شهادات ومذكرات

ميثم الجنابي.. الفيلسوف والإنسان

محمود محمد عليمن معين بحر النجف العذب نغرف وجهاً عربياً – عراقياً – مضيئاً في سماء عالمنا العربي المعاصر، الذي خبت نجومه، وقلت شموسه، وتقلصت رموزه، ولكن الخير كل الخير في البقية الباقية من الرواد العظام الذين لا ينساهم التاريخ أبداً، ومن هؤلاء الرواد نحاول في هذا المقال أن نتطلع إلي نموذج من العباقرة نهتدي عبر طريقه، وشخصية استطاعت أن تستجمع جوانب العلم فاتخذته منهاجاً، ثم باحثاً في تاريخ الفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية (الكلام، الفلسفة، التصوف)، وتاريخ الفلسفة العالمية، وتاريخ الفكر العربي المعاصر، وفلسفة التاريخ، وتاريخ الأديان المقارن، وتاريخ الفكر السياسي لا يشق له غبار.

إنه الأستاذ الدكتور "ميثم محمد طه الجنابي" (أستاذ العلوم الفلسفية في الجامعة الروسية وجامعة موسكو الحكومية)، هذا الفيلسوف الكبير الذي استطاع أن يكون له في كل مجتمع صوت، وفي كل ناد رأي، وفي كل صحيفة بحث، حتي اشتهر أمره، وذاع ذكره في روسيا وسائر الأقطار الأوربية والعربية، وهو عالم بكل ما في هذه الكلمة من معني، وكاتبا، تملأ مقاله  من قوة الحجة آيات بينات، وسياسياً وطنياً، صادق العزم ما وقعت الغرامات ـ وأستاذا في فنه، لا تستعصي عليه منه المشكلات، وهو نعم الرجل الوفي، الذي يضحي في سبيل صداقته، ونعم الباذل للجهد والفكر في سبيل سعادة الوطن وسعادة بنيه. وهو من الرجال الذين تجدهم  من ثبات علي المبدأ، واستقلال في الرأي، وإدراك  لمعني الحياة الحرة البريئة، علاوة علي أن حياته تعد درساً بليغا لمن شاء أن يتعلم : يتعلم الصلابة في القومية، والإخلاص للوطن، والدفاع عن وادي الرافدين مسقط رأسه ، ويفني في خدمة قومه، وفي خدمة وطنه.

ويشرفني في هذا المقال المتواضع أن أكتب عن ميثم الجنابي ( مع حفظ الألقاب) فهو صفحة من صفحات تاريخ الفكر العراقي المعاصر، حيث قل رجل لم يقرأها أو يتل منها فقرة أو سطرا ؛ وآثاره  معروفة فله أكثر من أربعين كتاباً، وهو في الإنسانية من المضحين، وهو في العلم واحدا من كبار مفكرينا العراقيين الذين نفتخر بهم في روسيا والعالم الغربي .

وميثم الجنابي من مواليد مدينة "النجف" الزاهرة في عام 1955، وخلال الفترة من عام 1975 إلي 1981 حصل علي البكالوريوس والماجستير من جامعة موسكو الحكومية، كلية الفلسفة، وفي عام 1985 حصل علي دكتوره الفلسفة من نفس الجامعة، وفي عام 2000 نال رتبة الأستاذية، وهو الآن رئيسا رئيس مركز الدراسات العربية في الجامعة الروسية، ورئيس تحرير مجلة (رمال) والتي تعنى بالشؤون الروسية العربية في مجال التاريخ والأدب والفلسفة والفن والسياسية (بالعربية)، ورئيس تحرير الكتاب السنوي (الدراسات العربية)، موسكو، (بالروسية)، وعضو المجالس العلمية.

له أعمال فلسفية وسياسية وتاريخية كثيرة نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر : التراجيديا السياسية للطوباوية الثورية، وعلم الملل والنحل، و الإمام علي بن أبي طلب- القوة والمثال، التالف اللاهوتي الفلسفي الصوفي (أربعة أجزاء)، والإسلام السياسي" في روسيا، وحكمة الروح الصوفي (جزءان)، واليهودية الصهيونية في روسيا وآفاق الصراع العربي اليهودي، والعراق ومعاصرة المستقبل، و اليهودية الصهيونية وحقيقة البروتوكولات، والعراق ورهان المستقبل، الحضارة الإسلامية – روح الاعتدال واليقين (ج1)، وجنون الإرهاب المقدس، وأشجان وأوزان الهوية العراقية، وفلسفة الثقافة البديلة، والعراق والمستقبل – زمن الانحطاط وتاريخ البدائل، وفلسفة الهوية الوطنية، وثورة "الربيع العربي" (فلسفة الزمن والتاريخ في الثورة العربية)، وفلسفة الإصلاحية الإسلامية الحديثة، والإسلام: حضارة وثقافة وسياسة، والعقلانية واللاعقلانية في الفكر العربي الحديث، ومحمد – رسول الإرادة.. وهلم جرا..

وفي تلك الكتابات يعيب عليه الحانقون أنه كان يوزع جهده في مائة ناحية وناحية في مجالات ثقافية مختلفة، فمن فلسفة إلي سياسة، إلي اجتماع، إلي دين وتاريخ. إنه باقة من الجهود الزكية ، إنه مكتبة واعية متحركة، إنه سجل لكل ما يقرأ ويشاهد . إنه جامعة في رجل . كانوا يتغامزون بأنه لا يتبع برنامجا، ولا يتقيد بنظام. وكنت أري فيه نزوعا إلي الحرية لا يطيق القيد ( والقيد لو كان الجمان منظما لم يحمل)  . غير أنه كان لا يستغل هذه الحرية للراحة أو التسلية، للكسب أو للسعي لنفسه، بل كان كالنحلة لا يكل دأبا وعملا، والناس يلتفون حوله فيقطفون عسلا.

كان ميثم الجنابي عالما في الفلسفة، وحجة في السياسة، وكاتبا  حكيما،  وكان علي كثرة متاعبه، وتعدد مشاغله، وتنقلاته من ساحة إلي ساحة، ومن تخصص إلي تخصص، يختلس من الليل ساعات، ومن الراحة فترات .. وكثيراً ما كنت استشعر أنه كان صحفيا بطبعه وسليقته، فكم امتلأت الصحف بأخباره، وأفكاره، ونوادره، وتحفه، وكم نقلت عنه أروع ما ينقل عن الوطني، عن الفنان، عن المبتكر، عن المجدد  .. وتلك هي ثروة الأفذاذ العباقرة ، كبار النفوس، كبار القلوب.

وميثم الجنابي شعلة وهاجة، وحركة دائمة، وعربيا صميما، وجرئيا صريحا ، لا يداهن ولا يرائي، يصدر عن عقيدة، ويعمل في غير جلبة، عرفه الكبير والصغير، ولمس فضله الوزير ورجل الشارع وهو والله صورة فريدة من صور الرجال، بعلمه وبيانه وعمله ووطنيته، فطر علي صفات نادرة، سيرته في مراحل عمره سيراً حفل معه بالطيبات، واتجهت قواه منذ صباه لخدمة المصلحة  العامة، وعمل علي هيئته في تواضع خال من التمجيد والتبجح، وما طلب العوض والمكافأة عما أجهد  نفسه فيه، ذلك  أنه كان متشبعاً بروح النهوض، ويعرف كيف يرضي ضميره بأداء فرض لا بد من قضائه. قل أن رأيت من أهل صناعة هذا الرجل العظيم من هضم علمه مثله، أو جمع إلي علمه معارف تمثلها، وهي ليست بحسب الظاهر من اختصاصه أو شارك في مسائل كثيرة مشاركة المستقصي الحصيف، لا مشاركة النتفة.

وكان مما يستلفت النظر إلي شخصية ميثم الجنابي أنه خلق  لنفسه تقاليد عرف بها، ولم يعرف بها غيره. ولقد ميز نفسه بهذه التقاليد، كما ميز نفسه بطائفة خاصة به من السمات والصفات والخصال، وظل حياته أمينا لها، مخلصاً لتلك الشخصية  التي خلقها لنفسه.  كان يكفي أن يذكر اسمه  في أي مكان، وفي أي وسط، لكي تقفز إلي الذهن، وليست صورة ميثم الجنابي التي عرفها الناس فحسب، بل مجموعة من آرائه وجهوده ونظرائه إلي الحياة والتقدم، استقل بها ولم تغادره طوال حياته، كيفما كان العمل الذي يقوم به، أو الوظيفة التي  يشغلها . كان ميثم الجنابي هو ميثم الجنابي بغير نظير، ولا مثيل، ولا شبيه، ولا قرين.

وفي نهاية حديثنا عن الأستاذ الدكتور ميثم الجنابي لا أملك إلا أن أقول تحية طيبة لهذا الرجل الذي كان وما زال يمثل لنا نموذجا فذا للفيلسوف الموسوعي الذي يعرف كيف يتعامل مع العالم المحيط به ويسايره في تطوره، وهذا النموذج هو ما نفتقده بشدة في هذه الأيام التي يحاول الكثيرون فيها أن يثبتوا إخلاصهم لوطنهم بالانغلاق والتزمت وكراهية الحياة، وإغماض العين عن كل ما في العالم من تنوع وتعدد وثراء.

وتحيةً أخري لميثم الذي لم تستهوه السلطة، ولم يجذبه النفوذ ولكنه آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ وشعور إنساني رفيع وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم