شهادات ومذكرات

حسن حنفي.. قصة عطاء لا تنتهي

محمود محمد عليترجع معرفتي بالدكتور "حسن حنفي" إلي أواخر ثمانينات القرن الماضي عندما كان يحاضرنا في السنة التمهيدية للماجستير بقسم الفلسفة في مادة "مصادر فلسفة العصور الوسطي" بكلية الآداب جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية؛ وخلال المحاضرات الأولي له، أدركت بوعي أنني أمام شخصية متميزة لأستاذ أكاديمي تختلف عن شخصيات كثير من الأساتذة غيره، حيث كانت  لشخصيته تلك الجاذبية الخاصة والحضور الثري الذي يقيم بينه وبين تلاميذه جسوراً من المحبة والاحترام والاحساس بالألفة العميقة، ومن هنا كان ذلك التأثير البالغ الذي تركه فينا حسن حنفي، خاصة بعد أن أدركنا أنه يمثل أهم  وأبرز المشتغلين المصريين في الفكر العربي والفلسفة المعاصرة.

وقد وصفه كثير من زملائنا بأوصاف كثيرة، فقال عنه الدكتور مصطفي النشار (في كتابه فلسفة حسن حنفي مقاربة تحليلية نقدية)  بأنه :" يعد واحداً من أهم فلاسفة العالمين العربى والإسلامي الآن بل وربما عبر العصور؛ فهو صاحب مشروع فكرى مهم ومؤلف موسوعى كبير يذكرنا بالفلاسفة المسلمين الأوائل".. كما وصفه النشار أيضاً بالفيلسوف الذي طاف العالم شرقاً وغرباً حاملاً رسالته التنويرية ومبشراً بها، إنه الذي أصبح في كل المنتديات الفكرية العالمية علامة بارزة علي أن في العالم العربي فلاسفة مبدعين ينبغي الاستماع إليهم والمناقشة الفكرية معهم، ويستحق انتاجهم الفكري التأمل وتقديم البحوث العلمية والدراسات الأكاديمية حولها ".

كما وصفه الصديق د. أحمد سالم فقال (في مقاله المنشور بحفريات تحن عنوان: التراث في فكر حسن حنفي) بأن : "حسن حنفي، بما له وما عليه، يمثل حالة خاصة في تاريخ الثقافة المصرية والعربية؛ ذلك لأنّه الأستاذ الذي إذا دخلت أرضه، واطلعت على ميراثه الفكري، فلن تخرج كما كنت، ذلك لأنّ حسن حنفي هو الأستاذ الرائد والمفكر الكبير الذي يترك بصماته على ذهنك، ويعلّم في وعيك، قد نتفق على الاختلاط الواضح في أعماله بين المعرفي والأيديولوجي، بين المفكر والزعيم، ولكن يُغفر له دوماً أنّه كان، وما يزال، المفكر المهموم بهموم وطنه على مدار عمره الأكاديمي المديد".

ولد الدكتور حسن حنفي في القاهرة العام 1935 وفيها نشأ وتعلم وحصل على البكالوريوس العام 1956 ثم سافر إلى فرنسا فنال درجة الدكتوراه من جامعة باريس (السوربون) العام 1966 وعاد ليعمل بقسم الفلسفة بآداب القاهرة حتى وصل إلى درجة أستاذ متفرغ.

علاوة على إتقانه أصول اللغة العربية فإنه يجيد الإنجليزية والفرنسية والألمانية، وهو ما مكَّنه من العمل كأستاذ زائر في عدد من الجامعات بالعالم، منها: جامعة تمبل (فيلادلفيا) 1971 1975، جامعة فاس (المغرب) 1982 ـ 1984، جامعة طوكيو (اليابان) 1984 ـ 1985 كما عمل مستشاراً علمياً لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو (1985ـ 1987). والسكرتير العام للجمعية الفلسفية المصرية. وهو كذلك نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية.

وفي لقاء معه على قناة دريم 2 برنامج العاشرة مساء مع المذيعة منى الشاذلي في أواخر القرن الماضي،  قال أنه انتمى للإخوان المسلمين في مرحلة الثانوية والجامعة وأنه كان زميلا للمرشد السابق مهدي عاكف في شعبة باب الشعرية، لكنه تحول فكريا، قائلا :" أن ملفه في وزارة الداخلية مصنف تحت عنوان "إخواني شيوعي"، وأنه يدعو إلى اليسار الإسلامي"، وقال أن " الكثير من الأتراك والماليزيين والإندونيسيين الإسلاميين استفادوا من أفكاره وأطروحاته".

استهل حسن حنفي مسيرته العلمية بنشر كتاب (المعتمد في أصول الفقه) لأبى الحسين البصري، وقد صدر في جزءين، بدمشق 1964. كما ترجم عدداً من الكتب أبرزها:

- نماذج من الفلسفة المسيحية" (الإسكندرية 1968).

- رسالة في اللاهوت والسياسة ـ اسبينوزا" (القاهرة 1973).

- تربية الجنس البشري ـ لسنج" (القاهرة 1977).

- تعالي الأنا موجود ـ سارتر" (القاهرة 1977).

وقد كتب حسن حنفي آلاف الصفحات محددا معالم مشروعه الفكرى الذى بدأ بكتاب «التراث والتجديد» ثم توالت المجلدات والأجزاء شارحة ومحللة الجوانب أو الجبهات الثلاث لهذا المشروع الفكري الضخم وكان آخر هذه المجلدات المجلد الذى صدر هذا العام 2018م تحت عنوان «التفسير الموضوعى للقرآن» واختتم به مشروعه الفكري الكبير فى التراث والتجديد فقد غطى به الجبهة الثالثة–جبهة الواقع، وصدر معه فى نفس العام كتابان أحدهما تحت عنوان « ذكريات » والثانى تحت عنوان «شخصيات وقضايا»؛ وبينما كان الأول مجرد ذكريات شخصية روى فيها جوانب وطرائف من حياته الشخصية متشابكة مع جوانب من مسيرته الفكرية الطويلة التى امتدت من عام مولده 1935م حتى الآن (وذلك حسب ما ذكره د. مصطفي النشار).

ومن مؤلفاته أيضا بالعربية : عرب هذا الزمان، وبين النص والواقع، وسلسلة "موقفنا من التراث القديم، والتراث والتجديد (4 مجلدات)، ومن العقيدة إلى الثورة، وحوار الأجيال، ومن النقل إلى الإبداع (9 مجلدات)، وموسوعة الحضارة العربية الإسلامية، ومقدمة في علم الاستغراب، وفيشته فيلسوف المقاومة، في فكرنا المعاصر، في الفكر الغربي المعاصر، وحوار المشرق والمغرب، ودراسات إسلامية، واليمين واليسار في الفكر الديني، ومن النص إلى الواقع، ومن الفناء إلى البقاء،  ومن النقل إلى العقل، والواقع العربي الراهن، وحصار الزمن.

وصدر له بالإنجليزية: الحوار الديني والثورة"، والإسلام في العصر الحديث، كما صدر له بالفرنسية مناهج التأويل"، وتأويل الظاهريات"، وظاهريات التأويل" .

والباحث المتصفح لتلك الكتابات الكثيرة للدكتور حسن حنفي يدرك أنه ذا طابع إحيائي وإصلاحي وثوري ضد الاحتلال تارة، وضد الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية الفاسدة تارة أخرى، كما يجده كذلك ذا طابع تحديثي تجديدي، ينطلق من الحاضر وما يختص به من حداثة وتجديد في الفكر والثقافة، ومن منظور معاصر يحرص الدكتور حسن حنفي على ضمان ملائمته مع المتغيّرات والمستجدات التي يشهدها واقعنا الحالي وهذ واضح جيدا في كتابه “التراث والتجديد – موقفنا من التراث القديم ” وهو مشروع كان يمثل البيان النظري لمشروع فلسفي ضخم يتمحور كما قال صاحبه حول : مُهمَّةُ التُّراثِ والتَّجديدِ حلُّ طَلاسِمِ المَاضي مرَّةً واحدةً وإلى الأَبَد، وفكُّ أسرارِ الموروثِ حتَّى لا تعودَ إلى الظُّهور. مُهمَّةُ التراثِ والتَّجديدِ التحرُّرُ مِنَ السُّلطةِ بكلِّ أنواعِها؛ سُلطةِ الماضِي، وسُلطةِ المورُوث، فلا سُلطانَ إِلَّا للعَقل، ولا سُلطانَ إِلَّا لِضرُورةِ الواقِعِ الذِي نَعيشُ فيهِ وتحريرِ وِجدانِنا المُعاصرِ مِنَ الخَوفِ والرَّهبةِ والطَّاعةِ للسُّلطة."

كما يُوصَفُ كتابُ "التراث والتَّجديد" بأنه "مانيفستو حسن حنفي"، إِذْ حدَّدَ فيهِ مَعالمَ مشروعِه الفِكري؛ لذا فلا بدَّ من قراءةِ البيانِ الحنفيِّ الأولِ قبلَ الوُلوجِ إلى مشروعِهِ الفِكري. طَرحَ حنفي مشروعَهُ " التراث والتجديد" - الذي يُعدُّ واحِدًا من أهمِّ المشاريعِ الفِكريةِ في العالَمِ الإسلاميِّ في العصرِ الحَديث — منذُ ثَمانينيَّاتِ القرنِ العشرين، وهو المشروعُ الذي أَفنَى فيه عُمرَهُ وبثَّ فيه عِلمَه وعملَه، حامِلًا على عاتقِهِ رُؤيتَه لتجديدِ التراث، مُنطلِقًا من دراستِهِ ومُحاوَلةِ فَهْمِه لإِعادةِ بِنائِه مرَّةً أُخرى من خلالِ عُلومِه، مُؤسِّسًا ما يُمكِنُ تسميتُه "أيديولوجيا الواقع". يَقومُ مشروعُ التراثِ والتَّجديدِ على ثلاثةِ مَحاوِر؛ الأولُ هو "مَوقِفُنا مِنَ التراثِ القَديم"، والثاني هو «مَوقِفُنا مِنَ التراثِ الغَرْبي»، أمَّا المحورُ الأَخيرُ فقد جاءَ بعُنوانِ «نَظرية التفسير".

ولقد فتح الدكتور حسن حنفي مشروعه "التراث والتجديد" وفلسفته على أكثر من صعيد  فهو يكافح على جبهات ثلاث، يبدي موقفه الحضاري ويؤسس لمنظومة قيّم ودلالات فكرية وفلسفية تبنّاها المشروع، جبهة التراث العربي الإسلامي والموقف منه وجبهة التراث الغربي الوافد والموقف منه وجبهة الواقع بكل أبعادها. فالجبهة الأولى والموقف منها جعل منه مفكراً إسلامياً تراثياً مبدعاً والجبهة الثانية والموقف منها جعله مفكراً غربياً أما الجبهة الثالثة والموقف منها جعله صاحب مشروع حقيقي وجريء في السياسة والاجتماع والأخلاق والحياة عامة. هذه الاستراتيجية مرتبطة بالعقل والنقل والواقع، لأن العقل هو الذي يعي ويقرأ ويحلل وينقد ويبني ويركب ويكشف ويغيّر ويطوّر ويجدد، يبني الواقع ويصنع التاريخ والحضارة. ولأنّ النقل وراء إنتاج الحضارة لأمة لها ماضي وتراث تاريخ ودين، وتأثير المنتجات الفكرية والعلمية للحضارة الإسلامية لازال يطبع نفوس أصحابها على الرغم من مرور الزمن عليها. ولأن الواقع يجد فيه صاحبه آماله ويعيش أحزانه، فيه حياته في جميع مستوياتها الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وقراءة المقولات الكبرى في الفلسفة التي يقوم عليها مشروع “التراث والتجديد” مقولة العقل ومقولة النقل ومقولة الواقع، وقراءة صلة هذه المفاهيم ببعضها البعض يدل بوضوح على ورودها بمدلولات متعددة ومتباينة تبعا لمرجعياتها، فهي أخذت نصيبها من التحليل في مستوى أرقى من الدقة والعمق والكفاية. لكنها تبقى دوما تعبر عن مواقف صاحب المشروع الفكرية والفلسفية والإيديولوجية والسياسية كما يغلب عليها الطابع التاريخي أحياناً والطابع التجريدي في أحيان أخرى على الرغم من أنّ المشروع يعطي الأولوية للواقع دون غيره(وذلك حسب قول أسماء بوبكر جيلالي  في مقاله "، التراث والتجديد بين قيّم الماضي ورهانات الحاضر.. قراءة في فلسفة “حسن حنفي” وفي مشروعه الحضاري").

ثم بعد ذلك انطلق الدكتور حسن حنفي من التيارات الليبرالية والعلمانية؛ لأنّها منفصلة عن التراث وتاريخ الذات، ولأنّها ربطت نفسها بتراث الآخر الغربي وواقعه، فوقعت في التغريب، وامتدت روافدها وجذورها في الغرب، سواء في العقلانية أو العلمانية أو الليبرالية والاشتراكية، وهذا التحديث، الذي يأتي من الخارج، ينكر المرحلة التاريخية التي تمرّ بها مجتمعاتنا، وتسقط علينا المذاهب الغربية الأدبية والفنية والسياسية والاجتماعية؛ لذا دعا حنفي كما قال الدكتور أحمد سالم (في مقاله سالف الذكر) إلى تأسيس علم الاستغراب لمواجهة التغريب الذي امتدّ أثره، ليس فقط على حياتنا الثقافية، وتصوراتنا للعالم، وهدّد استقلالنا الحضاري؛ بل امتدّ إلى أساليب الحياة الغربية، وفقه اللغة، ومظاهر الحياة اليومية، وفنّ العمارة.

ولكن على الرغم من نقد حسن حنفي للآخر الغربي، فلا يمكن أن نغضّ الطرف عن الأثر الكبير للفكر الغربي في أعماله، وفي الدور الذي لعبته المنهجيات الحداثية في تقديمه قراءات جديدة للتراث الإسلامي، وهذا واضح من تأثير إسبينوزا، وهيجل، وفيورباخ، وماركس، وهوسرل، وغيرهم كثيرون. ورأى حسن حنفي؛ أنّ أيّة نهضة للأمة العربية لابدّ من أن تنطلق من تراث الذات، ومن الانتظام في التاريخي الثقافي لها؛ وذلك لأنّ التراث ما يزال حيّاً وفاعلاً في وجدان الجماهير وحياتهم، فالتراث هو المخزون النفسي الحي، فالتراث هو جزء من الواقع ومكوناته النفسية، فما يزال التراث القديم بأفكاره فاعلاً في حياتنا، ومن ثم فمن الضروري تجديد نظرتنا إلى التراث بإعادة تفسيره وفق حاجات العصر ( وذلك حسب قول د. أحمد سالم ).

ومن جهة أخري لقد استحضر الدكتور حسن حنفي (بشهادة د. مصطفي النشار) كل التجارب الفكرية المصرية والعربية السابقة عليه وتتلمذ عليها من رفاعة الطهطاوي إلي الأفغاني ومحمد عبده وعثمان أمين وأحمد لطفي السيد وقاسم أمين، كما عاش كل التجارب الفكرية والثورية في عصره وتفاعل معها وشارك فيها فكان دائما صاحب الموقف الصريح والرأي الحر المختلف ... إنه المحاور الفذ القادر وحده بين أقرانه علي مجابهة كل الأفكار والتحاور مع ممثلي كل الثقافات حيث يتقن اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية... إنه المثقف والفيلسوف الملتزم بكل جلسة علمية وبكل محفل علمي أينما كان في كل زمان وأي مكان ولا يترك مكانه لغيره ولا يعتذر طالما في العمر لحظة وفي الجسم قدرة ولا زلت أذكر أنه لم يتنازل عن المشاركة في افتتاح مؤتمرا علميا عقدته الجمعية الفلسفية وهو سكرتيرها العام وهو علي سرير المرض وعقب عملية جراحية خطيرة فقرر إلقاء محاضرته الافتتاحية إلي المؤتمرين عبر الفيديو كونفرنس . وحتي مع اشتداد حالته الصحية خطورة لدرجة أن قدميه لم تعد قادرتين علي حمل الجسم الذي يعاني المرض وقد تجاوز الثمانين من العمر، فقد فاجأ حسن حنفي الجميع أن كل ذلك لم ولن يمنعه من الحرص والالتزام بحضور كل الفاعليات العلمية والاجتماعات المهمة وهو علي كرسيه المتحرك، فالعقل الذي عاش حياته متأملاً وناقداً وباحثاً ومبدعاً لا يزال يشع الفكر المستنير والآراء السديدة سواء عبر عنها بكتبه التي تتوالي اصداراتها في عدة دور نشر أو بمقالاته التي لا تزال تتري في العديد من المجلات والصحف .

تحية طيبة لأستاذنا الدكتور حسن حنفي الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطنى يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم