شهادات ومذكرات

محفوظ علي عزام .. العالم والإنسان الخلوق

محمود محمد علياستطاعت البشرية في سعيها الدائب والتلقائي أن تبلور عدداً من النماذج الإنسانية من خلال شخوص بأعينهم، طرحتهم الأسطورة حيناً، والواقع حيناً آخر . وهؤلاء الشخوص هم في حقيقتهم مجرد أفرد حين نرجع إلي سيرهم، ولكن البشرية حيت تأملت ذاتها – رفعتهم من مستوي الفردية إلي مستوي النموذج . فالنموذج الأوديبى – علي سبيل المثال -  لم يعد هو " الملك أوديب" الإغريقي القديم، بل أصبح نموذجاً إنسانياً وحضارياً عاماً، له مقوماته التي تستطيع أن تراها متحققة في أفراد كثيرين متميزين في أزمنة وأمكنة مختلفة، حفظ لنا التاريخ  سيرهم، ولا أريد أن أقول إنك قد تراها متحققة في نفسك! كما قد تستطيع – في الوقت نفسه- أن تفسر في ضوئها سلوكيات أساسية لشعب بعينه . ولأن الوعي الذي أدرك هذا النموذج أو ذاك قد انطلق في البداية من شخص بعينه، سواء كان أسطورياً أو واقعياً، فقد أصبح النموذج نفسه يحمل اسم هذا الشخص ويعرف به.

وإنه لموقف شديد علي النفس أن يكتب الإنسان عمن يحب من الأشخاص ..لأن في ذلك منزلقات ومهاوي لا يخشاها ويتهيب منها إلا من كان الصدق ديدنه... والوفاء دأبه، وهو إلي ذلك يستشعر شرف الكلمة ومبلغ خطرها.. ولعل تحري العدل في الحكم، والإنصاف في النظر يأتي علي رأس تلك المنزلقات ؛ حيث اعتاد بعض المتحدثين عن أشخاص معينين النظر بعين واحدة من العينين ...إما عين الرضا فتكِلُ عن كل عيب، وتغفر كل كبيرة .. وإما عين السخط فتبدي كل سوأة وتهولُ كل صغيرة؛ وقديماً قال أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة:" إن الكلام عن الكلام صعب.. لأنه يدور حول نفسه.. ويلتبس ببعض".

ولكنني أستعين بالله وأعرض مما تسعفني به الذاكرة عن الدكتور محفوظ علي عزام (أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الدراسات العربية والإسلامية– جامعة المنيا  رحمه الله)، ما يجلو شخصيته وقيمه، ويبرز مكانته وموقعه، ويوضح ريادته وفضله، ليس في مجال الفلسفة الإسلامية فحسب، ولا في مجال نظرية التطور التي اهتم بها، ولا في مجال الأخلاق الإسلامية وحدها، بل في الثقافة العربية الإسلامية بمفهومها الواسع... والواقع أنني عندما أتحدث عن محفوظ عزام في ذلك أجد مجال القول واسعاً، وهذا أيضاً أحد مواطن الصعوبة في الحديث .. إنه كقطعة البلور الكثيرة الجوانب، من زاوية من زواياها نظرت، ورأيت لوناً من ألوان الطيف، فهو الإنسان الفاضل، والأستاذ المتميز، والقدوة الحسنة، والرائد بلا منازع.

وإنه لمن دواعي سروري أنني قد شرفت بأن تعلمت علي يديه في الفرقة الثانية بقسم الفلسفة بجامعة أسيوط (فرع سوهاج سابقا) بجمهورية مصر العربية، إذ كان سيادته يقوم بتدريس نظرية التطور في الفكر الإسلامي ضمن مقررات الفلسفة الإسلامية، وهو أستاذا قديراً وباحثاً متميزاً وعالماً جليل ... حقق العديد من الإنجازات في مجال الفلسفة الإسلامية.. آمن بدور العلم في إسعاد الفقراء، وحل المشكلات التي تعاني منها مجتمعاتهم بالعلم الذي امتلك ناصيته، وهو أيضا المفكر ذو الحس المرهف والأسلوب المميز،صاحب المؤلفات الكثيرة في الفكر الإسلامي، وهو أيضاً الإنسان صاحب المواقف الإنسانية المشرفة الذي عشق بيئته وانطلق منها إلى فضاء العلم .

