شهادات ومذكرات

المحاكمة..!

يسري عبد الغنيعثر الجنود الفرنسيون  بعد ساعة واحدة من أغتيال كليبر -القائد الثاني للحملة الفرنسية -على الحلبي مختبئا خلف جدار في حديقة مجاورة، وأدركه اثنان من حرس مقر القيادة وعثرا على الخنجر الذي طعن به كليبر وبروتان مدفونا في المكان وعليه أثر دماء، وتعرّف عليه بروتان بعد وضعه وسط مجموعة من العمال بغية التأكد من عدم الخلط بينه وبين شخص آخر.

ساءت الحالة المعنوية في الجيش فور إعلان نبأ اغتيال كليبر كما يتضح من وصف شاهد عيان هو الضابط جوزيف- ماري مواريه في "مذكرات عن حملة مصر" التي نشرها عام 1818 :

"أي غم وأسى أصابنا حينما علمنا بنبأ وفاة كليبر مغتالا بيد آثمة. ولو أن أبا عزيزا علينا هو الذي فقدناه ما كنا بكيناه بالمرارة التي بكينا بها هذا القائد العزيز صديق الجنود. من لنا بخليفة بمثل قدره يكن لنا نفس القدر من الود كهذا القائد الكريم؟ أين نجده؟"

وقال شهود عيان إن الحلبي كان يقتفي أثر كليبر، فقد رأوه في الجيزة يسعى إلى دخول مقر القيادة بحجة تقديم شكوى، لكن الضابط "بيروس"، سكرتير كليبر، رفض السماح له بالمقابلة. وفي صباح يوم الاغتيال تسلل وسط جماعة من الخدم ورآه الضابط "ديفوغ"، ياور كليبر الخاص، وحسبه من العمال لكنه ارتاب في أمره وأمر بطرده من الحديقة.

بدأت التحقيقات مع الحلبي وتعذيبه للاعتراف ومعرفة دوافعه وتبين أنه طالب من حلب، 24 عاما، اسمه سليمان والده تاجر يدعى محمد أمين، غادر سوريا وذهب إلى القدس وحضر خصيصا إلى القاهرة تمهيدا لقتل كليبر بتحريض من ضباط في الجيش العثماني.

كان الحلبي قد شكا من والي حلب إلى ضابط يعرفه جيدا يدعى أحمد أغا، وطلب من الضابط أن يتوسط له من أجل رفع مظالم عن كاهل والده، فوافق الضابط بشرط أن يسافر الحلبي ويقتل قائد الجيش الفرنسي، ربما ثأرا لهزيمة العثمانيين في معركة هليوبوليس على يد كليبر، فوافق على ذلك الشرط دون تردد.

لم تكن القاهرة غريبة عنه نظرا لأنه درس في الأزهر لمدة ثلاث سنوات من قبل، وتشير التحقيقات إلى أن سليمان نفذ جريمته بمفرده واكتفى بكشف مشروعه لأربعة من طلاب الأزهر يثق بهم هم : محمد الغزي وعبد الله الغزي وعبد القادر الغزي وأحمد الوالي، الذين حاولوا منعه من تنفيذ خطته.

تشكلت محكمة عسكرية يومي 15 و 16 يونيو/حزيران 1800 للنظر في القضية، ونُشرت تفاصيل التحقيقات في قضية مقتل كليبر بثلاث لغات، الفرنسية والتركية والعربية، وحملت النسخة العربية نصا اسم "مجمع التحريرات المتعلقة إلى ما جرى بإعلام ومحاكمة سليمان الحلبي قاتل صاري عسكر العام كلهبر"، وهي نسخة كتبها مترجمو الحملة أنفسهم ونُشرت بمطبعة الجمهورية الفرنسية في مصر عام 1800، اعترف فيها الحلبي بتفاصيل الخطة كهذا المقتطف المنقول نصه من التحقيق الأول معه -دون تدخل لغوي:-

"انسأل كام يوم له في مصر، فجاوب أن له واحد وثلاثين يوما، وأنه حضر من غزة في ستة أيام على هجين. انسأل لأي سبب حضر من غزة، فجاوب لأجل يقتل صاري عسكر العام (قائد الجيش). انسأل من الذي أرسله لأجل يفعل هذا الأمر، فجاوب أنه أُرسل من طرف أغات الإنكشارية وأن حين رجعوا عساكر العثملي من مصر إلى بر الشام أرسلوا إلى حلب بطلب شخص يكون قادر على قتل صاري عسكر العام الفرنساوي، وأوعدوا لكل من يقدر على هذه المادة يقدموه في الوجاقات- الجنود- ويعطوه دراهم ولأجل ذلك هو تقدم وعرض روحه لهذا".

