شهادات ومذكرات

عاصم الدسوقي.. مفكراً ليبيرالياً (1)

محمود محمد عليعرفت الدكتور عاصم الدسوقي (أستاذ التاريخ المعاصر الاقتصادي والاجتماعي بجامعة حلوان بجمهورية مصر العربية) عندما كان يُدرس له بجامعة أسيوط "مقرر التاريخ الحديث"، وزادت علاقتي به عندما عُينت مدرساً للمنطق وفلسفة العلوم بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة حلوان في منتصف تسعينيات القرن الماضي.. كان بالنسبة نعم الأستاذ والصديق، وهو يمثل قامة، وقيمة علمية، وأخلاقية كبيرة، على المستوى العلمي، والمستوى الشخصي أيضاً، لأنه دائما ً كان يمد يد العون، لمن يعرف، ولمن لا يعرف صغيراً وكبيراً؛ كما يتميز بدماثة الخلق، وحسن المعاملة فى العمل.

والحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون وهي أن الدكتور عاصم الدسوقي هو واحداً من كبار الرواد في دراسة التفسير الماركسي للتاريخ بمصر والعالم العربي، وقد استطاع من خلال بحوثه ومؤلفاته أن ينقل البحث في دراسة التفسير الاجتماعي والاقتصادي للتاريخ من مجرد التعريف العام به، أو الحديث الخطابي عنه – إلي مستوي دراسته دراسة موضوعية، تحليلية – مقارنة . وقد كان في هذا صارماً إلي أبعد حد: فالسند والنص التاريخي لديه هو مادة التحليل الأولي، ومضمونه هو أساس التقييم، والهدف منه هو الذي يحدد اتجاه صاحبه.

ولذلك يعد عاصم الدسوقي (مع حفظ الألقاب) واحداً من رواد الفكر التاريخي المعاصر، وهو ينتمى إلى جيل الستينات من القرن المنصرم، وصاحب الفضل فى تأسيس مدرسة وطنية أصيلة فى التاريخ الحديث والمعاصر فى مصر والوطن العربي، حيث كان من سماتها الصدق والموضوعية والوعي الحضاري، كما استطاع أن يجمع في شخصه وفكره ونشاطه المفكر والمؤرخ والعالم والمناضل الساسي، واتسمت دراساته التاريخية بالعمق واستشراف المستقبل وتجاوز الأنماط التقليدية في الكتابة التاريخية في الكتابة التاريخية، حيث شرع  في العمل علي موضوعات مبتكرة تغاير الصور النمطية للمؤرخ، وهو عالم ومؤرخ صنع نفسه، وعلمها ليعلم الآخرين، وصقلته التجارب وعاصر أخطر الأحداث المعاصرة في تاريخنا المصري المعاصر، مثل ثورة 25 يناير 2011، ووصول جماعة الإخوان لسدة الحكم، وثورة 30 يونيو 2013، فانتصر عليها وقيمها وطوعها، إنه نموذج فريد للإنسان المتفوق المنتصر.. امتدت مسيرته علي مدي ستة عقود جمع فيها بين الاكاديمي والتطبيقي محققاً بصمة لا يجاريه فيه أحد في البحث التاريخي المعاصر، ويُعرف في مصر والعالم العربي والعالمي بشيخ المؤرخين العرب ؛ إضافة إلي هذا الإرث العلمي الزاخر  الذي تركه الدكتور عاصم  إلي مئات الطلبة وربما الآلاف الذين تتلمذوا علي يديه سواء بجامعة أسيوط  وسوهاج وحلوان  أو عن طريق ما ألفه من كتب وسائل علمية، عاش مدافعا عن القيم والثوابت الوطنية .

تميز عاصم الدسوقي (مع حفظ الألقاب) بالثقافة الواسعة التي كسبها في أناة وصبر، والذاكرة الواعية الحافظة، فهو عندما يقدم علي الحديث لا يتعجل، بل يحاور ويعلق،وبعد ذلك يلم بأطراف ويدلي برأيه .. لا تفوته ملاحظة ولا تغيب عنه ذكري .. عشق التاريخ المصري الحديث والمعاصر، ولم يعمد أبداً لخلط أسلوبه بالقديم وباللفظ المهجور أو الغريب، وهو رائد من رواد الفكر التاريخي المصري المعاصر .. عني بالمشكلات التاريخية والسياسية والاقتصادية والمسائل الاجتماعية وقد أعانه علي ذلك تجواله وعمله الإداري والاكاديمي في الجامعات المصرية، واستطاع أن يكتب عن تاريخنا الحديث والمعاصر بمعرفة ودقة وعقل فاحص .. وهو مكافح حر، ومثقف موسوع الثقافة .. كان واقعياً تناول الثقافة التاريخية من جوانبها التطبيقية، وهذا الرجل لم يقف عند الزحام، ولكنه خطا في السهول المنداحة ..

وقد حصل الدكتور عاصم الدسوقي علي وسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب، وشهادة من هيئة فولبرايت الأمريكية بالقاهرة تقديراً لجهوده العلمية لطلاب الدكتوراه الأمريكيين الباحثين في تاريخ مصر، عضوية فخرية للجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، وميدالية مؤرخ العام من الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية 2013م،وسام الجمهورية للعلوم والفنون من الطبقة الأولي 2013م من الرئيس عدلي منصور.. وهو زميل زائر بمركز الشرق الأوسط جامعة أكسفورد – إنجلترا، وباحث زائر بمعهد اقتصاديات الدول النامية طوكيو – اليابان، وأستاذ زائر بجامعة شيكاغو الأمريكية، وحاضر في جامعات شيكاغو الأمريكية واليرموك بالأردن وروتجرز ونيوجيرسي بالولايات المتحدة الأمريكية وبغداد والبصرة بالعراق، ودمشق، وجامعة صنعاء باليمن. (وذلك كما قالت  د. ماجد عزت اسرائيل في مقالها الدكتور عاصم الدسوقى علامة بارزة فى تاريخ مصر! )..

ولد عاصم الدسوقي، فى محافظة الغربية فى عام 1939، تلقى تعليمه الأولي فى ذات المدينة، وحصل على درجة الماجستير والدكتوراه في التاريخ الحديث من كلية الآداب جامعة عين شمس فى مارس 1973، وبعد ذلك عُين مدرساً للتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة أسيوط (فرع سوهاج) وترقي بعد ذلك إلي أستاذ مساعد ثم أستاذاً، وبعد ذلك عُين عميداً لكلية الآداب بسوهاج لأكثر من دورة (1984-1990)، وفي بدايات تسعينيات القرن الماضي انتقل إلي جامعة حلوان ليكون من مؤسسيها خلال (يناير1995- يناير1999) إلي أن بلغ سن المعاش، وهو حالياً أستاذا متفرغاً بقسم التاريخ بكلية الآداب - جامعة حلوان.

كما شغل عاصم الدسوقي عدة وظائف أخري منها أنه كان: عضو مجلس إدارة الجمعية المصرية للدراسات التاريخية، وعضو المجلس القومي للثقافة، والمجالس القومية المتخصصة، وعضو اللجنة التنفيذية لرابطة المؤرخين الأفارقة (باماكو عاصمة جمهورية مالي)،والشعبة المصرية لاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا 1990م، والجمعية التاريخية للعلاقات الدولية ميلانو إيطاليا 1993 وشارك في اللجنة العلمية لدار الوثائق القومية، وعضو الجمعية الثقافية لحماية الآثار الإسلامية والقبطية 2000 م.

ولعاصم الدسوقي دراسات متخصصة ما بين كتب وبحوث تربو على الستين عملا اعتبارًا من 1975م، نذكر منها منها علي سبيل المثال لا الحصر: " كبار ملاك الأراضي الزراعية ودورهم في المجتمع المصري "1952-1914"، "فكرة القومية عند الإخوان المسلمين في مصر"، و"مصر المعاصرة في دراسات المؤرخين المصريين"، و"مجتمع علماء الأزهر في مصر.. دراسة في البناء التنظيمي والاجتماعي"، و"نحو فهم تاريخ مصر الاقتصادي والاجتماعي"، و"الصهيونية والقضية الفلسطينية في الكونجرس الأمريكي"، و"جذور المسألة الطائفية في مصر الحديثة"، و"المسيحيون العرب بين الطائفية والوطنية".