والدكتور محفوظ علي عزام له العديد من المؤلفات في كافة مجالات التفكير الفلسفي، وله الكثير من الأبحاث والمشاركات التي كانت تعقد في مؤتمرات وندوات علمية محلية ودولية، وأيضاً له العديد من المقالات الدورية في الثقافة الإسلامية، وكذلك العديد من المقالات الدعوية، وله كذلك الكثير من الموضوعات التي لم تنشر، بل مخطوطة بخط يده، له العديد من المشاركات الفعالة خلال البرامج التليفزيونية.

ومن مؤلفات الدكتور محفوظ علي عزام : كتاب التأريخ النقدي لمنطق أرسطو، وكتاب الثقافة الإسلامية في مواجهات تحديات العصر، وكتاب العقيدة الإسلامية في فكر الشيخ محمد الغزالي، وكتاب حقوق الإنسان والحيوان في الإسلام، وكتاب دراسات في الفلسفة والأخلاق، وكتاب في التفكير العلمي، وكتاب في الفلسفة الطبيعية عند الجاحظ، وكتاب مبدأ التطور الحيوي لدي فلاسفة الإسلام، وكتاب نظرات في الثقافة الإسلامية، وأخيرا كتاب نظرية التطور عند مفكري الإسلام " دراسة مقارنة "ثم بعد ذلك كتب سلسلة كاملة عن " مفهوم التطور في الفكر العربي".

علاوة علي أن له مقالات دورية في الثقافة الإسلامية والمقالات الدعوية بمجلة واحة الإيمان، ونذكر منها : إحسان القول، بتاريخ 26 يوليو 2001، والإسراف في تناول الأطعمة، بتاريخ 20 أغسطس 2001، والإسلام حقوق وواجبات " فضيلة الصدق في الأنباء"، بتاريخ 11 يناير 1999، والإسلام منع التلوث بكلمة واحدة ! بتاريخ 4 ديسمبر 2005، والإسلام والأخلاق، بتاريخ 12 يوليو 2001، والإسلام والتجديد، بتاريخ 26 يونيو 2001، والإسلام والعولمة، بتاريخ 28 يونيو 2001، والإسلام والمنهج الغربي، بتاريخ 25 فبراير 2002، والإسلام وحقوق الحيوان، بتاريخ 10 يونيو 2001، والإسلام وحقوق الطبيعة، بتاريخ 31 مايو 2001، وأهمية العقيدة في بناء الحضارات، بتاريخ 30 يناير 2002،والتكبر علي الناس، بتاريخ 16 يوليو 2001، وحوار ديمقراطي، بتاريخ 2 أغسطس 2001، وخلق الحياء، بتاريخ 24 يونيو 2001، والدين ضرورة، بتاريخ 25 إبريل 2001، والدين والعلم، بتاريخ 20 مايو 2001، وسلوكيات لا يرتضيها الإسلام " عدم احترام المرأة " بتاريخ 14 مايو 2001، والشباب وتحديات العصر، بتاريخ 4 نوفمبر 1999، وشتان بين المنهجين، بتاريخ 9 سبتمبر 2003، والشريعة والمنفعة، بتاريخ 1 مايو 2001، وعدم إشاعة البهجة في النفوس، بتاريخ 9 يوليو 2001، وعدم النظافة، بتاريخ 15 مايو 2001،وعلاج الإدمان، بتاريخ 7 أغسطس 2001،وقضية للمناقشة " نجاح الخطاب الديني... كيف؟ بتاريخ 27 يوليو 2002، والكرامة الإنسانية والاعتصام بحبل الله.. لماذا؟، بتاريخ 3 مارس 2002،ولابد من تجديد الثقافة الإسلامية بما يتفق مع الثوابت والقيم، بتاريخ 1 إبريل 1998،والمادة والروح، بتاريخ 12 مايو 2001، والمجتمع المسلم، بتاريخ 29 يناير 2002، والمسلمون والثقافة، بتاريخ 7 يونيو 2001، والمسلمون ومواجهة التحديات، بتاريخ 7 أكتوبر 2003، والمسئولية الاجتماعية، بتاريخ 15 يوليو 2001، والنظر والتطبيق، بتاريخ 16 أغسطس 2001، والنظر والتطبيق، بتاريخ 16أغسطس 2001، والنفاق، بتاريخ 13 يونيو 2001، والوحي والعقل، بتاريخ 2 يونيو 2001، والوسائل والغايات، بتاريخ 24 يونيو 2001 .

وإذا كان لكل شخصية مفتاح فمفتاح شخصية محفوظ عزام هو القوة والبساطة .. كان في كل ما يُسند إليه من مهام أو يكلف به من عمل قوياً أميناً .. كان قوياً في شخصيته.. في قراراته، في عمله، في حجته، في كلامه.. بل حتي في مشيه.

وإلي جانب هذا تميزت شخصية محفوظ عزام بصفات أخري من أهمها: التواضع ولين الجانب .. يقدر الضعف الإنساني ويستجيب لمطالبه.. وينصت باهتمام لكل ما يقوله باحث أو زميل أدني منه؛ مردداً دائماً قول الله تعالي، و" فوق كل ذي علم عليم" .. ولقد يعُزي تواضعه هذا إلي تدينه الشديد، وإيمانه العميق بالقيم التي بحث عليها كتاب الله وسنة المصطفي صلي الله عليه وسلم.

ولعل ما لاحظه الكثيرون إلي ذلك أدبه الجم؛ فلا أذكر أنه ذكر أحداً بسوء في مجال نقده للأفكار الخاطئة، والآراء المخالفة .. بل كان يُحسن الظن بأصحابها ويحاول جهده أن يبدي الأعذار لهم . كان يفرق بين نقده الفكرة الخاطئة ومقارعة الباطل وإيضاح حجة الحق، وبين إساءة الظن بالمخالف، والتشنيع عليه. فكان همه الأول البحث الجاد عن الحقيقة بعيداً عن الخوض في الناس أو النيل من أشخاصهم.

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة وهي أن محفوظ عزام كان نموذجاً لأستاذ الجامعة المعاصر في فكره ... الفلاح في تقاليده.. وفيا لانتمائه.. مجسداً لهويته .. وكان عطاؤه خير تجسيد للتواصل بأصالة أمته مع تفاعلها الإيجابي في عصرها.. فكان مرآة للأصالة ومرآة للمعاصرة.. ولقد تمزت أستاذيته بكثير من الخصائص، ولعل من أهمها : التعمق في التخصص العلمي، حيث كان سيادته أستاذاً لفلسفة العلم بمعية فقيهة .. كان دائم القراءة في كتب الفلسفة الإسلامية.. كان يؤكد لنا أهمية أن يكون أستاذ فلسفة العلوم ومناهج البحث ملماً بعمق في مادة تخصصه وليس فقط في مباحث الفلسفة . وما أكثر ما استشهد أمامنا بالمثل : فاقد الشئ لا يعطيه.. إذ كيف يتسنى لأستاذ ضعيف الفلسفة أن يعلم طلابه طرق تدريسها.. كان يتذوق اللغة الجميلة خاصة ما كان يسمعه في البرامج الإذاعية، مثل برامج الأديب فاروق شوشة.

كان محفوظ عزام يحترم اختصاص الآخرين فلا يتجاسر علي الخوض في اختصاص غيره.. كان يسأل في بعض القضايا فيبادر إلي الاعتذار عن الإجابة ويحيل السائل إلي أهل الاختصاص، حتي كنا نحن طلاب الفلسفة نحال إلي المتخصصين في مجالات قد يكون هو أقدر علي الإفتاء فيها ..  ولا شك في أن احترامه لتخصص الآخرين دليل النضوج العلمي والتواضع الجم، بل واحترام الذات.. وهذا بكل أسف قليل في عصرنا إذ قل من يتوزع عن الافتاء فيما يجهل.

كذلك عُرف عن محفوظ عزام الانضباط الدقيق بمواعيد المحاضرات .. فما عهدنا أنه تخلف عن محاضرة واحدة ولا أنه تأخر عنها ولو لدقيقة ؛ بل كان في بعض الأحيان يدخل إلي المدرج أو القاعة ويجلس علي مقعده حتي يحضر معظم الطلاب.. وهذا بلا شك دليل علي حرصه الشديد علي الاستفادة من كل دقيقة لإفادة طلابه.

كانت محاضراته تتميز بالإلقاء التلقائي، فلم يكن إلقاؤه علمياً جافاُ، بل كان يبدع في عرض الفكرة بما أوتي من قدرة علي فهم السياق وضرب المثل والاستشهاد بمواقف الحياة .. لم يكن حديثه تجريداً متسماً بالغموض أو البعد عن الواقع، بل كان مرتبطاً بالمواقف التدريسية الحية التي يدرك المستمع في ضوئها دلالة ما يقول . لم يكن يقرأ محاضراته من ورقة، بل كان يلقيها بشكل تلقائي مسلسل مرتب الأفكار، واضح العبارات، منهجياً في تناول قضاياه .

وكان سيادته ينظر إلي التدريس نظرة خاصة قلما نجدها في زماننا عند الكثيرين .. لم يكن التدريس بالنسبة له يمثل مهنة ولا احترافاً بقدر ما كان رسالة يؤديها، رسالة تنوير وتبصير وإضاءة عقول، ودعوة إل التفتح وقبول الآخر فكراً وثقافة، والذين يتناولون عملهم كرسالة وليس حرفة يبذلون أقصي الجهد في سبيل عملهم ويمزجون العلم بالغيرة الصادقة وحرارة القلب .. والحب الحقيقي لطلابهم.. لم يبخل علينا بفكر أو رأي أو مشورة .

وإذا كان فيلسوف مثل رينه ديكارت يقول: إن الفكرة الصحيحة هي الفكرة الواضحة المتميزة .. فإن أهم سمات محفوظ عزام هي أن كل فكرة يكتبها، إنما هي فكرة واضحة ومتميزة . واضحة بحيث لا تلتبس وتعطيك أعماقها بسهولة لأنه امتلك الفكرة وامتلك زمامها، ومتميزة بحيث تراها جادة جديدة.

يشعر القارئ لكتابات محفوظ عزام أنه يتدفق كالسيل .. ولا يدري هذا القارئ كم من المعاناة عاناها محفوظ عزام حتي تصدر كتاباته هكذا .. وقد كان يُلاحظ عليه الإعداد الجيد لمحاضراته، فلم يكن يُدرس لنا من كتاب واحد مطبوع، بل كان يجمع المادة العلمية للدرس من المصادر الأصلية.

ولم يكن محفوظ عزام يقنع بالحد الأدنى من الداء فيما يعمله ؛ يظل يجود العمل كلما وضع بين يديه في الوقت الذي يتعجل فيه الآخرون أعمالهم فيبادرون بنشرها. من هنا لا تعجب أن تحظي أعماله العملية بالتقدير.. وأن تتوفر للباحثين كمراجع تحتفظ بقيمتها رغم مرور الزمن .. ولعل مما يعجب له المرء أن يجمع محفوظ عزام بين هذا الاتجاه نحو الإجادة وبين السرعة في إنجاز العمل . فلم تكن الإجادة لديه مسوغاً للإبطاء في عمله. كان ينشد الكمال ما وسعه الجهد، ويتوخي الإتقان ما وجد إلي ذلك سبيلاُ . لم يكن يقنع بكل ما تجود به قرائح طلابه في الدراسات العليا، بل كان شديد التدقيق حريضاً علي الوصول إلي أرفع مستوي من البحث ... وإلي أجود مستوي من الكتابة حتي ما اتصل بتوثيق الاستشهادات أو علامات الترقيم.

رحم الله محفوظ عزام والذي كان واثق الخطوة في كل مواقفه. كان مجدداً ولم يكن مقلداً بأي وجه من وجوه التقليد. والمجدد ينظر إلى الأمام، والمقلد ينظر للخلف والعياذ بالله، المجدد يمثل النور، والمقلد يمثل الظلام، ألم يقل الفيلسوف ابن سينا في دعائه إلى الله تعالى: فالق ظلمة العدم بنور الوجود. ومن حكمة الله تعالى أنه خلق عيوننا في مقدمة أدمغتنا، ولم يوجدها في مؤخرة الأدمغة. كانت كتابته تمثل شلالاً متدفقاً من الحكمة والمعرفة، وإن كان أكثرهم لا يعلمون، وتعد بحراً على بحر، إنها تعد نوراً على نور، ويكفيه أنه حارب طوال حياته حياة الظلام والتقليد، إنه مدرسة كاملة، وإذا كانت روحه قد صعدت إلى السماء خلال الأشهر الماضية، فقد صعدت إلى عالم الخلود والبقاء واستراحت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

رحم الله فقيدنا الغالي والصبر والسلوان لأسرته ولتلاميذه ومريديه " وإنا لله وإنا إليه راجعون".

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم