شهادات ومذكرات

أمين الخولي بين سلبية التقليد وإبداعية التجديد (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن أمين الخولي بين سلبية التقليد وإبداعية التجديد، وفي هذا يمكن القول: كان أمين الخولى يجسد أزمة دعاة الإسلام السياسي الذين يرفعون شعار «الإسلام هو الحل» دون امتلاك برامج حقيقية تكشف كيف يكون الإسلام هو الحل، ولكنهم بهذا الشعار يستطيعون امتلاك قلوب العامة، والسيطرة على الرأي العام، مطالبًا بضرورة التعميق في النظر إلى الإسلام لأنه محاولة إصلاحية كبرى لتنظيم روابط الجماعة الإنسانية (وذلك حسب قول سلمي كحيل في مقالها بفيتو بعنوان أمين الخولي المجدد بما لا يخالف شرع الله).

تقول عنه حفيدته الدكتورة يمنى طريف الخولي، أستاذ فلسفة العلوم المتفرغ بكلية الآداب فى جامعة القاهرة في كتابها "أمين الخولى – الأبعاد الفلسفية للتجديد"، إن " جدى شخصية عملاقة في تاريخ النهضة المصرية والحداثة العربية، عطاؤه باذخ فى كثير من المجالات، متعدد الزوايا، والصلب المحوري والإطار الهيكلي يتلخص فى كلمتين هو أنه شيخ المجددين بلا منازع، فهو شيخ المجددين في الأصولية وشيخ الأصوليين في التجديد".

وتقول د. يمنى طريف فى كتابها: «كان الخولى يبث أصول التجديد في كل المجالات المتصلة بإسهامه: التجديد فى اللغة ونحوها، فى البلاغة وجمالياتها، فى الأدب ونقده، فى تفسير القرآن وفى الفكر الديني وقد تشكلت معالم تجديد الفكر الدينى فى خريطة الفكر العربي الحديث بفعل جهود دءوبة للرواد، يتقدمهم الشيخ محمد عبده «1849-1905» والذى يؤكد على هذا الاتجاه العلمي فيقول: «لو أردت سرد جميع الآيات التى تدعو إلى النظر فى آيات الكون لأتيت بأكثر من ثلث القرآن بل من نصفه»، ومن هنا كان الأصل الأول من أصول الإسلام عند محمد عبده هو النظر العقلي لتحصيل الإيمان، والاصل الثاني هو تقديم العقل على ظاهر الشرع عند التعارض بينهما، وكان محمد عبده بهذا يعلن حقوق الفكر الحر، كما أبرز جناية الجمود ونتائجه على اللغة والنظام والاجتماع والشريعة وأهلها وعلى العقيدة ونظم التعليم.

وتشير يمني الخولي (مع حفظ الألقاب) إشارة مهمة وهى حاجتنا إلى مناخ يؤكد على التعدد وحرية التفكير والتعبير وإعمال الملكة النقدية فى النظر إلى الأمور فتقول: «لقد كانت مرحلة توهج الثقافة العربية، والتوثب الطامح للعقل فيها فى أعقاب ثورة 1919 حيث انطلقت الجهود فى جملتها من الثابت البنيوي فى حضارتنا / النص الديني والتراث نحو استشراف روح العصر وقيم الحداثة التي تبلورت فى تجربة الحضارة الأوروبية و كانت انطلاقة أسهمت فى ترسيمها خطوط متفاوتة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مواءمة من أعمق جذور الأصالة إلى أبعد آفاق المعاصرة، خطوط سلفية وإصلاحية وتحديثية وعلمية وعلمانية توفيقية وليبرالية واشتراكية تحاورت جميعها فى أجواء متفتحة مواتية نجدها الآن أكثر مواءمة لقيم العقلانية النقدية واشد نزوعا لغاية «التجديد".

وتقول يمني الخولي :" أن تجديد الفكر الديني عند الخولى قد انطلق من نقطة شديدة الأهمية والتميز في تراثه ألا وهى تشغيله الحذر البارع لمقولة التطور والانتخاب الطبيعي، النشوء والارتقاء والبقاء للأصلح وهى النظرية التي قال بها دارون، وهى محاولة لوصف وتفسير نشوء ظاهرة الحياة على سطح الأرض، وارتقائها عن طريق الانتخاب الطبيعي" .. وقد استلهم الخولى هذه النظرية وطبقها على مظاهر الحياة المختلفة من المعنويات العقلية والأمور العملية فرأى أن سُنة النشوء والارتقاء تجرى فى جميع أعمال الأفراد والأمم، وتغيرات حياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأدبية ووفق هذه النظرية وتطبيقاتها كما يرى الخولى أن الجماعات ترقى، وتنشأ الحكومات والصناعات، والمتاجر والآداب والعلوم والفنون من أصل بسيط تغير وتطور وتنافس على البقاء والحياة مع غيره فيبقى الصالح للحياة ويفنى العاجز منها، ومازال الأمر على ذلك.

ومن الأطروحات المهمة فى كتاب د. يمنى طريف الخولى التركيز على ارتباط تجديد الفكر الدينى بالتطوير التجديدي لقضايا اللغة العربية ونحوها وبلاغتها وقد رآهما أمين الخولى قطبين متعامدين وأن تجديد الفقه مقدمة لتجديد النحو لأن أصول النحو قائمة على الفقه عند القدماء، فقد كان الدرس اللغوى الحلبة الأولى لنضاله من أجل الاجتهاد والتجديد وتأثيم التقليد، مستندا إلى أصل عريق هو إجماع النحاة القدامى على ذم التقليد، وحتى فى عصور الانحطاط أغلق الفقهاء باب الاجتهاد ولم يفعل النحاة مثلهم، ورأوا الاجتهاد قائما فى كل آن ومكان وإلا عجزنا عن ضبط وتفهم ما نقوله، وهكذا أعمل سنة النشوء والارتقاء فى اللغات ورأى أن التفسير التطوري للغة هو مفتاح من مفاتيحها هافا لبيئة الطبيعية المادية التى تعيش فيها اللغة والظروف النفسية والعقلية لمتكلميها وأنماط الحياة التى يحيونها، وتوارثها بين الأجيال وعوامل عديدة يصعب حصرها تؤثر فى تطور اللغة.. ومن هنا خلص الخولى إلى أن مواجهة الإسلام للتغيرات لا مفر منها فالبيئات المتغيرة لها حاجات متغيرة ومتطورة، ولذا كان الاجتهاد أساسا لمواجهة التغيرات وكذلك الاعتراف بحق الإنسان فى تفسير وتدبير حياته، وتخلص الباحثة إلى أن تشغيل الخولى الحذر البارع لمقولة التطور جعلته يرى التجديد التطوري ينفصل تماما عن تصور قديم له يحصره فى مجرد إحياء ما اندثر أو إعادة قديم كان.. فالتجديد عنده هو اهتداء إلى جديد سواء أكان هذا الجديد بطريق الأخذ من قديم كان موجودا أم بطريق الاجتهاد فى استخراج هذا الجديد بعد أن لم يكن.. ورأى الخولى أن فكرة التجديد أصل من أصول الدين حتى أنه لا يجوز فى عُرف" السيوطى" خلو العصر من مجتهد، بل نظم السيوطى شعرا أسماه «تحفة المهتدين فى بيان أسماء المجددين» ويلاحظ الخولى أن الكثرة المطلقة منهم " رجال أنجبتهم وعلمتهم مصر ذات الفضل العتيد على المد نية منذ عرفها بنو آدم".

وتضيف يمني الخولي: التجدد عند أمين الخولى فلسفة للفكر والخطاب الدينى ورسالة حضارية ومهمة ثقافية، فالنص الدينى عنده رحلة حضارية يطلق عليها الدوائر المعرفية التى تجعله يحلق حول هذا النص.

وتستكمل: «الخولى يعطينا مثالا نموذجيا منشودا عن حديث الأصالة وتأصيل الحداثة، لا شطط لا ذات اليمين ولا ذات اليسار، لا يميل إلى الحداثة الغربية ولا يميل للأصالة، فينجرف إلى الاغتراب عن الزمان، فهو رائد التنوير الفعال الذى يعنى تأصيل الحداثة وتحديث الأصالة، وكان ميدان عمله وخامة بحثه هو التجديد والبحث عن الأفكار الجديدة، كما انه احترم الخصوصية الثقافية للأمة الإسلامية وسعى لتحديث الواقع استجابة لتحديات العصر الراهن".

وترى «الحفيدة» أن جدها كان لديه تصور للفكر والحياة كإنسان فذ الشخصية، وكعالم لغوى لا يُشق له غبار، وكأستاذ من جيل الرواد الذين اضطلعوا بعبء تمصير الجامعة، وكمفكر هو واحد من التجديديين العِظام. وتقول: كنت طبعًا قد قرأت له وعنه بعض الشيء، فى إطار قراءاتى الغزيرة المتنوعة، ومنذ بواكير الصِّبا لا يمر عليَّ يوم دون أن أفتح كتابا له.

وتتابع: أعترف بأنني لم أكن أتوقف إزاء قضية التجديد ومجدديه وضرورته الحضارية، وأبعاده الفلسفية وتشغيلها فى منظومتنا الثقافية، لم أكن لأتوقف بإزاء هذا منذ البداية وحتى لقائى الحقيقى الواعد بأمين الخولي.

وعندما تطلع على «كتاب الخير» و«مناهج تجديد» و«المجددون فى الإسلام» تجدها كتبا متقدمة فى مجالها، ومن يقترب من الجذوة المضرمة فى عقليته وفى أسلوبه لطرح الأفكار القادرة على تثوير كل خلجة بعقل المتلقي، فى خضم وابل من المنهجية والرصانة والدقة والعمق والاستنارة التى تفيض بها أعمال الخولي، كذلك توضح حفيدته: أنا أتتبع الخولى فى جولاته بأنحاء التراث وصولاته لتجديده، كنت أستجمع فرائد كنز من الأصول المنهجية للنظرة الحضارية التى لا تنفصل أبدًا عن ذاتها وعن تراثها، ما دامت تراه قابلًا للتجديد والتطوير، وأدركت كم كان بصرى حسيرًا، وكانت تلك فاتحة لسلسلة من الزلازل.

وتختم د. يمنى الخولى كلمتها عن جدها، فتقول: «رفع الخولى شعاره الشهير والسديد «أول التجديد قتل القديم فهما وبحثا ودراسة»، أما إذا مضى المجدد برغبة فى التجديد مبهمة، وتقدم بجهالة للماضى وغفلة عنه، يهدم ويحطم، فذلكم - وقيتم شره - تبديد لا تجديد، هكذا كان الخولى يبث ويشمئز ويتهكم على كل من لا يفعل ذلك".

وحول فكر التجديد عند الشيخ أمين الخولي، يقول الدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة طنطا وصاحب كتاب " الإسلام العقلاني التجديدي الديني عند أمين الخولي": " التجديد عند الخولى هو حماية للدين، وجعله مسايرا لتغيرات الحياة، ويبدأ التجديد عنده من استيعاب القديم وتجاوزه، وضرورة التحرر من الماضي، والتقيد به والوقوف عند حدوده التى وقفت بطبيعة الأمور عند المستوى العقلي والاجتماعي لأهل هذا الزمن الماضي، ويتجه التجديد بعد ذلك من خلال إدراك الكليات العامة التى جاء بها الإسلام، وتقديم رؤية مستنيرة لها وفقًا لظروف المجتمع، ومتطلبات الواقع".

ويضيف "أحمد سالم" (مع حفظ الألقاب): «تمحورت دعوة التجديد عند أمين الخولى فى التركيز على البعد الاجتماعي للإسلام، أى على البعد الدنيوي، ولم يخض كثيرا فى الإطار الغيبي للإسلام إلا باعتباره دافعا للحياة الدنيا، وبدا له الإسلام محاولة إصلاحية كبرى لتنظيم روابط الجماعة الإنسانية، وتنسيقا للنفس البشرية فى صور وجودها المختلفة، من وجود فردى مستقل، ووجود جماعي شامل، على اختلاف أحوال الجماعات التى يندمج المرء فيها، ويرى الخولى أن الإسلام لم يأت في المشكلات الاجتماعية بغير الكليات العامة القابلة للتفسير فى كل زمان، فالقرآن عودنا فى تدبيره الاجتماعي ألا يمس سوى الأصول الكبرى للإصلاح تاركا وراء ذلك من تفصيل للتدرج الحيوي، والجهاد العقلي الإنساني، لينتفع فى ذلك بكل ما يسعفه عليه نشاطه، ويؤهله له تقدمه، ويقدر الإسلام في ذلك اختلاف الأحوال وتغير الزمان، وفى ضوء الكليات العامة للقرآن رأى الشيخ أمين الخولى مشكلة المال فى القرآن، فيرى أن القرآن قدر للإنسان حب التملك».

ويشكل مفهوم التطور مفهوما أساسيا في بنية خطاب النظر والتحليل عند الخولي، ولا يرتقي لأن يمثل مفهوما تفسيريا ف بحثه عن التجديد الديني، يقيس عليه، ويرجع إليه دائما، وينظر إلي القضايا من خلال نسبتها إليه، وهو من أكثر المفاهيم تواتراً في كتابه:" ( المجددون في الإسلام)،، وبشكل يلفت الانتباه حقا لشدة بروزه وحضوره .

وحين توقف أحمد سالم عند هذه الملاحظة، أرجع تفسيرها إلي تأثر الخولي بنظرية التطور عند دارون، حيث عقد فصلا في كتابه:" الجذور العلمانية في الفكر التجديدي عند امين الخولي)، تناول فيه أثر نظرية التطور علي فكر الخولي . وفي هذا الفصل أشار أحمد سالم إلي ما أسماه دفاع الخولي عن نظرية التطور، وتأكيده علي أن دارون وأتباعه من الدارونيين لم ينكروا الألوهية، ورفض القول بأن الإسلام يعارض نظرية التطور، وسعيه لتأصيل هذه النظرية ليتخذ منها رؤية منهجية وفلسفية، يستعين بها في التجديد اللغوي، والتجديد الديني، وفي دراسة تاريخ الأديان .

وعلي أساس هذه الفرضية بني أحمد سالم أطروحة ( كما يقول زكي الميلاد في دراسة له بعنوان أمين الخولي والمجددون في الإسلام) كتابه المذكور، وأخذ يشرح أثر نظرية التطور في موقف الخولي من التجديد اللغوي والديني، وفي العديد من القضايا الأخرى، وخلص إلي أن الخولي وظف نظرية التطور من أجل إعادة بث الحياة والروح في الفكر الديني، ولهذا كان تأثر الخولي بهذه النظرية في نظره، عاملاً فعالاً في تجديده للتفكير الديني.

وبعد أن اختار الخولي مفهوم التطور في التعبير عن معني التجديد، جاء حديثه عن أسس الطتور في الإسلام، بدل عنوان أسس التجديد في الإسلام، ويعد هذا البحث من أكثر مباحث كتاب الخولي تميزاً، وأكثرها تعبيراً عن جوهر أطروحته في التجديد الديني، ويعتقد الخولي أن من ينظر بعمق وسعة أفق إلي الصورة العامة للإسلام بوصفه ديناً ونظاماً اجتماعياً عملياً، يتضح له انه يحمل أسساً للتطور تهيئه لذلك، وتعده لتحقيقه في يسر، ودون مصادمة لشئ من تطور الدنيا حوله نظرياً وعملياً، لتطور الذي يمضي متوثباً جريئاً حسب قوله ؛ لأن الواقع الذي لا مفر منه ولا محيد عنه .

وفي نهاية حديثي عن سلبية التقليد وإبداعية التجديد عند أمين الخولي لا أملك إلا أن أقول: رحم الله أمين الخولي والذي كان واثق الخطوة في كل مواقفه. كان مجدداً ولم يكن مقلداً بأي وجه من وجوه التقليد. والمجدد ينظر إلى الأمام، والمقلد ينظر للخلف والعياذ بالله، المجدد يمثل النور، والمقلد يمثل الظلام، ألم يقل الفيلسوف ابن سينا في دعائه إلى الله تعالى: فالق ظلمة العدم بنور الوجود. ومن حكمة الله تعالى أنه خلق عيوننا في مقدمة أدمغتنا، ولم يوجدها في مؤخرة الأدمغة. كانت كتابته تمثل شلالاً متدفقاً من الحكمة والمعرفة، وإن كان أكثرهم لا يعلمون، وتعد بحراً على بحر، إنها تعد نوراً على نور، ويكفيه أنه حارب طوال حياته حياة الظلام والتقليد، إنه مدرسة كاملة، وإذا كانت روحه قد صعدت إلى السماء، فقد صعدت إلى عالم الخلود والبقاء واستراحت من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

فتحية طيبة للمفكر المبدع أمين الخولي الذي كان يمثل لنا نموذجا فذا للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

بارك الله لنا في أمين الخولي قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه "أشباه المفكرين"، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطنناً، بهدف الكشف عن مسالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنسانا نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم