شهادات ومذكرات

صلاح فضل.. عاشق العربية (2)

محمود محمد علياسمح لي عزيز القاري أن أغوص في هذا المقال في حياة الدكتور صلاح فضل ؛ وبالذات في فترة منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، والذي تمت ولادته في شباس الشهداء بوسط الدلتا، في ذلك الوقت كانت المعارك النقدية ملتهبة في الوسط القاهري عبر عمالقتها، مثل عباس العقاد، وأحمد أمين، وزكي مبارك .. الخ.

هنا في هذا المقال أحاول أن أقدم حديثاً عن صلاح فضل، وهذا الحديث يخلط بين الخاص والعام من حيث ظروف النشأة، والتفتح علي المدارك الأدبية والثقافية، وذلك من خلال هذا الجو الذي كان يلف القاهرة ومصر في تلك الفترة ؛ ولذلك أقول مع صلاح فضل بأنه لحسن الحظ بين الخاص والعام في هذا الصدد ليست مفتعلة، وإنما هي بسيطة وحقيقية، وذلك لسبب بسيط جداً، وهو أن "صلاح فضل" نشأ في بيئة أزهرية؛ فقد كان والده وجده من علماء الأزهر، ومن المشتغلين بالثقافة العربية والإسلامية، ومن القراء المدمنين لمجلة الرسالة، وقد كان "صلاح فضل" قد تعلم الأبجدية الأولي في أعداد الرسالة لـ" أحمد حسن الزياد"، وفي الكتب التي تفرزها المطابع، وتحمل آثار هذه المعارك الكبرى، فقد عرفهم "صلاح فضل" في صباه الأول، حيث كان يقرأ إنتاجهم مع حفظه لآيات القرآن الكريم ؛ حيث كان يتروي، ويتغذي بملحهم ونوادرهم، وفكاهاتهم، وكتاباتهم اللطيفة.

لقد عرف صلاح فضل رشاقة قلم "إبراهيم المازني"، كما عرف أسلوب "زكي مبارك" اللعوب، وهو ينشر متابعاته عن الليلة المريضة في العراق الشقيق، كما عرف "فضل" صرامة، وجهامة، وجدية "صادق الرافعي الرافعي"، وهو يعشق ويحارب، وهو يكتب عن السفود، وتحت راية القرآن، وأوراق الورد، وتهويماته الرومانسية الرائعة الجميلة .

كل هذا كان يمثل الطعام اليومي لصلاح فضل، ومن ثم لم يكن غريباً عنه، لأن المسافة بين القرية والمدينة، كانت ضيقة جداً، وقصيرة جداً، عبر المجلة والكتاب في الدرجة الأولي، وبصفة شخصية كان من حسن حظ "صلاح فضل" أن والده كان يكتب الشعر، وهو يريد له أن يكون شاعراً .

وبطبيعة الحال، فقد تمرد صلاح فضل (كما يعترف) علي هذه الإرادة، واختار بطريقة صبيانية ولطيفة جداً طريق النقد، لأنه قد طرح علي نفسه سؤالا مبكراً (كان النموذج الشعري الفائق الذي ما زال يملأ أسماع كل المصريين والعرب، كان هو أحمد شوقي، فطرح "صلاح فضل" في العاشرة من عمره علي نفسه سؤالاً) : هل بإمكانه أن يتوفق علي الشاعر المبدع "أحمد شوقي" ؟ .. ويبدو أنه كان في المرحلة يملك حساً نقدياً مبكرا، إذ جزم صلاح فصل بأنه لن يصل إلي مستواه، ومن ثم فلم يكن "فضل" شيئاً آخر .

كان صلاح فضل دائماً ما يقرأ رسائل جده إلي أصدقائه، فيراها تمضي بنفس نسق أسلوب الرافعي من غير تقليد، لكن فيما يبدو كان هذا هو التيار الذي يمتلك وعي اللغة، ويُوظف عبقرياتها، ويستقطر جماليتها، حتي في الكتابة اليومية، عندما كان يخط برقية مثلاً ليبعثها إلي صديقاً له، ويرسلها "فضل" إلي مكتب التلغراف كي يقوم بعملية إرسالها، فيقرأها فيجدها بالغة الوجازة والدقة .

وهو يعترف أنه ما زال يتذكر هذه البرقيات التي أرسلها عميد كلية اللغة العربية، وكان رفيقه في الدراسة ليهنئه قائلا :" دواماً ترقي وأهني" .. كانت ثلاثة كلمات كما يقول فضل عن والده فقط، لكنها تحمل التهنئة، وجازه التعبير عن رغبة استمرار الترقية، وعن الاحساس المتابع ... كل هذا المناخ الأدبي خلق في طفولة "صلاح فضل" أفقاً لم يكن له أن ينفصل عنه، وهو أفق إرضاعة والتغذي بلبان العربية، وجماليتها، وبرغم من أنه كان يتمني لنفسه مصيراً آخر ؛ حيث كان يطمح بأن يكون طبيباً، وهذا شئ بالغ الغرابة، إلا أن وفاة والده المبكرة ؛ حيث أُختطف في ريعان شبابه أثناء وباء التيفود في مصر عام 1942م وهو في الرابعة من عمره، مما جعل جده ينظر إليه كي يخلفه في الأزهر، وفي دراسة اللغة العربية .

لذلك دخل صلاح فضل كلية دار العلوم فأصبح درعمياً، وبالفعل كانت هذه هي طريقته في الهروب، وفي تغيير التيار، لأن الدراسة الأزهرية عندما نستحضر دوائرها كانت بالغة القسوة في اكتمال دائرتها، لدرجة أنه عندما أتمم "صلاح فضل" السنة الأولي الابتدائية، كان يحفظ القرآن قبل دخول المعهد في السنة الأولي، فيدرس كان أبواب النحو العربي، ومعظم أبواب الفقه الإسلامي، وقضايا الصرف، ولم يكن "صلاح فضل" يتصور أن هناك علماً آخر، يمكن أن يدرسه في السنة الثانية، أو الثالثة، فضلاً عن أن يكون هناك علماً في مراحل أخري تالية، ووصل "صلاح فضل" لدرجة التشبع من هذه الثقافة التقليدية، وكان المنفذ إلي كلية دار العلوم لاختراق أفق جديد بثقافة مغايرة تعطي وجهاً آخر للحياة والفن والفكر بصفة عامة .

وعندما دخل "صلاح فضل" كلية دار العلوم، كان تشوفه وتشربه لكل ما يحيط به، كان في حقيقة الأمر بالغ الحساسية، والقدرة علي الالتقاط، فقد عاصر "صلاح فصل في تلك المرحلة مناخين يحيطان به في الدائرة المحدودة بالكلية والجامعة (وأعني هنا جامعة فؤاد الأول وهي جامعة القاهرة حالياً)، والدائرة الثقافية العامة، فنجد في الدائرة الاكاديمية كان الصراع يدور في تلك الآونة بين مدرستين في الأدب في نقده، كان "محمد مندور" يتزعم دراسة الأدب للمجتمع، والتوظيف الواقعي للرواية وللشعر وللمسرح ؛ وخاصة في دفع دم قوي وحاضر ومتدفق لشرايين الحياة، وربط منظومة القيم الاجتماعية في تطور مصر والعالم العربي في تلك الآونة بالإبداع الأدبي، في مقابل دعوة "رشاد رشدي" التي تعتصم بمقولات الفن للفن، والتي تعول علي النقد الموضوعي التحليلي وغيرها .

لكن كان إلي جانب هذين النموذجين، كان هناك أنموذج أقرب إلي قلب "صلاح فضل" وأكثر تطلعاً مع توافقاته العلمية، ألا وهو نموذج "غنيمي هلال"، والذي كان أستاذه المباشر، لأنه يمثل أنموذج للعالم الذي يبرأ من التحيز الايديولوجي، والذي يوظف المعرفة توظيفاً دقيقاً في سبيل التنامي العلمي والتثاقف الحقيقي، مع الخمائر العميقة في جذور الثقافة العربية، والثقافة الإنسانية الغربية القديمة والحديثة .

كان نموذج "غنيمي هلال" ملئأ لوجدان صلاح فضل حاجاته المعرفية، وهو الذي دعاه في هذه المرحلة إلي أن يقتصر علي الثقافة العربية، ويكتفي بمعطياتها، ولا ينفصل فقط عن الأفق العالمي، وإنما لا يستطيع أن يراه مادة تخصصه ذاتها، وهي الثقافة العربية، لأنه من يتصور هذا كثيراً، كمن يلصق وجهه في المرآه، لا يستطيع حتي أن يري وجهه، وأنه بمقدار ما يأخذ مسافة من المرآه، يستطيع أن يتبين ملامحه بوضوح، ويحيط بذاته، ويعي وجوده .. كانت مثلاً دراسة " محمد مندور" عن نظرية النظم مفاجئة جميلة ومدهشة بالنسبة لصلاح فضل لأن شيوخ الأزهر كانوا يشبعون حفظاً لكتب عبد القاهر الجرجاني .

بيد أن هذا الحفظ والاستنساخ الآلي والتكرار، لم يكن أبدا ليجعل "صلاح فضل" ليمسك بجوهرها أو يتبين قيمتها .. لكن طريقة محمد مندور في توظيف المناهج النقدية المعاصرة لاكتشاف القيمة الحقيقية في الإطار التاريخي لنظرية النظم عند عبد القاهر، جعلت "صلاح فضل" يدرك في هذه المرحلة المبكرة، أن المشكلة الأولي، هي مشكلة المنهج، وأن هذا المنهج نحن لا نصنعه في ثقافتنا العربية، وإنما هو يُصنع عالمياً، وعلينا أن نتقن لغة العالم العلمية، حتي نستطيع أن نكتشف لا ما يُشغل به هذا العالم الجارحي فحسب، وإنما أن نكتشف ذواتنا في أعمق تياراتها الخفية ..

وحول مدي استفادة "صلاح فضل" من الركام العلمي والبحثي الذي قام به البحاثة المصري الأستاذ الدكتور محمد عبد الله عنان المهتم بالأندلسيات والتاريخ الإسلامي، فقد كانت هذه هي إحدى مشاغل "صلاح فضل" بلا شك ؛ إذ تمثل لدية من المناوشات الطريفة والجميلة، حيث عرض "صلاح فضل" الموضوع علي نفسه من خلال الوجه التالي : أنت جئت خطأ إلي هذه البلاد، ثم لم تلبث أن أدركت أن بوسعك أن تحصل معرفة أدبية ونقدية، لكن لا بد لك أن تفيد من وجودك هنا، فأخذ "صلاح فصل" يعتني بالدرجة الأولي بدراسة التراث الأندلسي العربي القديم، خاصة في علاقته بالآداب الغربية؛ سواء الإسبانية، أو الفرنسية، والأوربية الأخرى .. كانت كتابات "محمد عبد الله عنان" تمثل بالنسبة لصلاح فضل الحصاد التاريخي للوجود العربي في الأندلس، لكن كانت هناك مجموعة أخري من الكتابات بالغة الأهمية لا يتاح للإنسان أن يقف علي أسرارها ويمتلك محصلتها المعرفية إلا إذا أتقن اللغة الإسبانية وعرف خباياها، وهي كتابات المستشرقين العظام من إسبانيا الذين وهبوا أعمارهم طاقتهم العلمية الخلاقة للكشف عن الدور العربي الرائد في تطعيم الثقافة العالمية .

وبالفعل في مدريد وجدنا "فضل" تدفعه العاطفة وتصقله الموضوعية لإنجاز حلم ذات فردية متشبعة تماماً بتراث جماعتها المحلية علي أرض الأندلس القديمة التي تحمل ذكريات أجداد، مست أصواتهم اللغة والعمارة، مثلما لامست هويتهم ملامح البشر، فينال درجة الماجستير في عام 1967م عن " المؤثرات التراثية العربية في القص الإسباني، وفي سنوات الاستنزاف انتهت مرحلة العلاقة المباشرة بين الأدب والأيديولوجيا عنده مع مناقشته لرسالة الدكتوراه عام 1972م التي احتفت بالالتزام الوجودي عند "بويرو باييخو"، وهدأت ثورة الربيع الذي منحه تاريخ الميلاد في الحادي والعشرين من مارس 1938م بشباش الشهداء ليبدأ صيف النضح في المكسيك، وهو يلقي علي عدد قليل من طلبة الدراسات العليا دروساً في الأدب العربي.

ومن المكسيك دلف "صلاح فضل" إلي الساحة النقدية من الباب الأكاديمي الضخم بصريره العميق ومزاليجه العصية، لم يبدأ أولي خطواته بالمتابعة الإعلامية التي تومض كلحظة برق خاطفة يقتنصها مقال عاجل يبعث في النفس نشوة تتبدد سريعاً، إنه يسعي إلي الأستاذية العلمية التي أرسي العميد "طه حسين" دعائمها في المؤسسة النقدية .. إن له دوراً في الحياة الأكاديمية يماثل أدوار علماء الطبيعة، والكيمياء، والأحياء، والهندسة ؛ بل إن العلوم الإنسانية حددت مجال عملها وتعرفت علي ملامحها وخطت في مجال اكتشاف قوانينها بثقة، حدث هذا في الدراسات الاجتماعية والنفسية، هؤلاء يكتشفون القوانين الكونية، والأنظمة الحضارية، والسلوك البشري، ويحددون صفات العناصر، ويصفون الخلايا، ويشيدون البنية العمرانية، ويتوغلون في جيولوجيا الأرض والنفس يبحثون عن الحقائق التي يمكن البناء عليها، والنقاد أيضاً، هؤلاء الذين يكتشفون تجليات الجمال في البيان، هؤلاء الذين انتمي إليهم بوعي ومسؤولية، لهم مجال عمل محدد هو اكتشاف قوانين الشعر، فالرجل لديه رؤية واضحة تصل بين التطور الروحي والذهني في التعامل مع أبجدية الوجود التي يحرص الإنسان علي المضي في اكتشافها والإفادة منها وهو القائل: " إن التقدم في فهم قصيدة في درس ثانوي ضروري لتركيب جهاز في معمل هندسي" .. وهذه فكرة جوهرية في إدراك مفهوم العلم ووظائفه، فإعمال العقل هو أساس التطور الإنساني الخلاق في الارتقاء بالمسار الحضاري .

لم يكتف صلاح فضل بذلك بل وجدناه في كتابه " نظرية البنائية في النقد الأدبي" يتجول داخل إطار المدرسة النصية الجديدة التي أسس الشكلانيون الروس قواعدها وشيد "رومان ياكبسون" ستة أعمدة تحمل وظائف اللغة في فضائها العلمي، بينما صمم "رولان بارت" (الذي لقي مصرعه بعد عامين من الطبعة الأولي لكتاب البنائية فأشار صلاح فضل في الطبعة الثانية التي صدرت بعد رحيل بارت بأشهر قليلة لهذا الوداع المأسوي) مداخلها ووضع لها الديكور الفرنسي الجميل اللائق بموضة باريسية جديدة، يسعي "صلاح فضل" في هذا الكتاب للمشاركة في صياغة قانون التنظيم الذاتي للعمل الإبداعي، لقد دخل الخطاب النقدي عصر المؤسسات، ومن حقه أن تكون له هندسته الخاصة به، بوصفه مركز دراسة أشكال الإبداع، وفحص أبنيتها، ورصد النسب التي تتشكل منها المادة النصية، لكي تسمح بوجود كيان معماري لغوي في أفضية التواصل الإنساني، فالبنية النصية تنفيذ لرسم هندسي يخطط لمبني، لن يكتسب ذاك المبني قوة البقاء إلا أذا حافظ علي العلاقة الحتمية بين التصميم والتنفيذ، مراعياً العناصر التي تقيم دعائمه كلها، ومحافظاً علي العلاقات فيما بينها .

وحتي لا يطول بنا الحديث الشيق والجميل عن صلاح فضل، لا أملك إلا أن أقول : تحيةً لـ" صلاح فضل"، ذلك الرجل الذي يمثل بالفعل قيمة أدبية وفكرية، ما جعل زملاءه وتلاميذه من الأدباء والكُتاب والأساتذة الجامعيين يعترفون له بريادته في تنوير العقول ومكافحة الجمود والتعصب.

وهنا أقول مرة أخري تحيةً مني لـ" صلاح فضل" الذي آثر أن يكون صدى أميناً لضمير وطني يقظ، وشعور إنساني رفيع، وسوف يبقى نموذجاً لمن يريد أن يدخل التاريخ من بوابة واسعة متفرداً .

بارك الله لنا في "صلاح فضل" قيمة جميلة وسامية في زمن سيطر عليه السفهاء، وأمد الله لنا في عمره قلماً يكتب عن أوجاعنا، وأوجاع وطننا، بهدف الكشف عن مثالب الواقع، والبحث عن غداً أفضل، وأبقاه الله لنا إنساناً نلقي عليه ما لا تحمله قلوبنا وصدورنا، ونستفهم منه عن ما عجزت عقولنا عن فهمه.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

.....................

1- قناة العربية: هذا هو صلاح فضل .. يوتيوب..

2- محمد سيد السيد قطب: صلاح فضل و قوانين الشعرية، فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، العدد 78، 2010م.

3- شكري بركات إبراهيم : قراءة في منهج حداثي : البنيوية عند صلاح فضل أنموذجا، مجلة الدراسات العربية، جامعة المنيا - كلية دار العلوم،ع 12 , مج، 2005

 

 

في المثقف اليوم