شهادات ومذكرات

يوسف شعبان.. "وتد" السينما والدراما العربية في ذمة الله

محمود محمد عليما زلت أومن بل ربما أكثر من أي وقت مضي بأن الفنان ليس كباقي أفراد المجتمع، فهو ليس مجرّد شخص يرسم، أو يصور، أو ينحت، أو يعزف المقطوعات الموسيقية، وإنما الفنان في نظري، هو مفكّر بالضرورة، وهو أكثر أهمية من أي مفكّر عادي أيضاً، ذلك أنه يرى التاريخ والحاضر والمستقبل من منظورٍ شديد الخصوصية والغرابة في الوقت نفسه، كما أن مساحة الخيال لديه أكبر، لذا فهو يرى أكثر، ويستطيع فهم ما يراه بشكل أفضل.

والفنان المصري يوسف شعبان من هذه النوعين من الفنانين، ولقد حزنت حزنا شديدا عندما تلقيت نبأ وفاته في الأسابيع الماضية، حيث رحل عنا عن عمر ناهز 90 عاما داخل مستشفى العجوزة متأثرًا بفيروس كورونا، الذى أصيب به الأسبوع الماضي، ودخل على إثره أحد مستشفيات المهندسين، وبعدما تدهورت حالته الصحية، تم نقله للعناية المركزة بمستشفى العجوزة.

وعقب وفاته تحولت مواقع التواصل الاجتماعي عقب وفاة الفنان يوسف شعبان إلى ما يشبه سرادق عزاء كبير، حيث أجمعوا على أنه كان يتصف إنسانياً بالشهامة والمواقف النبيلة والطيبة، كما امتلك على الصعيد الفني قدرات وموهبة كبيرة ؛ وقد كتب المغردون في وداعه "الله يرحمك ويغفر لك أيها الفنان النبيل يوسف شعبان".

رحل يوسف شعبان عنا بعد رحلة فنية متميزة كماً وكيفاً، ويوسف شعبان من نوعية الفنانين الذين لم تحصرهم ملامحهم في نوعية أدوار معينة، رغم أن بدايته انحصرت في أدوار الفتى الشرير، وكان مضطراً لقبوله كي لا يتوقف عن العمل، ولم يخش من تقديمها رغم خوف زملائه في سبعينات وثمانينات القرن الماضي منها.

رحل يوسف شعبان، وبوداعه ودّعنا كما يقول الدكتور خالد منتصر جيلاً عظيماً منح الفن روحاً جديدة وألقاً متفرداً، جيلاً رحل عنا معظمه بالموت أو بالإهمال وهو على قيد الحياة، كانت صرخة يوسف شعبان قُبيل رحيله وشكواه من نسيان المنتجين والمخرجين لجيله صرخة أوجعت وأدمت القلب والروح، يوسف شعبان ابن دفعة العمالقة الذين تخرجوا فى معهد الفنون المسرحية معاً وخاضوا تجربة الدراما التليفزيونية ومسارح التليفزيون معاً لا واسطة لهم إلا موهبتهم الفياضة التى خرجت كالبركان، صنعوا مجد مسلسلات وتمثيليات ماسبيرو التى ما زلنا نعيش عليها وتفخر بها شاشاتنا حتى اليوم.

وقد بدأ يوسف شعبان عمله بالفن عام 1961، حيث قدم أكثر من 300 فيلم ومسرحية ومسلسل، من بينها نحو 150 مسلسلاً تعد علامات في الدراما العربية، ومنها "عيلة الدوغري"، و"المال والبنون"، و"ليالي الحلمية"، و"رأفت الهجان" و"الوتد" و"العائلة والناس"، و"التوأم"، و"السيرة الهلالية"، و"على باب مصر"، وأكثر من 90 فيلماً، منها "في بيتنا رجل"، و"أنا الهارب"، و"المعجزة"، و"زقاق المدق"، و"بياعة الجرايد"، و"أم العروسة"، و"الراهبة"، و"مراتي مدير عام"، و"معبودة الجماهير"، و"الرجل الذي فقد ظله"، و"ميرامار"، و"المذنبون"، و"دائرة الانتقام"، و"زائر الفجر"، و"آه يا ليل يا زمن"، و"المرأة الحديدية"، و"قضية ‏سميحة بدران"، و"كشف المستور" وغيرها.

علاوة علي أنه تمكن من أن يجسد العديد من الشخصيات البارزة، منها شخصية المتحدث بلسان النبي موسى عليه السلام في مسلسل "محمد رسول الله"، وشخصية آخر ملوك الأندلس "الناصر الحاكم" في مسلسل "فتى الأندلس"، و«حاكم الموصل» في مسلسل "الطريق إلى القدس"، ورسول الإسلام إلى ملك الروم في «الطريق إلى سمرقند»، و"بطليموس الثاني عشر" في مسلسل "كليوباترا".

كما قدم يوسف شعبان مسلسلا غريبا أبدع فيه باختلاف اللهجة المصرية وهو المسلسل الأردني وضحا وابن عجلان والذي اعتبر الأكثر مشاهدة في دول الخليج والأردن وسوريا في حينه، وشاركته البطولة من سوريا سلوى سعيد ومن الأردن نبيل المشيني إلى جانب مجموعة من الممثلين الأردنيين والسوريين الكبار، والمسلسل قصة عشق بدوية هي ذاتها قصة نمر بن عدوان تعتبر نقلة نوعية في مسيرة يوسف شعبان الفنية.

يذكر أن يوسف شعبان المولود في حي شبرا في القاهرة في 16 يوليو 1931، ووالده مصمم إعلانات مشهور في شركة (إيجبشان جازيت)، تلقى تعليمه الأساسي في مدرسة الإسماعيلية والتعليم الثانوي في مدرسة التوفيقية الثانوية، بسبب تفوقه في مادة الرسم قرر الانتساب في كلية الفنون الجميلة ولكن عائلته رفضت بشدة وخيرته بين كلية البوليس (ليلتحق بأبناء أخواله) أو الكلية الحربية (ليلتحق بأبناء أعمامه) أو كلية الحقوق، ونتيجة للضغط الشديد عليه قرر الالتحاق بالكلية الحربية ولكن في اختبار الهيئة أسقط نفسه فرفضوا انضمامه ولكن عائلته علمت بما دبره فأجبرته على الانضمام لكلية الحقوق في جامعة عين شمس، وهناك تعرف على أصدقاء عمره الفنان كرم مطاوع والممثل سعيد عبد الغني والكاتب إبراهيم نافع. وقرر بناء على نصيحة كرم مطاوع الالتحاق بفريق التمثيل في الكلية ثم قدم أوراقه اعتماده في المعهد العالي للفنون المسرحية. وبسبب ضغط الدراسة في الكلية والمعهد قرر التركيز في دراسة المعهد وسحب أوراقه من كلية الحقوق وهو في السنة الثالثة، تخرج من المعهد العالي للفنون المسرحية من سنة 1962.

وهو صاحب تاريخ طويل وأدوار قوية وضعته فى مصاف عمالقة الفن الذين صنعوا أهم الأعمال فى عصرها الذهبى، ابن شبرا حكى فى حوار سابق مع جريدة "اليوم السابع" المصرية عن بداياته فلم يفكر فى احتراف التمثيل وحلم بدخول كلية الطيران لكن والدته خافت ورفضت فقدم فى كلية الشرطة ولم يتم قبوله وترك كلية الحقوق ليتفرغ لمعهد التمثيل فرشح لدور فى فيلم "فى بيتنا رجل" وبعدها توالت أعماله وأبدع فى عشرات الأدوار فى السينما والدراما.

وقد لاقى يوسف شعبان في بداياته السينمائية منافسة شرسة ولكنها شريفة من أبرز نجوم فترة الستينات وهم رشدي أباظة، كمال الشناوي، صلاح ذو الفقار، حسن يوسف، وشكري سرحان، وكان بعضهم يغري المنتجين بتخفيض الأجر الذي يحصل عليه للتأثير عليهم لاختيارهم وعدم اختياره.

في سنة 1997 نجح في انتخابات نقابة الممثلين في منصب رئيس النقابة، واستطاع خلال فترته تسديد جميع الديون المترتبة على النقابة وأنشأ ناديا كبيرا في القاهرة لاجتماع جميع الممثلين وعالج العديد من الفنانين الذين لم يكونوا يستطيعون دفع مصاريف علاجهم، واستطاع أن يستمر في منصبه دورتين متتاليتين قبل أن يخسر في انتخابات 2003 أمام الفنان أشرف زكي.

السؤال ما زال مطروحاً، لكن ما ليس مطروحاً، هو تعويض هذا الجيل بكل هذا الثقل الفنى وحجم الموهبة الجامحة، والأهم عمق الثقافة وعشق الفن.

رحم الله الفنان يوسف شعبان، الذي صدق فيه قول الشاعر:

رحلتَ بجسمِكَ لكنْ ستبقى.... شديدَ الحضورِ بكلِّ البهاءِ

وتبقى ابتسامةَ وجهٍ صَبوحٍ..... وصوتًا لحُرٍّ عديمَ الفناءِ

وتبقى حروفُكَ نورًا ونارًا.. بوهْجِ الشّموسِ بغيرِ انطفاءِ

فنمْ يا صديقي قريرًا فخورًا ... بما قد لقيتَ مِنَ الاحتفاء

وداعًا مفيدُ وليتً المنايا....... تخَطتْكَ حتى يُحَمَّ قضائي

فلو مِتُّ قبلكَ كنتُ سأزهو...... لأنّ المفيدَ يقولُ رثائي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..............

1- وفاة الفنان المصري يوسف شعبان — تاريخ الاطلاع: 28 فبراير 2021 — الناشر: سكاي نيوز عربية — تاريخ النشر: 28 فبراير 2021

2- حتى النجوم الرجال يغالطون في أعمارهم، جريدة القبس، دخل في 20 فبراير 2013 نسخة محفوظة 6 أكتوبر 2014 على موقع واي باك مشين.

3- نقيب الممثلين يوسف شعبان يكشف لـ (مجلة الجزيرة ) العمل بالفن لم يكن من بين أحلامي، مجلة الجزيرة، دخل في 15 فبراير 2013 نسخة محفوظة 10 نوفمبر 2017 على موقع واي باك مشين.

4- وداعاً «عرّاب» رأفت الهجان.. «كورونا» يغيّب يوسف شعبان.

5- د. خالد منتصر: يوسف شعبان وظاهرة النجم التليفزيونى.. مقال بحريدة الوطن المصرية..

 

 

في المثقف اليوم