علاوة علي العديد من الكتب المترجمة نذكر منها" تفكيك أوروبا العثمانية (إنشاء دول البلقان القومية 1804 1920م) "، ومراجعة وتقديم كتاب "الأصول الاجتماعية والثقافية لحركة عرابي في مصر" 2001م، بالإضافة الى مراجعة وتقديم المئات من الكتب، نذكر أخرها كتاب "أرمن مصر .. وفلسطين بعيدا عن السياسة" الصدار عن دار العربي للنشر والتوزيع عام 2017، "والأقباط والمشاركة الوطنية" الصادر فى عام 2015م .

وقد علمتنا قراءة تاريخ الأعلام أن الشخصية العظيمة هي التي تختلف آراء الناس حولها اختلافاً كبيراً، وكلما كانت الشخصية أشد لمعاناً كان الاختلاف بشأنها أكثر حدة . والواقع أنني لم أكن أتصور في يوم في من الأيام أن ألتقي في حركة الحياة الجارية، بمثل هذه الشخصية، حتي وضعتني الظروف في طريق عاصم الدسوقي .

كان عاصم الدسوقي رجلاً وهبه الله خلقة حسنة، فهو معتدل الطول، ليس باليدين المفرطح، ولا القصير المنكدر، له عينان يشع منهما بريق حاد يدل علي ذكاء متقد  ويوحي بشخصية قوية . ملبسه أميل إلي الأناقة، ولكنها الأناقة التي لا يبدو منها تكلف ولا يظهر عليها استعلاء . كان متحفظاً في حركاته، وقوراً في مشيته . أما مجلسه فغاية في الاحترام الذي لا يخلو أحياناً من تبسط، ولكنه لا يشجع الثرثارين والمتفيقهين، ويستبعد تماماً النمامين والوشاة .. عايشت عاصم الدسوقي، ما يقرب من أكثر من عشرين عاماً، لم أره فيها ينحني أمام أحد من رؤسائه، أو يتملقه، أو يداهنه، وكان شديد الاعتزاز بنفسه، معتمداً علي قدراته الخاصة، وكفاحه الشخصي، ولم يكن يفخر بجاه ولا مال، وإنما كان موضع فخره الدائم: انجازه العلمي الذي حققه بالعمل الدؤوب، والجهد المتواصل.

وقد شهد له الكثيرون ونذكر هنا ما قاله الراحل الأستاذ الدكتور "يونان لبيب رزق" لكاتب هذه السطور حيث ذكر قائلاً:" أن عاصم الدسوقي يتمتع بوطنيه عميقة، ولديه حب للآخر القبطي لا يوصف ولا ينكره  من المسيحيين كل من تعامل معه.. فأنه نموذجاً للمسلم المستنير"، أما صديق عمره الراحل الدكتور رءوف عباس حامد (1939-2008م)، فذكر عنه قائلاً:" طوال حياتي لم أجد صديقاً وأخا فى السراء والضراء مثل عاصم الدسوقي"، أما الأستاذ الدكتور "محمد عفيفي" رئيس قسم التاريخ بجامعة القاهرة فوصفه لكاتب المقال قائلاً:" هو أحد نوابغ التاريخ الحديث والمعاصر فى مصر والعالم العربي"، أما الدكتور ناصر إبراهيم فكتب على صفحته بالفيس بوك قائلاً" جميعنا يعلم مكانة الدكتور عاصم الدسوقي‏. " قامة سامقة من جيل نادر .. جيل الستينات " صاحب الفضل فى تأسيس مدرسة وطنية أصيلة فى مصر والوطن العربي، وهو محاور رائع ومفكر فذ، إن نظرة واحدة على الحوارات المتلفزة أو المدونة فى الصحف والدوريات المختلفة لأستاذنا الجليل دكتور عاصم الدسوقي، ستجدونها تشكل فى مجملها معيناً معرفياً غني بالنظرات العميقة فى طرح المعطيات التاريخية ورهانات التفسير الثرية المحفزة للتفكر". وقالت عنه د. ماجد عزت: " اعتقد لو كل مسلمي مصر مثل الدكتور عاصم الدسوقي لما هاجر قبطي واحد مصرنا الحبيبة.. (وذلك نقلاً عن  د. ماجد عزت اسرائيل في مقالها السابق).. وللحديث بقية عن مواقفة الليبرالية في مقالنا التالي..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم