شهادات ومذكرات

الأزهر منارة العالم الإسلامي التي لا تغيب (1)

محمود محمد عليتحل علينا هذه الأيام ذكرى مرور 1080 عاما هجرياً على تأسيس الجامع الأزهر الشريف، باكورة المساجد في مدينة الألف مأذنة بقاهرة المعز لدين الله الفاطمي، والذى يعد من أهم المساجد في مصر وأشهرها في العالم الإسلامي، وأيقونة الدين الوسطي، ورمز الدولة المصرية في الساحة الدينية العالمية، فليس على وجه الأرض بقعة جمعت من علماء الأرض وصلحائها والجهد في طلب العلم وتعلمه وتعليمه، والدأب في ذلك الليل والنهار مثله؛ بحيث أجمعوا على أنه لم يقع منذ أزمان وإلى الآن أنه خلا من عِلْم أو ذكر ساعة من ليل أو نهار"، هكذا قالوا عن الأزهر الشريف.

ليس هذا فقط بل كان الأزهر ملاذاً للمظلومين ، وملجأ للمقهورين .. الأزهر الذي كان يقف بالمرصاد  للبغاة والطغاة .. الأزهر الذي ولي أقوي وأعظم حاكم في مصر عبرها الحديث، محمد علي ... الأزهر الذين حمل مشعل ثورة 1919 وفتح الباب لإخوة الوطن من الأقباط  حتي يمكن لهم أن يعبروا من علي منابره  عن موقفهم الرافض للاحتلال، والذي أرسل بعض شيوخه ليخطبوا في الكنائس حاثين علي الثورة.

وقد تم إنشاء الجامع الأزهر على يد "جوهر الصقلي" قائد الخليفة الفاطمي "المعز لدين الله" في 24 جمادى الأولى 359هـ/ 4 أبريل 970م أي بعد عام من تأسيس مدينة القاهرة، واستغرق بناؤه ما يقرب من 27 شهرًا، حيث افتُتِح للصلاة في يوم الجمعة 7 رمضان 361هـ الموافق 21 يونيه 972م، وما لبث أن تحول إلى جامعة علمية؛ ولم يكن يُعرف منذ إنشائه بالجامع الأزهر، وإنما أطلق عليه اسم جامع القاهرة، وظلت هذه التسمية غالبة عليه معظم سنوات الحكم الفاطمي، ثم توارى هذا الاسم، واستأثر اسم الأزهر بالمسجد فأصبح يعرف بالجامع الأزهر، وظلت هذه التسمية إلى وقتنا الحاضر.

وأُطلق عليه اسم الجامع الأزهر؛ نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء ابنة النبي، صلى الله عليه وسلم.

كان الأزهر أول ما أقيم يتكون من صحن المسجد الحالي المكشوف، والذى تحف به العقود المدببة من كل جانب وبيت الصلاة المسقوف الذى كان يقع الى شمال الصحن الحالي وكان له جانبان : أيمن وأيسر، فيهما مبان، فكان فى كل من الجانبين الأيمن والأيسر ثلاثة أروقة (الرواق منطقة تجمع بين عدة أعمدة) ثم توالت الاضافات والزيادات حتى أصبح الجامع الأساسى فى قلب الجامع الأصلى، وأضيف للمبنى أروقة جديدة - مدارس - محاريب - مآذن - ميضات (أماكن للوضوء) . حتى أصبح الأزهر اليوم منارة فنية رائعة .

وللأزهر أيضا ثلاث قبات أجملها وأكبرها تلك التى تقوم فوق المدرسة الجوهرية الملحق بالأزهر لأنها تقوم على رقبة ذات شماسات ثم عقود مدببة مزينة من الخارج بنقوش عربية غاية فى الجمال . وهناك على يمين الأزهر أروقة مختلفة وهى عبارة عن الشئون الإدارية لطلاب الأزهر وسنتحدث عنها عند الحديث عن التعليم فى الأزهر ويزين الجامع الأزهر 380 عمودا، ويتميز شكل صحنه باحتفاظه بالشكل المربع الذى أقيم عليه حتى الآن

ولعل أول عمارة أدخلت على الأزهر هي التي قام بها الخليفة الفاطمي الحافظ لدين الله، حيث زاد في مساحة الأروقة؛ وأقام قبة حافلة بالنقوش الجصّية البارزة لا تزال قائمة حتى اليوم. وفي العصر المملوكي اعتنى السلاطين بالأزهر بعد الإهمال الذي لحقه في العصر الأيوبي، وكان الأمير “عز الدين أيدمر” أول من اهتم بالأزهر، فقام بتجديد الأجزاء التي تصدعت منه، ورد ما اغتصبه الأهالي من ساحته، وجمع التبرعات التي تعينه على تجديده، فعاد للأزهر رونقه وبهاؤه ودبت فيه الحياة بعد انقطاع، واحتفل الناس بإقامة صلاة الجمعة فيه في يوم (18 من ربيع الأول سنة 665 هـ = 19 من نوفمبر 1266م)؛ ثم قام الأمير “علاء الدين طيبرس” نقيب الجيوش في عهد الناصر محمد قلاوون بإنشاء المدرسة الطيبرسية سنة (709 هـ = 1309م)، وألحقها بالجامع الأزهر، وقرر بها دروسًا للعلم، وقد عني هذا الأمير بمدرسته فجاءت غاية في الروعة والإبداع المعماري.

ولم تكد تمضي ثلاثون سنة على هذه العمارة حتى أنشأ الأمير علاء الدين آقبغا سنة (740 هـ = 1340م) –وهو من أمراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون – المدرسة الأقبغاوية، وهي على يسار الداخل من باب المزينين، وأنفق عليها أموالا طائلة حتى جاءت آية في الجمال والإبداع، وبخاصة محرابها البديع، وجعل لها منارة رشيقة؛ ثم أنشأ الأمير جوهر القنقبائي خازندار السلطان الأشرف برسباي مدرسة ثالثة عُرفت باسم المدرسة الجوهرية، وتقع في الطرف الشرقي من المسجد، وتشتمل على أربعة إيوانات على الرغم من صغر مساحتها، أكبرها الإيوان الشرقي، وبه محراب دقيق الصنع، وتعلو المدرسة قبة جميلة.

ولم تتوقف العمارة في الجامع الأزهر في عهد المماليك الجراكسة؛ حيث قام السلطان قايتباي المحمودي سنة (873 هـ = 1468م) بهدم الباب الواقع في الجهة الشمالية الغربية للجامع، وشيده من جديد على ما هو عليه الآن، وأقام على يمينه مئذنة رشيقة من أجمل مآذن القاهرة، ثم قام السلطان قانصوه الغوري ببناء المئذنة ذات الرأسين، وهي أعلى مآذن الأزهر، وهي طراز فريد من المآذن يندر وجوده في العالم الإسلامي.

غير أن أكبر عمارة أجريت للجامع الأزهر هي ما قام بها “عبد الرحمن بن كتخدا” سنة (1167 هـ = 1753م) وكان مولعًا بالبناء والتشييد، فأضاف إلى رواق القبلة مقصورة جديدة للصلاة يفصل بينها وبين المقصورة الأصلية دعائم من الحجر، وترتفع عنها ثلاث درجات، وبها ثلاثة محاريب، وأنشأ من الناحية الشمالية الغربية المطلة حاليًا على ميدان الأزهر بابًا كبيرًا، يتكون من بابين متجاورين، عُرف باسم باب المزينين، كما استحدث باباً جديدًا يسمى باب الصعايدة وأنشأ بجواره مئذنة لا تزال قائمة حتى الآن، ويؤدي هذا الباب إلى رواق الصعايدة أشهر أروقة الأزهر.

وفي عهد أسرة محمد علي عني الخديوي عباس حلمي الثاني بالأزهر، فجدد المدرسة الطيبرسية، وأنشأ لها بابًا من الخارج، وأضاف إلى أروقة الأزهر رواقًا جديدًا هو الرواق العباسي نسبة إليه، وهو أحدث الأروقة وأكبرها، وافتتح في (شوال 1315 هـ = يناير 1897م)؛  وقد أدخلت الآن تجديدات على الأزهر وتحسينات على عمارته بعد حادث الزلزال الذي أصاب الجامع بأضرار بالغة في سنة (1413 هـ = 1992م).

وقد لعب الأزهر أدواراً كبيرة في الحياة السياسية المصرية، وخاصة منذ قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798م؛ حيث كان مركزا للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال ومنة خرجت ثورات القاهرة بين أعوام 1798 و 1801 وفي أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 أعلن الزعيم المصري الراحل "جمال عبد الناصر" من على منبر الأزهر أن مصر لن تستسلم لقوى العدوان وأن مصر ستقاتل حتي تدحر العدوان..

وكذلك لعب الأزهر دوراً عظيماً في النهضة الفكرية في مصر والعالم العربي من خلال طلابه الذين تخرجوا منه، وهم كثيرون جداً، لكننا نذكر نفراً منهم في هذا المقال مثل : عبد الرحمن الجبرتي، ورفاعه رافع الطهطاوي، وعلي مبارك، ومحمد عبده،  وسعد زغلول، وطه حسين، ومصطفي لطفي المنفلوطي، وأحمد حسن الزيات، وعلي عبد الرازق، ومصطفي عبد الرازق، ومحمد مصطفي المراغي .. وهلم جرا.

وفي سنة 1961 دخل الأزهر في طور جديد من تاريخه، إذ صدر القانون الذي حوله إلي جامعة حديثة وتضاعف عدد طلابه، حتي أصبح مؤسسة دينية علمية فريدة في بابها من كل وجه.

ولا يضارع الأزهر معهد آخر في الدنيا، في الخدمات العلمية التي قام بها منذ إنشائه قبل نيف وألف سنة إلي اليوم، فقد كانت وفود الطلبة تقبل عليه من أركان الدنيا كلها، فيجاورون في الأزهر، ثم يعودون إلي بلادهم شيوخاً يقومون  بدورهم بإنشاء المعاهد الدينية الإسلامية في بلادهم، وحيثما نزلت في العالم الإسلامي وجدت الأزهريين، من أقصي الفلبين إلي المحيط الأطلسي وقلب إفريقية. وإلي الأزهر يعود جانب كبير من الفضل فيما تمتعت به مصر علي مر العصور كمركز من مراكز العلم والعرفان في الدنيا.

ونختتم حديثنا في هذا المقال فنقول : إن الأزهر كجامعة، إذا كان يقوم علي أرض مصر، وتم إنشاؤه منذ البداية علي هذه الأرض، ويمول من الأموال المصرية في غالب الأحوال، لكنه تحول ليصبح جامعة لكل المسلمين، وتاريخه عبر القرون خير شاهد علي ذلك، ومن ثم فلا ينبغي أن يسقط هذا من الحساب.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

.......................

المراجع

1- أ ش أ: «الأزهر الشريف».. منارة العلم الوسطي التي تنير سماء العالم من 1080 عاما، صحيفة الأهرام.

2- عبد الرحمن عثمان: الأزهر الشريف ... شمس الإسلام التي لا تغيب..

3- عبد الرحمن زكي، حواضر العالم الإسلامي في ألف وأريعمائة عام: القاهرة منارة الحضارة الإسلامية، القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1979، ص 44- 47.

4- سعيد إسماعيل علي:  ما الذي جرى لتعليم الأزهر؟! ورقة عمل الأستاذ الدكتور / سعيد اسماعيل علي، المؤتمر العلمي السنوي السابع عشر - التعليم في العالم الاسلامي المؤتلف والمختلف، الجمعية المصرية للتربية المقارنة والادارة التعليمية ومركز الدراسات المعرفية بالقاهرة، المؤتمر رقم 17، القاهرة، 2009.

5- أحمد محمد سويدان: تاريخ الجامع الازهر، الفكر العربي، معهد الإنماء العربي، مج 7 ,ع 44، 1986.

 

في المثقف اليوم