لم يكتف الفرنسيون باعترافات الحلبي في التحقيق الأول، بل أعادوا طرح الأسئلة في تحقيق ثان بعد مواجهته بالشهود وتكرار الأسئلة كما في المقتطف النصي المنقول من الترجمة العربية لوقائع التحقيقات -دون تدخل لغوي-:

"انسأل المذكور على قصة قتل صاري عسكر، فجاوب أنه حضر من غزة مع قافلة حاملة صابون ودخان وأنه راكب هجين... ثم أن أحمد أغا وياسين أغا أغوات الإنكشارية بحلب وكلوه في قتل صاري عسكر العام بسبب أنه يعرف مصر طيب بحيث أنه سكن فيها سابق ثلاثة سنوات وانهم كانوا وصوه أنه يروح يسكن في جامع الأزهر وأن لا يعطي سره لأحد كليا بل يوعى لروحه ويكسب الفرصة في قضي شغله لانها مادة تحب السر والنباهة ثم يعمل كل جهده حتى يقتل صاري عسكر."

ويضيف في اعترافه أنه عندما ذهب إلى الضابط أحمد أغا ليشفع له عند الوالي : "قال له أحمد أغا إنه محب لإبراهيم باشا (والي حلب) وإنه ما يقصر ويوصيه في راحة أبوه ولكن بشرط أنه يروح يقتل أمير الجيوش الفرنساوية".

قويت شوكة كليبر على الجبهتين الداخلية والخارجية لاسيما عقب انتصاره على العثمانيين في معركة هليوبوليس

وأضافت وثائق التحقيقات : "انسأل هل يعرف الخنجر ملغمط دم الذي به قتل صاري عسكر، فجاوب إنه يعرفه وأن هذا هو بذاته الذي قتل به صاري عسكر. انسأل من أين أحضر هذا الخنجر وهل أحد من الأغوات أعطاه له أم أحد خلافهم، فجاوب أن ما أحد أعطاه له وإنما بحيث أنه كان قاصد قتل صاري عسكر، توجه إلى سوق غزة واشترى أول سلاح شافه".

أسفرت التحقيقات عن توجيه اتهام للحلبي والأزهريين الأربعة الذين أفضى إليهم بعزمه على تنفيذ خطته، رغم إنكارهم، وشخص آخر يدعى "مصطفى أفندي البرصلي" وهو تركي ومعلم سابق للحلبي، وطلب القاضي "سارتلون" من المتهمين أن يستعينوا بشخص يدافع عنهم أمام المحكمة، فلم يستطيعوا فندبت المحكمة المترجم "لوماكا" للدفاع عنهم.

"محاكمة مختلفة..!!

حكمت المحكمة بإحراق اليد اليمنى لسليمان الحلبي وإعدامه على خازوق مع ترك جثته للطير، وإعدام شركائه بقطع رؤوسهم وإحراق جثثهم بعد تنفيذ الإعدام ومصادرة أموال المتهم الهارب عبد القادر الغزي، وبراءة مصطفى البرصلي وإطلاق سراحه.

ويبدو من وصف المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أن محاكمة سليمان الحلبي والمتهمين في هذه القضية كانت غريبة على المصريين في ذلك الوقت، كما يظهر من نبرة وصفه لإجراءات التحقيقات كما يلي:

"ألفوا في شأن ذلك أوراقا ذكروا فيها صورة الواقعة وكيفيتها وطبعوا منها نسخا كثيرة باللغات الثلاث الفرنساوية والتركية والعربية... لتضمينها خبر الواقعة وكيفية الحكومة- إصدار الحكم-، ولما فيها من الاعتبار وضبط الأحكام من هؤلاء الطائفة- الفرنسيين- الذين يحكمّون العقل ولا يتدينون بدين، وكيف وقد تجارى على كبيرهم ويعسوبهم رجل آفاقي أهوج وغدره وقبضوا عليه وقرروه- جعلوه يعترف-، ولم يعجلوا بقتله وقتل من أخبر عنهم بمجرد الإقرار بعد أن عثروا عليه".

ويقول الجبرتي إن حكم الإعدام نُفذ قبل مراسم تشييع كليبر، في حين تقول الوثائق الفرنسية إن تنفيذ الحكم جاء بعد مراسم دفن القائد الفرنسي.

"وداعا كليبر"

بعد انتهاء المحاكمة وفي صباح 17 يونيو/حزيران 1800 أعلنت سلسلة من طلقات المدفعية بداية المراسم الجنائزية لتشييع جثمان كليبر في مشهد مهيب، أوردته صحيفة الحملة الفرنسية "كورييه دي ليجيبت" تحت عنوان "مراسم تأبين الجنرال كليبر" في عددها رقم 72 :

"منذ أن ودع القائد العام كليبر الدنيا وصوت المدفعية الحزين يدوي كل نصف ساعة، فمنذ الساعات الأولى لليوم الثامن والعشرين من بريريال الموافق مراسم وداعه الأخير، وطلقات المدفعية القادمة من القلعة تتردد من كافة الحصون، تعلن اعتزام الجيش تنظيم مراسم وداعه."

وأضافت الوثيقة : "تحرك الموكب من مركز القيادة بساحة الأزبكية بعد إطلاق خمس طلقات مدفعية، وعدة طلقات من البنادق، واخترق المدينة بأكملها حتى وصل جثمان الجنرال إلى مزرعة حصينة خاصة بإبراهيم بك. وقد تقدم هذا الموكب قوة من سلاح الفرسان، وخمس قطع مدفعية... والفرق الموسيقية للحامية بأكملها، تعزف ألحانا تماثل في حزنها هذه المراسم ، أما جثمان الجنرال كليبر فكان في نعش من الرصاص محمولا على عربة جنائزية مكسوة ببساط أسود، محاط بأسلحته التي حققت له الانتصارات، وأعلى النعش وضعت قبعة الجنرال وسيفه".

ألقى جوزيف فورييه، المندوب الفرنسي لدى الديوان، كلمة بليغة بتكليف من الجنرال مينو، القائد العام الجديد للجيش بحكم الأقدمية، تنعي القادة الذين سقطوا خلال الحروب خارج حدود فرنسا، أوردتها كاملة "كورييه دي ليجيبت" في عددها رقم 72 كهذا المقتطف :

"أيها الفرنسيون، ثمة مصير مشترك يجمع بينكم على هذه الأرض الأجنبية، لنذكر كذلك في ذلك اليوم بكل الحب والتقدير هؤلاء الشجعان، في معسكرات سوريا وأبوقير والقبة الذين وجهوا أفكارهم ونظراتهم الأخيرة صوب الوطن فرنسا".

وأضاف : "أما أنت يا كليبر، يا موضع تبجلينا وحزننا في هذا الاحتفال الذي لن تحضر بعده، فلترقد روحك في سلام أيها الشهم العزيز وسط آثار المجد والفن، لتسكن الأرض الشهيرة على مر العصور. ولينضم اسمك لقائمة تضم أسماء جيرمانيكوس وتيتوس وبومبيه والعديد من القادة والحكماء ممن تركوا مثلك على هذه الأرض ذكريات لن تمحى".

وأشار الضابط مواريه في مذكراته إلى أن بعض الشائعات راجت بأن هذه المراسم الجنائزية لكليبر مجرد خدعة كما يلي :

"على الرغم من الدلائل القاطعة على موت كليبر، كان ثمة أصحاب تفكير غريب أو مغرض يروجون أن هذه المراسم هي مجرد خدعة، وأن الجنرال رحل إلى فرنسا، كما خطط في السابق، وأن نعشه الفارغ ما حُمل في هذا الموكب المهيب إلا لتغطية فراره".

وبعد مراسم تشييع كليبر بدأت مراسم إعدام سليمان الحلبي، وقُطعت رؤوس الأزهريين أمامه، ثم أحرقت يده وأُعدم على الخازوق، وسرعان ما تفرق الحاضرون بعد هذا المشهد وظل الحلبي على قيد الحياة لمدة أربع ساعات، وما إن غادر الجميع حتى أعطاه جندي فرنسي كأس ماء يشربه عجل بموته في الحال، حسبما أشار المؤرخ الفرنسي هنري لورنس في دراسته "الحملة الفرنسية على مصر وسوريا".

ونجح الطبيب الفرنسي لاريه، من أعضاء المجمع العلمي، في الحصول على جثمان سليمان الحلبي وضمه إلى مجموعته الخاصة، وعرض جمجمته على طلبة الطب ودراستها لعدة سنوات قبل أن ينتهي بها المطاف للعرض في متحف الإنسان بقصر "شايوه" في باريس.

حمل الفرنسيون رفات كليبر مع خروج "جيش الشرق" من مصر عام 1801 إلى قصر إيف، في جزيرة قريبة من مدينة مرسيليا جنوبي فرنسا بناء على أوامر بونابرت خوفا من اتخاذ قبره رمزا للجمهوريين، وأقيمت له مراسم وداع تليق بمكانته كقائد عام للجيش.

وفي عام 1818 بناء على طلب من رئيس أركان كليبر السابق، وبناء على تقرير رفعه إلى وزير الحربية قرر الملك، لويس الثامن عشر، نقله إلى ستراسبورج، مسقط رأسه، ودفنه وسط مراسم مهيبة في ميدان يحمل اسمه، وأُقيم له تمثال من البرونز عام 1840 إحياء لذكراه، كما نقُش اسمه على قوس النصر في باريس على الجهة الجنوبية، تخليدا بين أبرز القادة في تاريخ فرنسا وحروب ثورتها.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم