاز بالبساطة المتناهية والتواضع والطيبة والابتسامة الدائمة، ولم يكن وجدي يتقن اللغة الروسية ولا يعرف خصائص المجتمع السوفيتي حوله مثل محمد علي الماشطة طبعا، وكان يحتاج دائما الى مترجمين عند تعامله مع الروس . أذكر مرة، عندما زار موسكو الشاعر محمد صالح بحر العلوم، دعوناه كي نلتقي معه في جامعة موسكو، وكان وجدي باعتباره رئيس الرابطة مدعوا طبعا . كان اللقاء في قاعة صغيرة في الاقسام الداخلية لجامعة موسكو، واشترينا قليلا من الفواكه والشربت البسيط كي نقدمها للجميع اثناء اللقاء، فاذا بوجدي شوكت سري يطلب ان تكون له مع بحر العلوم مائدة خاصة تمتاز عن موائد الطلبة، مائدة تحتوي على كذا وكذا من الطعام والشراب، وعندما اخبرناه بعدم امكانية ذلك، غضب وأخذ يهدد ويرعد ويزبد، وقال وهو يصرخ، انه رئيس الرابطة، وان كلمته لا يمكن ان نناقشها . بل يجب ان ننفذها . لم ننفذ طلباته طبعا، ولكن وجدي – مع ذلك - جاء الى اللقاء وجلس مع بحر العلوم بشكل طبيعي ولكنه كان متجهما، ولم يتكلم بتاتا. انتهت فترة وجدي لرئاسة الرابطة، وبقي طالبا في كلية الاقتصاد وحسب، ولكنه استمر طبعا كواحد من قادة التنظيم الشيوعي الطلابي، وبعد ان انهى الدراسة، عاد الى العراق وترك كل ارتباطاته السابقة وكل علاقاته مع زملائه واصدقائه القدامى اثناء مرحلة الدراسة، ورجع مرة اخرى في السبعينيات للدراسة العليا في جامعة موسكو وفي كليّة الاقتصاد طبعا، ولكنه كان يختلف جذريا عن تلك الشخصية السابقة بكل معنى الكلمة، وقد كنت انا بايفاد الى موسكو للمشاركة بندوة اساتذة اللغة الروسية وادابها في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية، ومررت لزيارة اصدقائي العراقيين القدامى بجامعة موسكو، فرأيتهم يلعبون كرة القدم في باحة الاقسام الداخلية، وتعجبت عندما رأيت وجدي بينهم وهم يهزأون بلعبه وتصرفاته، وقلت لاحدهم ذلك همسا، فاجابني ضاحكا، انك تنظر اليه بعيون الستينيات عندما كان (قائدا منتفخا!)، اما الان، فانه اصبح شخصا آخر تماما. تحدثت معه قليلا عندما لاحظني، وقال لي انه يعرف انني اعمل في صحيفة الجمهورية البغدادية، فتعجبت انا من قوله، وقلت له انني اعمل تدريسيّا في قسم اللغة الروسية بكليّة الاداب في جامعة بغداد، فاندهش وقال لي، انه قرأ مقالاتي شخصيّا في جريدة الجمهورية، فقلت له، انني انشر ترجماتي عن الروسية في صفحة آفاق، التي اسسها ويديرها الصحافي العراقي المعروف محمد كامل عارف خريج كلية الصحافة في جامعة لينينغراد، وان النشر في صفحة آفاق لا يعني انني اعمل في تلك الصحيفة، فصمت وجدي ولم يعلق بأي كلمة حول ذلك، وقد فهمت طبعا حتى من طبيعة حوارنا القصير هذا، انه اصبح شخصا مختلفا فعلا . وكان هذا آخر لقاء لي مع المرحوم د. وجدي شوكت سري وآخر دردشة معه .

ان المرحوم د. وجدي شوكت سري هو جزء لا يتجزأ من تاريخ الطلبة العراقيين في موسكو ومسيرتهم في الستينيات، جزء ايجابي وسلبي في آن واحد، ايجابي لانه أدّى دورا واضحا ومعيّنا في ادارة عمل الرابطة، اذ كان رئيسا لها لمدة سنة دراسية باكملها رغم بيروقراطيته وعنجهيته، وايجابيا ايضا لانه لم ينحدر في العراق (عندما ترك كل شئ) الى مواقع مضادة لافكاره السابقة التي تركها، وانما اكتفى بعزل نفسه كليّا عن كل ماضيه ليس الا، وهذا موقف شخصي بحت، ولكنه موقف اخلاقي ايجابي بحد ذاته، موقف يستحق عليه التقدير والاحترام بلا شك، اذ كانت هناك تجارب اخرى مع هؤلاء الذين تركوا مواقعهم الفكرية السابقة وتحولوا الى عناصر مضادة عدوانية وانتهازية، ولكن وجدي لم يكن هكذا ابدا .

ختاما، اود ان اشير، الى ان ارملته اتصلت مرة بعمادة كلية اللغات (وكنت انا معاونا للعميد آنذاك)، وقالت انها تريد ان تهدي للكلية القاموس الروسي – الانكليزي الكبير، الذي كان عند المرحوم زوجها، فرحبنا بها واستلمنا منها القاموس المذكور، وكان اسم وجدي شوكت سري مكتوبا على صفحته الاولى وبخط يده، وقد شكرناها على هذه المبادرة العلمية الطيبة، وترحمّنا على روحه، واودعنا القاموس في مكتبة قسم اللغة الروسية بكليتنا، المكتبة التي احترقت باكملها اثناء الاحتلال الامريكي للعراق عام 2003 .

 

أ. د. ضياء نافع

 

في المثقف اليوم