شهادات ومذكرات

عبد الستار الراوي.. رحلة عطاء لا تنتهي

محمود محمد علييعد الأستاذ الدكتور "عبد الستار عز الدين محمود الراوي"، واحداً من كبار المفكرين العراقيين والمتخصصين في مجال الفكر الفلسفي الإسلامي.. عُين سفيراً للعراق لدى إيران في الفترة من 1998م، وحتى 2003 تاريخ الاحتلال الأمريكي للعراق، وقبل عمله كسفير كان أستاذاً للفلسفة بجامعة بغداد خلال الفترة من 1970-1998م وأستاذ الفلسفة للدراسات العليا في معهد التاريخ العربي، أستاذ الدراسات الإيرانية- جامعة البكر للدراسات العليا، ثم مدير عام المركز الوطني للبحوث والدراسات 1983- 1998.

وخلال تلك المدة تولى عبد الستار الراوي (مع حفظ الألقاب) تدريس علم الكلام، التصوف، فلسفة اسلامية، مدارس فلسفية الفكر الفلسفي المعاصر في عدد من كليات بغداد، أستاذ الدراسات العليا، جامعة بغداد وجامعة البكر.. أشرف على الرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) قسم الفلسفة في جامعة بغداد.. وشارك في مناقشة (62) رسالة علمية.

وقد قال عنه الأستاذ حامد شهاب: " أن تكتب عن أستاذ كبير مثل الدكتور عبد الستار الراوي، تحتار من أين تبدأ، ومن أين تنتهي.. فهو مخزون فكري وفلسفي وفني وموسوعة سياسية كبيرة، ولديه إلهام فني حتى انه يرسم لوحاته كتعبير عن حالة الرقي الابداعي، وليس بمقدور أي منا أن يجاريه، مهما بلغنا من الاقتراب من الرجل الذي عايشناه في مركز بحثي عملاق ولسنوات طوال.. وكانت أجمل أيام العمر على الإطلاق!!.. ومن يريد أن يبحر في مكنونات الراوي عليه أن يعرف أنه بدأ خطواته في الفلسفة ومن ثم دخل دهاليز السياسة المتعمقة، ليضيف اليها معارفه وعلومه، ويستكشف خفاياها وأسرارها، حتى تبدو امامه وقد أجاد فتح طلاسمها وجفراتها، وأعاد تفكيكها ومن ثم اعاد تركيب مدلولاتها، ثم ينتهي بالخطوة الأخيرة وهي الاستنتاج، أو التوصيات، لكنه بقي يعد (التحليل) على أنه (الحلقة الاخيرة) التي يلجأ اليها السياسي المحترف عندما يريد التمعن في ظاهرة أو حدث بعينه عراقيا كان، أم عربياً، أم دولياً،، كون (المعلومة) تأتي عنده في المقام الأول، لهذا كان يوصينا الرجل بأن يعتمد الباحث، أو من يدخل دهاليز السياسة على (المعلومة الموثقة)، وإذا اوصدت أمامك كل محاولات الحصول عليها تلجأ الى التحليل.. ولهذا يعد الدكتور عبد الستار الراوي (التحليل) بأنه (النقطة الأضعف) في صياغة القرار أو الاستنتاج المطلوب.. ولا أدري لماذا لم يكن الدكتور الراوي يعير اهتماما لـ (التحليل السياسي) لكنني أقدر حرصه على أن (لا يشطح) المتتبع السياسي النبيه عندما يود التعرف على مكنونات مشكلة سياسية أو معرفية تحتاج إلى تبصر وحنكة ودراية ومن ثم احتراف مهني عال عندما يضطر المتابع السياسي اللجوء إلى (التحليل) .

كما وصفه الأستاذ حيدر علي سلامة بأنه :" صاحب مشروع فلسفي ينطلق من قراءة تاريخ الفلسفة الاسلامية، وخاصة لعلومها الكلامية ذات الاشكاليات الفلسفية المعقدة والعويصة. فكانت كتب الراوي خير معين لنا نحن طلاب الفلسفة المتورطون في تلك الاشكاليات الفلسفية، التي تبدأ من علاقة الله بالعالم، وتنتهي في علاقة الله بالإنسان وبحريته وقراره وقدره...الخ، ناهيك عن العلاقات المعقدة والشائكة كتلك المتعلقة بخلق العالم وأسبقية وجوده على الله أو العكس، إضافة إلى نظريات القدم والحدوث، وكلام الله وقضايا فلسفية ليس لها حد ولا آخر. فمن خلال جميع تلك الاشكاليات تبلورت رؤية الراوي للفلسفة الاسلامية متخذة من المعتزلة منهجاً وطريقاً. والملاحظ على تلك المدرسة الفلسفية أنها كانت الاقرب إلى الاحكام العقلانية وأحياناً النقدية في كثير من القضايا الميتافيزيقية والغيبية التي تأسست وفق أحكام حنبلية قطعية لا تقبل النقاش والنقد والحوار، وهذا ما جعل تلك المدرسة مثار شبهة فلسفية في ظل الأجواء الدوغمائية التي رافقت وارتبطت بنشأة تاريخ الفلسفة الاسلامية".

كما حاول عبد الستار الراوي إعادة النظر في كثير من المفاهيم الفلسفية؛ خاصة تلك التي تحولت إلى اشكاليات فلسفية ذات اتصال وثيق بوجود الذات الإنسانية وعلاقتها بالعالم، وحياة التناهي؛ وجدل الوجود والعدم. وبدأ ذلك واضحاً في مشروعه الفلسفي، لا سيما في سيرته اليومية للوحة التنوير الأولى؛ حيث عمل على الانعطاف بمشروعه الفلسفي أو الاعتزالي من المرحلة اللاهوتية إلى المرحلة الإنسانية؛ ومن المرحلة الميتافيزيقية إلى المرحلة الوجودية؛ ومن المرحلة التجريدية إلى المرحلة اليومية. وهنا كان علينا أن نتساءل فيما إذا كان الراوي قد وفق في إعادة تشكيل السؤال الفلسفي العراقي؟ وهل عمل الراوي على إعادة قراءة تاريخ الفلسفة الإسلامية بوصفها جدل صاعد من خلال تاريخ إشكاليات وجود الذات الإنسانية، تلك الذات المسرودة والمحكية، بل المسيطَر عليها من خلال أنظمة ألحكي اليومي لاسيما المؤدلج منه، وهذا ما اسماه الراوي بالجدل النازل؟..

وقد أسهم عبد الستار الراوي بعضويته في كثير من المؤسسات العلمية، ومراكز البحث العلمي، وألقي العديد من البحوث في مؤتمرات وندوات محلية ودولية، منها أبحاث نشرت في أوربا في مجلات متخصصة، كما حاضر عن الإسلام والحضارة الإسلامية، والإنسان وحقوقه في الإسلام في كثير من الجامعات المصرية والعربية.

ويتمتع عبد الستار الراوي بذكاء خارق ومقدرة ظاهرة وكامنة أتاحت له في بعض الأحيان العمل على مدى أربع وعشرين ساعة متواصلة من دون كلل، وكان حيوياً ونشيطاً في عمله، وهو إنسان ذو قدرات عالية لا ينام أكثر من خمس ساعات في الليل، عنيد، لا يحده سقف في التطلع والرقي بعمله، وفي الوقت نفسه فهو موصوف أيضاً بأنه "جنتلمان" ومنطقي لا يستثار، ومثابر من الطراز الأول، حيث يملك أفكاراً وعلى الدوام كان في تحد لأي شيء يحده، وهو حسن المعشر كأغلب العراقيين.

وعبد الستار الراوي  من مواليد بغداد سنة 1941،  حيث ولد في الكرخ، وهو من أسرة السادة من راوة - محافظة الانبار ومن مواليد بغداد سنة 1941، وقد قال عن نفسه أنه كانت أمنية والدته مليكة أن يتعلم القراءة ويختم القرآن الكريم، وربما كانت تحلم بأن يكون ابنها شيخا حتى يتمكن من إهداء ثواب ما يقرأ على روحها بعد مفارقتها الحياة، علاوة علي أنه والدته أيضاً كانت تفضل  (الكتاتيب) على (المدرسة) ولذلك تحت هذا التأثير وجد نفسي منذ بداية حياتي  وهو في الخامسة من عمري، أن يتنقل على مدى ثلاث سنوات بين ثلاثة من الشيوخ الاجلاء (الملا حماد) في سوق حمادة و(الملا حميد) في سوق الجديد و(الشيخ عباس العزاوي) كان المرفأ الاخير في الفحامة، وقد دخل الراوي مدرسة الزوراء الابتدائية، وهو يحسن القراءة والكتابة وكان قد تجاوز التاسعة.. وقد حدث أثناء دراسته في المرحلة الإبتدائية أن انتقل من (زنْكَوّْ) إلى محلة (القشله) في الرصافة، فأدخله أبيه إلى مدرسة الحسينية الأهلية وكان لأساتذته ومعلميه (الشيخ حمود الساعدي وعلي النعيمي ومحمد جواد الغبان والسيد هاشم النعمة)، حيث كان لهؤلاء المربين الاجلاء الفضل الكبير في توجيهه للقراءة الحرة وتغذية ميولي نحو مطالعة الروايات والنصوص الادبية، وقد فتحت مكتبة جامع الخلاني أمامي أفقاً واسعا للتعرف على عالم الكتاب؛ لاسيما في موسم الاجازة الصيفية، وفي هذه المكتبة الزاخرة بكل ألوان المعارف والآداب والعلوم حظي الراوي برعاية وتوجيه الأستاذ الشاعر محمود الريفي والسيد علي محمد الحيدري؛ حيث تعلم الراوي كيف ينتقي الكتاب المناسب، وطريقة الافادة من النصوص، وقد كان محظوظاً بأنه تلقي العلوم الفلسفية على كبار الأعلام في مرحلة البكالوريوس وهم (الدكتور كامل مصطفى الشيبي، الاستاذ مدني صالح، الدكتور ياسين خليل، الدكتور جعفر آل ياسين  الدكتور حازم مشتاق، والدكتور صالح الشماع، والدكتور نجم البازركان)، وبقى مدينا لكل واحد من هؤلاء الفلاسفة الذين تعلم عليهم بأن الاحتكام للعقل يجنبنا الوقوع  في مغبة (القبليات) وأن إعمال الفكر بداية طريق الحكمة وأن الشك المنظم أول درجات البحث عن الحقيقة، بهذه المخرجات المدرسية والوصايا المنهجية، تتبدى القيمة التنويرية لفلاسفة  بغداد، ولكل منهم مقام سام في وجداني وعقلي.

وفي عام 1966 م يمم عبد الستار الراوي وجه صوب أم الدنيا مصر العظيمة، ونال دبلوم التخصص العالي في الدراسات الأسيوية من معهد الدراسات الإسلامية العليا في القاهرة عام 1968، ودبلوم آخر في الدراسات الإفريقية من المعهد ذاته سنة 1970، كما حصل على ماجستير فلسفة بامتياز من جامعة الاسكندرية سنة 1974، ومن الجامعة نفسها حاز على دكتوراه في الفلسفة الاسلامية بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف.. وهناك في الإسكندرية، طاب له المقام وجاء في جوابه عن سؤال تجربته الدراسية في مصر والإسكندرية متذكرا تلك الأيام وما بعدها فقال :" أحببت مصر منذ صغري وامضيت في ربوعها أجمل سنوات حياتي، واقمت فيها عشرة أعوام (1967 - 1977)، كنت أدرس في معهد الدراسات الإسلامية العليا بالقاهرة، وفي الوقت عينه، أواصل تعليمي في جامعة الإسكندرية، وكنت أقيم ما بين القاهرة والإسكندرية، لي صحبة طيبة مع مجموعة من الأصدقاء وأولهم إدموند إيليا، الدكتور أحمد عبد الحليم، الدكتور ماهر عبد القادر، هاني المرعشي، الدكتور محمد محمد قاسم، الدكتورة راوية عبدالمنعم، وما تزال هذه الرفقة قائمة حتى اليوم بعد مضي نصف قرن من الزمان، وكان أستاذي الدكتور ياسين خليل قد عزز رغبتي على مواصلة دراستي العليا وكتب توصية علمية بذلك وكذلك أستاذي وصديقي الدكتور كامل مصطفى الشيبي خير عون لي طوال دراستي العليا، وقد لقيت أثناء دراستي مؤازرة علمية من عميد الآداب الأستاذ الدكتور عبد المعز نصر ومن الاستاذ الدكتور على سامي النشار رئيس قسم الفلسفة في آداب الاسكندرية وقد درست عليه فصلاً دراسياً كاملاً، لأواصل دراستي تحت إشراف فيلسوف الإسكندرية الدكتور محمد على أبو ريان، حيث أنجز الراوي رسالته للماجستير 1974 بدرجة ممتاز، وحاز في الدكتوراه 1977 على الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى - والتمتع بعضوية الجمعية الفلسفية المصرية ـ وعضوية مجلة (أوراق فلسفية) برئاسة الصديق الدكتور أحمد عبدالحليم" .

ولعبد الستار الراوي العديد من المؤلفات منها المثال لا الحصر: فلسفة العقل، ثورة العقل مدرسة بغداد الاعتزالية، والتصوف والبارسيكولوجي، والفكر السياسي الإيراني المعاصر، والعقل والحرية، ومناهج البحث في العلوم الطبيعية، والإسلام السياسي: (مقدمة اولية)،  وردة الغد: شهادات أطفال العراق في زمن الحصار الأمريكي، والفكر الفلسفي اليهودي الحديث والمعاصر، فردوس الكرخ (شعر)، أصابع العروس (من أوراق كوكب الهوى)، وأيام أبي: سيرة وذكريات، قطر الندى: أيام الفلسفة في الوزيرية، قمر الكرخ: (سيرة دربونة بغدادية)، عصر الكرخ الجميل (الكائنات)، بستان الرماد، معجم العقل الامريكي السياسي المعاصر (أربعة أجزاء)، الفقه السياسي الايراني المعاصر (المصلحات والمفاهيم 1979- 1990)، الايديولوجيا والأساطير ولاية الفقيه والفكر الصهيوني (جزآن)، العقل السياسي الإيراني المعاصر (منطق الفكر وبرنامج العمل)، أوراق إيرانية... كما شارك الراوي في التأليف مع  آخرين مثل : الموسوعة الفلسفية العربية (ثلاثة أجزاء)، المشهد الفلسفي في العراق – بيت الحكمة، موسوعة أعلام العرب، عبدالوهاب المسيري في عيون أصدقائه ونقاده، المسيري : مفكر لا يأفل نجمه... وهلم جرا.

وتتميز كتاباته بالوسطية والعقلانية، وتكشف عن تعمق كبير في العلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، ويتميز أسلوبه بالوضوح والمنطقية؛ ولقد شهد له كل من كتب عنه من الباحثين بالدقة، والأمانة العلمية، والثقافة الواسعة، إلي جانب ما يتمتع به من خلق رفيع، وتمسك بتعاليم الدين الحنيف. ولا غرو في ذلك فهو يمثل منظومة حافلة بالعطاء العلمي الجاد، والشموخ الإنساني المتميز، باحثاً ومنقباً، محققاً ومدققاً، مخلفاً وراءه ثروة هائلة من الكتب العلمية، والبحوث الاكاديمية الرصينة، وطائفة كبيرة من المريدين والاتباع الذين أعطاهم خلاصة فكره وعلمه.. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

........................

المراجع

1- المؤرخ والمحقق عبد الستار الراوي ـ تأليف: إبراهيم العلاف ـ مجلة الديار اللندنية ـ 2014.

2- أيام أبي: سيرة وذكريات تأليف: عبد الستار عز الدين الراوي الناشر: عبد الستار عز الدين الراوي،بغداد 2000

3- مع الدبلوماسي البروفيسورعبد الستار الراوي، نجلاء احمد، مجلى كاردينا، القاهرة / 2010

4- المؤرخ عبدالستار الراوي ـ تأليف: حمد المطبعي ـ منشورات بيت الحكمة ـ بغداد ـ 2002

5- قاسم المحبشي: عبد الستار الراوي ورحلته الفلسفية من بغداد الى الاسكندرية- الحوار المتمدن-العدد: 6440 - 2019 / 12 / 17 - 19:36.

6-حيدر علي سلامة: من العقل والحرية الى سيرة حارة بغدادية، قراءات في لوحة التنوير الاولى للدكتور عبد الستار الراوي- الحوار المتمدن - العدد: 3580 - 2011 / 12 / 18 - 08:43.

7- حامد شهاب: الدكتور عبد الستار الراوي..وسجل إبداعه الفكري والفلسفي والفني.. و(فضائل الرجل) !!- صوت العراق – 14-10-2020.

8- إيمان البستاني: ضيف إيلاف، البروفيسور، عبدالستار الراوي،2 نوفمبر2017.

 

 

في المثقف اليوم