شهادات ومذكرات

باسم يوسف وكوميديا السخرية السوداء

محمود محمد عليعندما يعيش الواقع المعاش مفتقداً لأبسط أنواع التفكير العقلي، وأبسط أنواع المنطق، هنا يصاب المرء بالدوار، ويعتريه الكثير من الحالات النفسية الغير إيجابية، منها الاكتئاب، والحيرة، والضيق.. ودخول الذات لتلك الحالة تعني أنها أصبحت ذات سلبية، بل قد تصل أن تكون مدمرة، سواء لذاتها وللمحيط الذي تعيش فيه، وفي تلك الحالة الآسنة والمقبضة تجيئ السخرية والفكاهة بمثابة تخفيف من تلك الحالة، وهي محاولة للتنفيس لما يعتمل داخل الذات.

إن السخرية من الواقع المرير يجعل الذات تعيد ترتيب نفسها، من خلال البحث عن إيجاد مساحة من التخفيف والتلطيف من الواقع، بحيث تتمكن الذات في محالة لتجعل الحياة والواقع ممكن، وربما قد تتغير الأحوال .. ومع انعدام تلك الفكاهة والسخرية لا تجد الذات إلا التدمير لنفسها أو للمحيط الذي تعيش فيه.

ولم يسبق أن شهد العالم العربي برنامجا لقي كل هذا الجدل كما هو الحال مع "برنامج" الإعلامي المصري باسم يوسف، الأمر الذي جعل من هذا البرنامج لحظة إعلامية استثنائية في تاريخ السخرية السوداء في مصر زمن ثورات الربيع العربي؛ حيث لم يستثن باسم يوسف أحدا من تلك السخرية، والتي اعتبرها "سلاحا ضد ثقافة التكفير والتخوين وصناعة الفراعنة السائدة في مصر.

ومع ذلك فالرجل يعتمد في أسلوبه علي السخرية اللاذعة بادب جم، وبكوميديا أقرب إلي الكوميديا الراقية المعروفة فنياً باسم " كوميديا الموقف "، فالرجل يبرز التناقضات المتعددة في المواقف وتصريحات الرئيس محمد مرسي مع بعض التعليقات الظريفة الخفيفة التي تتسم بخفة ظل الإنسان المصري البسيط، مما يدخل البهجة والفرحة في قلوب المصريين، وفي نفس الوقت تشكل تعليقاته نقداً سياسياً عميقاً وقوياً ولاذعاً يكشف فساد وتخريب حكم جماعة الإخوان المسلمين من محمد مرسي إلي أصغر مسؤوليه.

وربما تكون القيمة الحقيقية في النجاح الساحق لبرنامج باسم يوسف الأسبوعي، الذي أصبح موعداً مع السعادة في أمرين هما:.. الأول: إنه نوع جديد من النقد السياسي الهادف البناء الذي يكشف ويجرح ولا يسيل الدماء .. الثاني: يسد نقصاً هائلاً في أداء الإعلام المصري، وينجح في الوصول إلي أوسع الجماهير الشعبية بقناعة وأسلوب سهل يدخل القلوب قبل العقول، وهنا أضحي باسم يوسف يمثل في نظر الكثير من الشعب المصري يمثل ظاهرة جديدة غير مسبوقة في الأداء التلفزيوني والإعلامي، أو علي الأقل ظاهرة لم يعرفها الإعلام المصري من قبل، ظاهرة لا تتجسد في النجاح الجماهيري ونسبة المشاهدة المرتفعة فقط، وإنما تتجسد في درجة التجاوب الجماهيري العالية جداً مع باسم يوسف، وبشكل أدخله بسبب انتقاداته اللاذعة لجماعة الإخوان المسلمين في قلوب الملايين من المصريين البسطاء.

وباسم يوسف (من مواليد عام 1974 )، حيث كان في حقيقة الأمر طبيب جراح اختار أن يترك مهنة الطب وأن يعلق بسخرية عن الوضع السياسي في مصر بعد ثورة 2011 عبر اليوتيوب وبإمكانيات بسيطة؛ مستخدماً في سبيل ذلك مجرد طاولة وكرسي وكاميرا واحدة ولوحة جدارية تضم صوراً التقطها الهواة من ميدان التحرير، قبل أن تعرض عليه قناة أون تي في إذاعة البرنامج على شاشتها، لتقديم ذات البرنامج الذي يحاكي في برنامجه التلفزيوني البرنامج الأمريكي "ذا دايلي شو" الذي يقدمه الناقد الساخر جون ستيوارت.

ثم سرعان ما لقيت هذه الفيديوهات نجاحا جماهيريا، لتطلب منه قناة "الأون تي في" المصرية أن يقدم برنامجا ساخرا خاصا به تحت عنوان "البرنامج"، وقد تحول العرض الأسبوعي لبرنامج " البرنامج" إلى موعد ينتظره الملايين في العالم العربي، بل وأصبحت المقاهي تحرص على عرضه وكأنه مباراة لكرة القدم، إذ يجتمع الناس لمشاهدته.

وهذا الأمر يعد سابقة في العالم العربي بالنسبة لبرنامج تلفزيوني، فهو أول برنامج سياسي هزلي –ساخر في مصر، وكان له ذلك الصدي المؤثر بين الناس، والاهتمام الواضح في الأوساط الإعلامية والسياسية محلياً، وعربياً، وعالمياً، وللبرنامج فكر سياسي واضح وثابت، يقوم علي جمع الأخبار السياسية الأسبوعية وعرضها بطريقة نقدية –هزلية في حلقة واحدة .

لقد بدأ باسم يوسف في تقديم البرنامج الأول مرة علي قناة الأون تي في" المصرية، ثم انتقل إلي مرحلة مرحلة جديدة على قناة "السي بي سي" في 23 نوفمبر 2012، وكان البرنامج أيضا يمثل حلقة أسبوعية كل جمعة (تكون مسجل مع الجمهور قبلها بيومين) وبدأ التنوع في الفقرات يظهر بشدة هذا الموسم حيث كان يبدأ بتعليقات باسم الساخرة عن الأحداث الجارية في مصر قبل أن ينتقل في النصف الآخر لفقرة ترفيهية واستضافة لفنانين ومشاهير.

وهنا حظي باسم يوسف بمسرح كبير خاص به مع جمهور حقيقي يتفاعل معه. هذه المرحلة الجديدة تصادفت أيضا مع مرحلة حكم الإخوان المسلمين في مصر، الذين وجه لهم وللرئيس" محمد مرسي" نقدا ساخرا لاذعا؛ ومن سوء حظ الرئيس المصري "محمد مرسي"، هو وجود معلق كوميدي بحجم "الظاهرة" باسم يوسف. الكثيرون انتقدوا مرسي من صحافيين ومذيعين وحتى دعاة و فنانين، ولكن نقد باسم يوسف موجع ومؤلم جداً، وذلك في كونه يبالغ في النقد الشخصي الحاد جداً الذي يصل إلى الرغبة في تدمير الشخصيات. نرى ذلك مثلاً في نقده أسماء صحفية و عامة بشكل مبالغ فيه. رأينا ذلك مع عماد الدين أديب، وكذلك مع مرتضى منصور. من الطبيعي أن يتنقد ويسخر من هذين الأسمين أو غيرهما، ولكن المبالغة في السخرية من الأشخاص، مسألة تطرب لها الجماهير، ولكنها ستنحرف بالبرنامج ليتحول إلى ردود شخصية مطولة ومبارزات استعراضية وأحقاد.

وقد استقطب هذا البرنامج الكوميدي عدداً كبيرا من المتابعين، الأمر الذي جعل البرنامج يحقق نسب مشاهدة تفوق برامج أخرى كثيرة وأن نسبة مشاهدته زادت كثيراً بعد عزل الرئيس الإخواني" محمد مرسي"، حيث بلغت نسبة المشاهدة 33 نقطة في وقت كان يحقق برنامج "ذا فويس" 11 نقطة فقط.

كما حظي باسم يوسف بشهرة كبيرة محليًا وعالميًا فاهتم به الإعلام الأوروبي والأمريكي ووصفه العديد بأكثر المذيعين المصريين جرأة، كما استضافه المذيع الشهير جون ستيوارت وأثنى عليه، كما رشحه اليوتيوب ليكون أفضل برنامج على اليوتيوب لعام 2013، كما كرمه اليوتيوب بأي حال لتجاوزه؛ وربما كان أكثر نجاح له هو اختياره ضمن قائمة أفضل 100 شخصية مؤثرة في العالم من قبل مجلة التايم الأمريكية.

لقد كان الشعب المصري بكل طوائفه ينتظر الإعلامي الساخر باسم يوسف مطلع كل أسبوع.. كى يستمتع بأداء راق ونقد بناء فى شتى المجالات يهجو فيها المسئولين ويهاجم فيها كبار الدولة.. واستطاع يوسف أن يقدم للشعب المصري والعالم العربي أقوى برنامج شهدته الفضائيات فى الحقبة الأخيرة.. واستطاع برنامج البرنامج أن يحقق أعلى نسبة مشاهدة وأكثر وقت تجارى للدعاية والإعلان.. لدرجة أن فريق الإعداد كان يرفض الإعلانات لشركات كبيرة بملايين لضيق الوقت.. وكان المبلغ الذى يتقاضاه باسم يفوق الخيال لدرجة قتال بين مسئولى القنوات الفضائية عليه بمجرد الموافقة على العمل معهم بشيك مفتوح.. فكان له حظ كبير من حب الناس والتأثير عليهم والشهرة التى فاقت الحدود.. وعمل يوسف على استقطاب القاعدة من الشعب المصري؛ وذلك حسب قول سامى خير الله .

لقد فرح الكثيرين بباسم يوسف عندما كان كرباجا على جماعة الإخوان المسلمين، وسخر منهم وفضح أكاذيبهم، ولا أنسى قفشاته المدمرة وأشهرها «جبنة نستو يا معفنين»، و«جاز وكحول دونت ميكس»..ولكن باسم يوسف أغضب الكثيرون منه كما يقول الأستاذ كرم جبر (في مقاله بعنوان باسم يوسف.. سخرية تضحك أحيانا من شدة سخافتها!)؛ عندما بدأ يتطاول على الرئيس عبد الفتاح والجيش المصري، فى وقت كانت فيه البلاد على حافة الخطر الأكبر، ولا تحتمل السخافة ولا السماجة، ولا المواقف المزدوجة والمثيرة للجدل، وبدا واضحا أنه يوظف سخريته لحسابه الخاص، ولا يفرق بين عصابة احتلت مصر وأرادت محو هويتها، وبين جيش وطنى تعلقت به القلوب لتخليصها واسترداد مكانتها.

ومن هنا وجدنا الكثيرين ممن تعاطفوا معه في الماضي أخذوا يهاجمونه بشراسة وضراوة، فوجدنا الأستاذة أمانى ابراهيم، حيث تقول:" لقد دأب هذا الـ "باسم يوسف" علي تقديم معلومات كاذبة ومضللة للرأي العام وهدفه الوحيد هو نشر الفوضى والاضطرابات في البلاد ولن ينجح أبداً بإذن الله تعالي في هذه المحاولات القذرة لأن الشعب المصري يعلم تماماً أن هذا الشخص أداة في يد أجهزة مخابراتية أجنبية ويتقاضي مئات الآلاف من الدولارات شهرياً لتنفيذ مخططاتها وكان هذا العميل قد وجه عبارات كلها سفالة وقذارة إلي جيشنا العظيم.. وهي عبارات لا يتفوه بها سوي إنسان سافل وعديم التربية".

كما وجدنا الأستاذ حسين الزناتى "، حيث يقول:"... إن الباعث الوطنى من وجهة نظرنا لم يكن وحده الذى يحركه فى انتقاد باسم يوسف لأحوالنا بهدف اصلاحه، بل كان دائماً ما يبث «السم فى العسل» وأن كثيرين منا بلع هذا السم، بدعوى الأفكار الثورية، بينما هو يضرب فى عصب مؤسساتنا الوطنية، وفى مقدمتها جيشنا العظيم الذى وصفه فى تصريحات دنيئة له بـ «الميليشيات المسلحة». إن من يقول مثل هذه التصريحات ضد جيش بلاده، ويسمح بوضع علم اسرائيل بدلا من فلسطين المحتلة ببرنامجه على خريطة الوطن العربى، الذى يعرض فى أمريكا، لا نتصور أن يبقى لديه مريدون إلا اذا كانوا من نفس نوعه!.".

ونفس الشئ  وجدنا الأستاذ علا السعدنى يقول: .. وأظن أنه لم يعد خافيا علي أحد أن هناك من الإعلاميين الذين يعملون معهم سرا ولكن الفرق الوحيد بينهم وبين " باسم يوسف " وشركاه أنهم يضربون من تحت الترابيزة لكي يبدو ظاهرهم فيه الرحمة والحب للجيش والدولة بينما باطنهم به كل العذاب بما يدسوه لنا من سم في معسول كلامهم الذي يضحكون به علينا كل ليلة من خلال أمسياتهم الساهرة ! والغريب أنه لو حدث ودافعنا نحن عن تلك المؤسسة الوطنية وأن تدخلها يأتي دائما لصالحنا، فإذا الدنيا تقوم عند هؤلاء ولا تقعد ونتهم بالتطبيل والتهليل وبأننا عبيد للبيادة، بينما هم المسموح لهم فقط بالسب والشتيمة وإهانة الدولة بكل مؤسساتها بما فيها الجيش أيضا تحت زعم الحرية والديمقراطية".

وفي نهاية هذا المقال أقول: لقد باسم مرسي كان ظاهرة جيدة في السخرية السوداء التي استخدمت بشكل حرفي ضد جماعة الإخوان المسلمين لإخراجهم من المشهد السياسي المصري والعالمي، ولكن عندما بدأ بظهر على مقدرات الدولة المصرية بالتشويه والتنكيل بمؤسسات الدولة.. وفقا لأجندة أمريكية خالصة.. تركه مشاهدوه وقادوا حملة ضده لعدم ظهوره على شاشات الفضائيات ولاقى هجوما لم يتوقعه من قبل، وهذا ما سيستفيد منه عزمي بشارة عندما كان يحارب جماعة الإخوان المسلمين الموالين لوضاح خنفر والمنافسين له في التمويل المالي القطري وذلك باستنساخ سيناريو باسم يوسف من خلال برنامج جو شو الذي يعده من قناة العربي يوسف حسين ..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط.

.......................

1-  حسن يوسف طه: الواقع و جماليات السخرية عند باسم يوسف، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، العدد 328، 2013.

2-أمانى ابراهيم: "وقفة مصرية .. حاكموا باسم يوسف".. مقال.

3-الأستاذ علا السعدني: " أزمة باسم يوسف مع "لبن الأطفال"!.. مقال.

4- الأستاذ حسين الزناتى: "بضمير .. مفاجأة باسم يوسف .. للمصريين !" .. مقال.

5-؛ سامى خير الله: "انتحار. .باسم يوسف !".. .. مقال.

 

 

في المثقف اليوم