شهادات ومذكرات

عزت قرني: فيلسوف مصري في جامعة الكويت

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور عزت قرني (أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس والمعار لجامعة الكويت) واحداً من كبار الأساتذة الأكاديميين الذين أحبوا الفلسفة، واتخذها طريقاً لمحبة الحياة، وعمق حبه لها بالبحث المنهجي والدرس الأكاديمي لتاريخها، ومذاهبها، ومدارسها الفكرية، بداية من عصورها الكلاسيكية الأولى إلى ما وصلت إليه في عالمنا الراهن؛ حيث كان شغله الشاغل أن ترتبط الفلسفة بالمجتمع، بقضاياه الاجتماعية والسياسية والثقافية، وأن تكون مرآة يتطلع من خلالها إلى معنى الخير والحرية والجمال والحقيقة.

وأكاديمياً بدأ عزت قرني (مع حفظ الألقاب) جهده الفلسفي من جعبة الفلسفة  المثالية  ومن نقطتين،  إحداهما تمثل عتبة البدايات والأخرى تمثل، قوس النهاية؛ ففي البدايات مثلت فلسفة أفلاطون نقطة البدء في منهج عزت قرني الأكاديمي، فكانت أطروحته للدكتوراه التي حصل عليها من جامعة السوربون بفرنسا عام 1972 بعنوان «الدوكسا في نظرية المعرفة الأفلاطونية». وفيها فند فلسفة أفلاطون وفق مبدأ التدرج والانتقال بالمفاهيم والرؤى المعرفية من مستوى (الدوكسا) والتي تمثل أيديولوجية الرأي العام الشائعة، إلى مستوى أكاديمي علمي يتحرى الضبط المعرفي والمنهجي، وإعمال العقل في الرصد والتحليل والتقييم.

ولد إمام عبد الفتاح إمام بمحافظة الشرقية، شمال شرقي القاهرة عام 1934 لوالد من علماء الأزهر الشريف، وخلال رحلته الوظيفية عمل بأغلب جامعات مصر، وجامعة الكويت، وطرابلس، وجامعة سبها بليبيا، كما أشرف على الكثير من رسائل الماجستير والدكتوراه داخل مصر وخارجها، وهو أبرز تلاميذ زكي نجيب محمود، وأهم الباحثين في فكره وفلسفته.

والدكتور عزت قرنى هو واحد من آخر جيل عمالقة الفلسفة في مصر، وقد ولد في الجيزة بمصر في 15 يناير 1940. تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة عام 1960، وحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون (باريس – فرنسا) عام 1972 عن أطروحة بعنوان الدوكسا في نظرية المعرفة الأفلاطونية. وهو حاصل على جائزة الدولة التشجيعية في الفلسفة عام 1975، وعلى وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1976، وهو عضو في الجمعية الفلسفية المصرية والجمعية التاريخية المصرية وجمعية محبي الفنون الجميلة بالقاهرة. عُيِّن في جامعة الكويت عام 1987.

وقد أثرى عزت قرني المكتبة العربية بعدة مؤلفات نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: كتاب الفلسفة اليونانية حتى أفلاطون؛ وكتاب الفكر الجديد في أزمة الفكر العربي المعاصر؛ وكتاب العدالة والحرية في فجر النهضة العربية؛ وكتاب مستقبل الفلسفة في مصر؛ وكتاب في الفكر المصري الحديث؛ وكتاب فعل الإبداع الفني مع نجيب محفوظ؛ وكتاب تأسيس الحرية ، طبيعة الحرية؛ الذات ونظرية الفعل، فكرة الخير ونظرية الشر.

كما أسهم عزت قرني فلسفياً على مستوى الترجمة، فقد كان له الفضل في أن ينقل إلى العربية – عن اليونانية القديمة- عدداً من محاورات الفيلسوف اليوناني أفلاطون. اتسمت ترجمته بسلاسة التعبير مع الإبقاء -بقدر الإمكان- على المغازي الفلسفية وغير الفلسفية للنص الأفلاطوني. علاوة على ذلك، كتب قرني لكل محاورة مقدمة تمهد للقارئ الطريق بأن تضعه في السياق التاريخي للنص، وبأن تقترح عليه هيكلا أوليا للتطور العضوي للأفكار. أضاف عزت قرني إلى النص المترجم هوامش حوت ملاحظات أو إيضاحات أو إحالات نصية، الأمر الذي زاد النصوص ثراء ووضوحا.

وكان الدكتور عزت قرني قمة في التواضع، فهو الإنسان بكل ما تحمله كلمة الإنسان من معاني ودلالات، فلقد وهب حياته كلها للجامعة : تعليماً وبحثاً، وظل اهتماماته الرئيسية هي اهتمامات أستاذ جامعي يسعي إلي أن يرتفع بعمله إلي أعلي مستوي ممكن، ومن هنا فإنه يمثل القدوة والريادة وستظل كتاباته تمثل المنارة التي يهتدي بها الإنسان في الظلام تمثل الشعلة الخالدة، شعلة الفكر، وما أعظمها من شعلة .

وكان عزت قرني من المؤمنين بأن الفلسفة هي الممثل الشرعي لوجود المجتمعات، لأنها تحمل الرؤية الحقيقية للكون والإنسان. علاوة علي أن هناك بعض الأقلام والأصوات في نظر عزت قرني تهمش دور الفلسفة معتبرة أنها بلا أهمية، لذا يرى أنه علينا أن نميز بين أمرين مختلفين: الأول هو تدريس الفلسفة، والثاني هو مكانة الفلسفة في المجتمع، وينبغي للجميع إدراك أن كل مجتمع وتجمع له نوع خاص من الفلسفة، لأن المعنى الحقيقي للفلسفة بوجه عام هو الرؤية للكون والإنسان والعلاقة فيما بينهما، فهي الكلام عن المبادئ والغايات والأصول التي توجه السلوكيات لتحديد وترشيد الخطوات فتجد أن الفلسفة قد تكون ضمنية أي بشكل تلقائي تظهر من خلال الأعمال والأفعال ولكن وجودها غير واضح أو تكون معروضة بشكل محدد وبصياغة واضحة ومكتوبة ونحن نريدها محددة لكي نصل الى الفعالية والانتاجية بأقل التكاليف الممكنة.

وكان عزت قرني صاحب مشروع فلسفي ، حيث كان دائما ما يقول لنا : إن رسالتي الفكرية الهادفة إلى بلورة رؤية فلسفية جديدة خاصة بالثقافة العربية نابعة من مواقفنا و تصوراتنا ومشاكلنا الحالية لتقدم بطريقة حرفية تفصيلية، كما أننا مطالبون بالتعريف بإنجازات الحضارة الإسلامية التي شوهتها الحركات المتطرفة في زمن طغت وغلبت فيه العلوم التطبيقية وتحولت أغلب العلوم الإنسانية إلى علوم حية، هل تؤيد أن تكون الفلسفة تطبيقية؟ وهل توجد فلسفة ذات عمل جماعي.

وكان أيضاً يقول لا احد ينكر أن هذا العصر هو عصر التطبيقات بل إن التكنولوجيا أصبحت أهم من معظم العلوم ومن يعمل فيها يكسب أموالا أكثر ممن يعمل في البحوث العلمية البحتة، لكن لا يمكن أن تقوم التكنولوجيا من دون ‘الأبحاث النظرية’ التي تعتبر أساساً ما يتولد عنها من تطبيقات، لذا فإن الحضارة الغربية بكل ما انتجت تعود إلى أفكار بالأساس نظرية، قدمها فلاسفة منذ عصر النهضة الاوروبية.

وقد سئل عزت قرني ذات مرة في إحدى ندواته الرائعة بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر بأن السلطة الدينية تحارب الفلسفة وترفض تدريسها فما سبب ذلك برأيك؟

وقد أجاب قرني بأن السلطة الدينية ترفض الفلسفة باعتبارها منافسة لها لذا فإن معظم الفلاسفة المسلمين والذين أطلق عليهم ب المتفلسفين’ هم برأيي ليسوا فلاسفة بالمعنى الدقيق، والمشكلة الأساسية في السلطة المعنوية التي أصبحت حكرا على البعض وهي يمكن أن تكون موزعة على جهات عدة وفي ذلك ‘فليتنافس المتنافسون أما بالنسبة لما يدرس في البلاد الاسلامية فهو منقول من منظور غربي بحت والسلطة الدينية تتخوف من الفلاسفة لأنهم يفكرون.

ثم يطرح لنا عزت قرني الحل لإنقاذ ثقافتنا أو لتكوين فلسفتنا الخاصة بنا فيقول : أنا أفضل تسمية ثقافتنا الجديدة باسم ‘الأصوليات’ لكي نبتعد عن الاسم ‘الفرنجي’ وتتخلص من التأثير الاجنبي عليها، لأن الفلسفة هي علم الأصول كما قال العلماء، وبالنظر إلى الحضارة الإسلامية نجد أنهما قد أنتجت اتجاهات مهمة في ميادين العلم ، ولكن يرجع أساسها وأصلها إلى التوحيد، ولا بد لنا أيضا من إعادة تكوين علم أصول الدين ليحمل أساسا نظرة إسلامية مستقبلية فعلم أصول الدين القديم أصبح تاريخياً.

وتوفي في يوم الأثنين الموافق 17 يونيو 2019 عالمنا المفكر والفيلسوف الدكتور عزت قرني أستاذ الفلسفة بكلية الآداب ، ورئيس لجنة الفلسفة بالمجلس الأعلى للثقافة، إثر حادث سيارة في مدينة الشيخ زايد عن عمر يناهز 79 عاماً .

وقد نعى المجلس الأعلى للثقافة بأمانة الدكتور هشام عزمى، الفيلسوف والمفكر المصري الدكتور عزت قرني مقرر لجنة الفلسفة بالمجلس، والذي لقي مصرعه عصر اليوم في حادث أليم. وفي بيان المجلس أعرب الدكتور هشام عزمى، عن حزنه وأسفه الشديد لهذا الخبر الحزين كما وصفه، وقال إن الراحل كان له مشروعه الفلسفي الخاص والهام، وأضاف: “عهدناه وطنيا مخلصا، مؤمنا بدور الفلسفة في قيادة المجتمعات”. وتابع الدكتور هشام عزمى، :"إن خسارة هذا العالم الجليل خسارة كبيرة تلاميذه ومحبيه، رحمه الله وغفر له وألهم محبيه الصبر".

تحية طيبة عزت قرني الذي كان ومازال يمثل لنا نموذجاً فذاً للمفكر الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به و يسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لرجلٍ لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

رحم الله الدكتور عزت قرني، الذي صدق فيه قول الشاعر: وليس موت أمرئ شاعت فضائله كموت من لا له فضل وعرفان.. والموت حق ولكن ليس كل فتى يبكي عليه.. إذا يعزوه فقدان في كل يوم .. ترى أهل الفضائل في نقصان عدد وللجهال رجحان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم