شهادات ومذكرات

سعيد توفيق يستحق جائزة الدولة التقديرية بجدارة

محمود محمد عليليس من المعقول أن يمر علينا نبأ  حصول الدكتور سعيد توفيق، أستاذ الفلسفة بجامعة القاهرة، بجائزة الدولة التقديرية فى مجال العلوم الاجتماعية، خلال الأشهر الماضية، وأن نمر عليها مرور الكرام، دون ذكر أو وقفة أو تسليط الضوء على شيء من منجزات هذا المفكر والفيلسوف العظيم، فهو بلا شك يمثل أحد النجوم الكبيرة المتلألئة في سماء الفلسفة خلال أكثر من نصف قرن، حيث يمثل لنا مفكراً أصيلاً وعالما كبيراً ؛ لقد كان سعيد توفيق يمتلك الكثير من عمق المعرفة وجدية الأدوات المنهجية، فهو يمثل صاحب مسيرة طويلة وممتدة في تاريخنا الثقافي، فله أكثر من خمسين كتاباً بين مؤلفاً ومترجماً في الفلسفة والعلوم الإنسانية.

لقد شهد الأسبوع الماضي إعلان المجلس الأعلي للثقافة بجمهورية مصر العربية عن فوز الدكتور سعيد توفيق، بجائزة الدولة التقديرية فى مجال العلوم الاجتماعية، وذلك تتويج لمجهود عبر عشرات السنين التي بذلها الرجل لخدمة الفلسفة والآداب والفنون . وكان الدكتور سعيد توفيق قد حصل قبل ذلك علي جائزة الشيخ مصطفى عبد الرازق عن رسالة الدكتوراه، من كلية الآداب- جامعة القاهرة، سنة 1988، وجائزة الدولة للتفوق في العلوم الاجتماعية، سنة 2006، وجائزة جامعة القاهرة التقديرية في فرع الإنسانيات والعلوم التربوية، 2018، علاوة علي حصوله علي الكثير من شهادات التقدير ؛ مثل شهادة تقدير وإعزاز من جامعة القاهرة في عيد العلم السابع، وشهادة تقدير من مؤتمر فناني مصر التشكيليين في دورته الأولى، وشهادة تقدير من كلية الإعلام جامعة القاهرة لدعم تدريب طلبة الإعلام في 2011-2012.

والدكتور سعيد توفيق هو أستاذ الفلسفة المعاصرة وعلم الجمال بآداب القاهرة، حيث كان متأثراً في أغلب كتاباته بالاتجاه الفينومينولوچي (الظاهراتي) وامتداداته في تيار فلسفة التأويل، وهو يعمل على ترسيخ هذا الاتجاه في واقع الثقافة العربية من خلال العديد من الدراسات النظرية والتطبيقات العملية (خاصة في مجالات الجماليات والنقد والسرد). وهذا التيار يشكل الآن- على استحياء- مدرسة فكرية من خلال بعض شباب الأساتذة والباحثين من تلاميذ الدكتور سعيد توفيق في جامعة القاهرة وغيرها.  كما أعدّ سعيد بمشاركة نخبة من كبار الأساتذة مشروعًا بتعديلات جوهرية على قرار إنشاء المجلس الأعلى للثقافة الذي أصدره الرئيس السادات سنة 1980، بما يواكب متطلبات اللحظة التاريخية الراهنة، وبما يتيح إعادة هيكلة المجلس الأعلى للثقافة، على نحو ينعكس تأثيره الإيجابي على قطاعات الوزارة كافة. وهو مشروع تم اعتماده من المجلس الأعلى للثقافة بعد مناقشته عبر جلسات عديدة، وإن لم يتم تفعيله كاملًا حتى الآن؛ لأنه كان يتطلب أن يصدر به قانون بقرار جمهوري.

ولد سعيد توفيق بالقاهرة عام 1954، وتدرج في مراحل التعليم، حيث دخل كلية الآداب قسم الفلسفة جامعة القاهرة، وحصل علي الليسانس سنة 1976 بتقدير جيد جدًا، ثم حصل علي الماجستير في الفلسفة، ثم حصل بعد ذلك علي الدكتوراه في الفلسفة بمرتبة الشرف الأولى، عام 1987، ثم تدرج في السلك الجامعي ؛ حيث حصل بعد ذلك علي درجة أستاذ مساعد، ثم أستاذ لعلم الجمال الفنون، الأمر الذي أهله بعد ذلك لتقلده منصب أستاذ ورئيس قسم الفلسفة من 12 فبراير 2009 حتى 11 فبراير 2012، ثم تقلده منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة بمصر: من 12 فبراير 2012 حتى 30 مايو 2013، ثم من 22 يوليو 2013 حتى 23 يونيو 2014 .

ولم يكن سعيد توفيق منعزلا داخل جدران الجامعة، بل كانت له مشاركات في كثير من الهيئات والجمعيات العلمية ؛ فكان عضوا عاملا باتحاد كتاب مصر، وعضو بلجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضو بالجمعية الفلسفية المصرية، وعضو بالمعهد العالمي للفينومينولوجيا بماساسوستش، وعضو بأتيليه القاهرة، وعضو بجمعية محبي الفنون الجميلة بالقاهرة، وعضو لجان الترقية بأكاديمية الفنون، وعضو هيئة تحرير مجلة...الخ.

وللدكتور سعيد توفيق كتابات كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر: ميتافيزيقا الفن عند شوبنهاور، الخبرة الجمالية : دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، ومداخل إلى موضوع علم الجمال : بحث عن معنى الاستطيقي، ومعنى الجميل في الفن، وجدل حول علمية علم الجمال: دراسات على حدود منهج البحث العلمي، وجدل حول علم الجمال، تهافت مفهوم علم الجمال الإسلامي، وماهية الشعر: قراءات في شعر حسن طلب، وهويتنا في عالم متغير، وفي ماهية اللغة وفلسفة التأويل، والتأويل في الفكر التراثي والمعاصر: آفاقه وتطبيقاته.. الخ .

كما قام بترجمة الكثير من الكتب منها: تجلي الجميل ومقالات أخرى لجيورج جادامر، العالم إرادة وتمثلاً لشوبنهاور، نظرية الفن: مقدمة موجزة لسنثيا فريلاند، موسوعة تاريخ الفلسفة لفريدريك كوبلستون، شوبنهاور لكريستوفر جاناواي، السعادة: موجز تاريخي لنيكولاس وايت.. الخ .

وفي هذه الكتابات كان سعيد توفيق مؤمنا بأن الفكر الجمالي أو التفكير في الفن والجمال فيما قبل منتصف القرن الثامن عشر ظل - رغم ما فيه من لمحات واستبصارات عميقة - فكراً تابعاً، ولم يكن مكرساً للفن الجميل، ولم يتحدث بلغته، ولم تكن مباحثه تشكل نسقاً واحداً منظماً. وأن فكرة الجمال بوصفه كمالاً كانت سائدة في التصور الميتافيزيقي واللاهوتي المدرسي؛ لأنه وفقا لهذا التصور يكون كل شىء حسناً أو جميلاً بقدر ما يكون واقعياً، حيث إن الوجود نفسه يعد كمالاً، فهو وجود قد أُحسِنَ صنعه، ومن ثم كان أيضاً جميلاً... وأنه نظراً لتعدد السياقات التي تستخدم فيها كلمة الجمال، فقد كثر الخلط واللغو حول مفهوم الجمال الفني، واختلط بغيره من السياقات المتعددة للكلمة في معناها الدارج. ولنقل صراحة ً وبشكل مباشر منذ البداية: إن علم الجمال ليس هو العلم الذي يبحث في الجمال بمعناه الدارج، أو قل إنه ليس هو العلم الذي يبحث في الجمال بإطلاق، وإنما يبحث في نمط أو قطاع خاص من الجمال، هو الجمال المعطى من خلال خبرتنا بالعمل الفني. فالإستطيقي أو الجمال الفني ليس هو ما تعارفنا على تسميته أو وصفه بكلمة الجمال، وإنما هو نمط خاص متميز من الجمال قد يكون مضاداً لمفهوم الجمال بمعناه الدارج، وقد يكون مختلفاً عنه فحسب، وقد يكون غير متعلق به أية علاقة.

وكان يقول: الفن يعبر بروعة حتى حينما يعبر عن القبح، ويعبر ببراعة حتى حينما يعبر عن الفشل واليأس والإحباط...وأنه ليس من الصحيح القول بأن الطبيعة تكون جميلة فحسب عندما نراها من خلال الفن؛ فإن جمال الطبيعة ليس في حاجة لشىء آخر كي يبرهِن عليه. وليس  من الصحيح كذلك القول بأن الفنان يعمل بمعزلٍ عن الطبيعة، كما لو كان يعمل في غرفة سحرية لا يستهلم إبداعاته إلا من إبداعات الفن.

ويستطرد فيقول : عندما نقول أن "الإستطقي" يمكن التعبير عنه من خلال موضوعات نعتبرها "غير جميلة"، فنحن نعني بذلك أن "الجمال الفني" يمكن التعبير عنه من خلال موضوعات تبدو لنا "غير جميلة" في عالم الحياة اليومية؛ فالإستطيقي ليس هو الجميل الذي اعتدنا تصوره باعتباره مضاداً للقبيح، بل إن القبيح نفسه يمكن أن يكون موضوعاً جميلاً بالمعنى الإستطيقي للجميل، وذلك عندما يعطى لنا من خلال عمل فني. ولذلك يمكن للمرء دائماً أن يتحدث عن "استطيفا القبح"، أي جماليات القبح أو القبح الجميل. ولعل أبسط مثال يمكن أن نسوقه في هذا الصدد هو لوحة فان جوخ التي تحمل عنونا "حذاء برباط"، والتي اشتهرت باسم "حذاء الفلاحة". إننا لا نجد في اللوحة سوى زوج من الأحذية رُسم بلون بني قاتم، وليس هناك أي شىء آخر في خلفية اللوحة يشير إلى الفلاحة أو عالم الفِلاحة - لا شىء شوى حذاء فظ غليظ ثقيل صعب الاحتمال، نلمس في جلده خشونه، ونرى تمزقاً في أجزائه الداخلية. وباختصار يمكن القول بأن هيئة الحذاء "قبيحة"، فليست هيئته مما يسر الناظرين، وليس منا من يتمناه لنفسه في دنيا الحياة الواقعية. ومع ذلك فإننا يمكن أن نرى هذا الحذاء برؤية أخرى، وذلك حينما نتأمله لا بعتباره حذاءً يمكن أن نرتديه، وإنما باعتباره عملاً فنياً مليئاً بالدلالات الخصبة. فهناك الكثير مما يمكن أن نراه في اللوحة كما يبين لنا هيدجر في تحليله العميق لها: فالأجزاء الداخلية الممزقة في الحذاء تعكس الخطوات المنهكة المكدودة للفلاحة، وفي غلظة الحذاء وخشونته نلمس قسوة العمل ومشقته؛ فالحذاء ثقيل صعب الاحتمال مثلما يكون العمل في الحقل. فمثل هذا الحذاء قد صُمم ليُستخدم في الحقل وحده. وعلى جلد الحذاء تقع رطوبة وخصوبة التربة. وفي الحذاء يتردد النداء الصامت للأرض، وعطاؤها الصامت للغلة. فهذا الحذاء ينتمي إلى الأرض، وفيه تنكشف العلاقة بينه وبين مرتديه بالنسبة للأرض. إنه يكشف عن عالم الفلاحة، ولذلك يرى هيدجر أن لوحة فان جوخ تكشف عن ماهية أو حقيقة هذا الحذاء باعتباره "حذاء فلاحة". وهذه الدلالات المعبر عنها في اللوحة هي ما نسميه الإستطيقي أو الجمال الفني.

ومن أقوله أيضا :  إن التجريد في الموسيقى لا يعني التجريد من الدلالة، وإنما يعني التعبير عن هذه الدلالة بطريقة مجردة، أي دون تمثل لأي موضوع أو ظاهرة جزئية في الواقع الخارجي على الإطلاق. وهذا التوصيف الذي يصدق على الموسيقى الخاصة pure music بوجه خاص، يمثل صورة من صور "حياد الموضوع الإستطيقي"... وإن الفنون ذاتها هي جزء من سياق ثقافي كلي، وهي بدورها ثؤثر فيه، بحيث يمكن القول بأن وظيفة الفنون أوسع بكثير من مجرد التعبير عن مدلولها الجمالي، وأن الفن في صوره المتنوعة له وظائف وفيه عناصر سيكولوجية وسوسيولوجية وأخلاقية وميتافيزيقية..إلخ، ولكن هذه العناصر ينبغي أن تبقى متميزة عن البعد الجمالي للفن الذي هو محور اهتمام علم الجمال، فعلم الجمال لا يعير هذه الوظائف أو العناصر اهتماماً إلا بقدر ما يتم التعبير عنها من خلال موضوع جمالي، والفن ينطوي على هذه العناصر جميعاً؛ لأنه رؤية شاملة شمول الحياة، وهو تجسيد لخبرة إنسانية متعددة الأبعاد والعناصر تمثل بالنسبة للفنان المادة الخام التي يقوم بتحويلها من خلال العمل الفني إلى تشكيل جمالي له قيمته المستقلة وأهميته الخاصة.

وكان سعيد توفيق مؤمناً أشد الإيمان بأن فكرة الكمال في حد ذاتها لا تشكل ماهية الجمال. حقاً إن الكمال - من حيث هو اكتمال ونظام أو نسب منسجمة بين عناصر الشىء أو صورته - يعد عنصراً أساسياً في كثير من الموضوعات الجميلة، ولكنه ليس معياراً أو شرطاً جوهرياً يميز الموضوع الجميل عن غيره من الموضوعات. فلا يكفي أن يسود النظام والتمام أجزاء موضوع ما ليكون بالضرورة موضوعاً جمالياً، فهو قد يكون موضوعاً منظماً فحيب كما هو الحال - على سبيل المثال - حينما يسود النظام إجراءات عمل أو مشروع ما يتم تنفيذه على أتم نحو، أو حينما يتمثل النظام في البناءات الرياضياتية على نحور دقيق مكم البنيان..إلخ. فمثل هذه الموضوعات - وإن كان منظمة - لا توصف بالجمال، اللهم إلا على سبيل المجاز لا الحقيقة. فنحن عندما نصفها بتلك الصفة فإننا لا نقصد أن نعدها بالفعل ضمن الموضوعات الجميلة، وإنما نقصد أنها تبدو شبيهة في بنائها بالموضوعات الجميلة. فالقول بأن كل موضوع جميل يكون منظماً أو مكتملاً لا يعني أن كل موضوع منظم أو مكتمل يكون جميلاً. وحتى القول بأن "كل موضوع جميل يكون منظماً" هو قول مشكوك في مصداقيته. فهو لا يصدق مثلاً على بعض صور الجمال في الفن: فبعض الأعمال الفنية تعبر عن الفوضى وتجسد معنى الاضطراب واللاتحدد وليس النظام.

كما كان مؤمنا بأن التصور الوظيفي للجمال في الأشياء المصنوعة لا يفسر لنا الجمال في أي شىء آخر، ولا حتى في مجال الطبيعة أو الأشياء الطبيعية. فأجزاء الجسم البشري على سبيل المثال قد تكون مهيئة للقيام بوظائفها على أتم نحو، ولكن هذا وحده لا يكفي لجعلها جميلة: فالعين الجميلة لا يتوقف جمالها على النحو الذي تؤدي به وظيفتها، ورُبّ عين جاحظة أصح بصراً من عين جميلة. كذلك فإن الأنف الجميل قد يعتريه خلل أو فساد عضوي يعوقه عن أداء وظائفه، ولكنه مع ذلك يظل جميلاً. وفي مقابل ذلك، فإن الأنف المعقوف أو الأفطس قد يقوم بمهمته خير قيام. بل إن علة فقدان الأنف لجماله قد تكون هي نفسها علة قيامه بوظيفته على أتم نحو: فالأنف الزنجي الأفطس قد زُوّدَ بفتحتين واسعتين تنقصان من جماله لتزيدا من ملائمته لمناخ ينقص فيه الأوكسجين.

والحديث عن ابداعات سعيد توفيق لا تتسع لها مقالة بل تحتاج لمئات المقالات، وفي نهاية لا نملك إلا أن أقول تحية طيبة لأستاذنا الفاضل الدكتور سعيد توفيق الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

تحية وفاء وعرفان واحترام لهذا الأستاذ الجليل الذى ظل معدنه أصيلًا لامعًا لا يصدأ أبدًا، فهو ذلك الذي كان متربعًا على قمة أساتذة الفلسفة الجمال والقيم في مصر والوطن العربي، كما كان صاحب قلب كبير، وعاطفة جياشة، وكبرياء لا ينحنى، ونفس تعلو فوق كل الصغائر. بارك الله في سعيد توفيق بما قدم لنا ولغيرنا من إسهامات مجيدة فى فلسفة الجمال والقيم.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم