شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: "عرار".. الشاعر الذي ارتدي عباءة "نيلسون ماندلا" (1)

محمود محمد علي"عرار".. شاعر أردني، واسمه الحقيقي مصطفى وهبي صالح التل (25 مايو 1899 - 24 مايو 1949)، وهذا الرجل من أشهر شعراء الأردن على الإطلاق، وواحد من أبرز شعراء الشعر العربي المعاصر، لقب بشاعر الأردن، حيث يعد رائد القصيد الأردنية في مطلع هذا القرن؛ لقبوه باسم "عرار"، حيث كان يوقع بعض شعره بلقب (عرار)، ويتميز شعره بالرصانة ومناهضة الظلم والاستعمار بالأردن إلى حد كبير.. غرس روح الوطنية بين مواطنيه في الوقت الذي كان الأردنيون يبحثون عن هوية خاصة بهم .

ويعد " عرار" أحد أشهر شعراء الجزيرة العربية، وبلاد الشام، والدولة العثمانية في نهايات حكمها الذي امتد نحو أربعمائة عام، شاعر عربي أردني أصيل مهووس في حب الأردن، وقد وصل عشقه للوطن أن شبهه بجنة الله على الأرض.. عرار شاعر لم تشهد البلاد مثقفاً شاعراً مثله، ليس فقط في عملية نظم الشعر، ذلك أمر هين يمكن لكل ناظم للشعر أن يكتب ويتفلسف شعراً أو نثراً، عرار كان مدرسة في كل شيء، مدرسة في الوطنية والانتماء للوطن، مدرسة في الإنسانية خلال علاقته بالنور، مدرسة تصور كل تفاصيل الأردن من شماله الى جنوبه، وكأنه يحمل خارطة تسجل كل حفنة تراب، وبصمة حافر من حوافر خيول العز والشرف والبطولة، وقلم أردني سطر تاريخ الأردن بالحبر والدماء.

فعرار كان نسيج وحده في الحركة الشعرية المعاصرة، لكونه شاعرا متفردا لا ينتمي الى جيل، ولا الى مدرسة، و"انما ينتمي الى تجربته الخاصة فقط، لأن معظم قصائده قد رسختها مفاهيم تجاربه الحياتية، وربما عرار الشاعر الوحيد الذي لا ينفصل شعره عن حياته، فقد استغل مادة حياته استغلالا صادقا، واسقطها بصدق وبدقة وبشفافية في شعره، حيث لم يحجب من حياته شيئاً.

ويمثل عرار واحداً من جيل الرعيل الأول من الأدباء والشعراء في عصر النهضة العربية الذين عرفوا بقدرتهم على إيقاظ مشاعر من يقرأ لهم، فهو واحد من الشعراء الذين لم ينالوا كامل حقهم من الدراسة والتقويم والاهتمام. فهو يعتبر ثورة حقيقية استهدفت رقي الإنسان وتحقيق العدالة للجميع دون تفريق والالتزام بقضايا الوطن والمواطن.

ولد مصطفى التل في مدينة إربد بالأردن في عام 1897م والتحق بالمدرسة الابتدائية في إربد، ثم سافر إلى دمشق عام ١٩١٢ ثم نفي إلى حلب، حيث أكمل دراسته الثانوية من المدرسة السلطانية في حلب ثم تركها إلى بيروت منفيا بسبب تطاوله على والى دمشق وأكمل دراسته فيها، ولاحقا درس مصطفى التل القانون في أواخر العشرينيات.

وانتقل بعدها الى دمشق حيث واصل دراساته وشارك في الأنشطة السياسية التي عبرت عن الرفض ضد الإمبراطورية العثمانية والتحريض ضد القومية العربية. نفي الى بيروت الى جانب نشطاء أردنيين آخرين لكنه ما لبث أن عاد قريبا. كان مصطفى منذ أيامه في المدرسة الثانوية يعمل بنشاط في الأنشطة السياسية بسبب الاضطرابات الإقليمية التي عانى منها العرب والأتراك في طريقهم كجزء من الطموحات الاستعمارية البريطانية. وأصبح مدرساً للأدب العربي في الكرك عام 1922م، لكنه أقيل وطرد إلى المملكة العربية السعودية بسبب معتقداته السياسية التي كان ينقلها بشكل مستمر للعامة. وعلى مدى العقد المقبل عاد إلى الأردن ونفي مرة أخرى بعد مرور بعض الوقت.

حصل مصطفى التل على إجازة بممارسة المحاماة في ١٩٣٠ تدرج التل بالسلك الوظيفي حتى صار حاكما إداريا في مناطق «وادى السير والزرقاء والشوبك»، ثم مدعيا عاما في السلط ثم رئيسا للتشريفات في الديوان العالي، ثم متصرفا للبلقاء لأربعة أشهر عزل بعدها واعتقل وبعد خروجه عمل بالمحاماة؛ لكنه كان مستمرا في قراءة وكتابة الشعر. كما كان يعرف جيدا معظم الشعراء المعاصرين، وكانت لديه أيضا روابط وثيقة مع نخبة من الشعراء في قصر الملك عبد الله الذي دعي اليه لقراءة شعره. توفي مصطفى في عام 1949م في عمان، وتم تسمية أرفع جائزة أدبية بالأردن على اسمه، وكذلك المهرجان السنوي للشعر الذي يقام أيضا باسمه. كان مصطفى أيضا باحثا متعطشا وكاتبا للمقالات، وتم توزيع أوراقه السياسية على نطاق واسع بين القراء الأردنيين وكان لديه أتباع كثيرون بسبب آرائه السياسية. ولعب مصطفى دوراً رئيسياً في خلق الروح الوطنية لدى الشعب الأردني ضد الاحتلال الأجنبي في أراضيهم، وأظهر لهم ضرورة الوقوف ضد القوى الاستعمارية لإنقاذ هيبتهم الوطنية و احترام ذاتهم.

وعرار بداخله يتقمص شخصية نيلسون ماندلا من خلال كتابته الشعرية، ولذلك تجربة عرار فريدة من نوعها، إذ كانت متميزة بين تجارب الشعراء الآخرين في ذلك الوقت، لقد عانقت تجربة عرار الحالة اليومية البسيطة، وتحدثت عن مواضيع لم يتطرق إليها الشعر من قبل. تلك التجربة كانت معززة بروح شاعر ظل يمشي بين المتناقضات في الحياة، كما أنه توغل في هذا المشي، حينما التجأ إلى الغجر، وكتب عنهم وأشاد بهم باعتبار حياتهم أنموذجا للحرية، وذلك أمام المدن المتجهمة التي تضيق ذرعا بالشاعر وتقتل روحه.

وكان لعرار له صلات واسعة مع كثير من الشعراء المعاصرين له أمثال: إبراهيم ناجي، أحمد الصافي النجفي، إبراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)، الشيخ فؤاد الخطيب، كما كانت صلته وثيقة ببلاط المغفور له الملك عبد الله الأول ابن الحسين، حيث كانت تجتمع نخبة من الشعراء والأدباء، وتدور بينهم مساجلات ومعارضات شعرية.

وقد خلف "عرار" وراءه عددًا من الآثار النثرية والشعرية التي كان أبرزها: عشيّات وادي اليابس، شعر، بالرفاه والبنين/ بالاشتراك مع خليل نصر، دراسات، الأئمة من قريش، دراسات، أوراق عرار السياسية (جمعها: محمد كعوش)، رباعيّات عمر الخيّام (ترجمة)، عشيات وادي اليابس (محقق).. إلخ.

وقد حظي "عرار" التل باهتمام الكثير من النقاد والدارسين نظرًا لميوله الاجتماعية وجانبه الفكري فقد ظل حس العدالة والإنصاف يلازمه طوال حياته إذ انتصر لتلك الطبقة الاجتماعية المضطهدة المعروفة بالنّور وعاشرهم وجالسهم في كثير من أيام حياته، وقد اتصل اسم مصطفى وهبي التل بلقبين: شاعر الأردن، وعرار وهو اللقب الأشهر له والاسم الذي عرف به خلال مسيرته الشعرية.

وعرار شاعر لم تشهد البلاد مثقفاً شاعراً مثله، ليس فقط في عملية نظم الشعر، ذلك أمر هين يمكن لكل ناظم للشعر أن يكتب ويتفلسف شعراً أو نثراً، عرار كان مدرسة في كل شيء، مدرسة في الوطنية والإنتماء للوطن، مدرسة في الإنسانية خلال علاقته بالنور، مدرسة تصور كل تفاصيل الأردن من شماله الى جنوبه، وكأنه يحمل خارطة تسجل كل حفنة تراب، وبصمة حافر من حوافر خيول العز والشرف والبطولة، وقلم أردني سطر تاريخ الأردن بالحبر والدماء.

وقد تجسدت موضوعات أشعار "عرار" حول القضايا السياسية التي عايشها المجتمع الأردني والعربي آنذاك، والتي أشرف على كثير منها خلال مسيرته العملية في سلك القضاء، بالإضافة إلى القضايا الاجتماعية، وتناولت أشعاره الموضوعات والمضامين الآتية: الغزل ومنه قوله: يا ظبية الوادي ولا واد إذا ما كنت فيه ولا هناك حزون ما أنت إلاّ بسمة علوية بدموعها ربّ الجمال ضنين قولي لمن ظلموك: ربّ ظلامة شفعت لها عند الشيوخ عيون السياسة. ومنه قوله: لو أني أرأس الوزراء أو قاض كمولانا لألغيت العقاب ولم أدع للنفي إمكانا أما وانا من اتخذوه للإرهاق ميدانا فمن سجن الى منفى لآخر شط ابوانا فهات الكأس مترعة من الصهباء ألوانا يطالعنا بها حبب كعين الديك يقظانا العدالة الاجتماعية ومنه قوله: إنّ الصعاليك إخواني وإنّ لهم حقا به لو شعرتم لم تلوموني فالعزل والنفيّ حبا بالقيام به أسمى بعينيّ من نصبي وتعييني يا شرّ من منيت هذي البلاد بهم إيذاؤكم فقراء الناس يؤذيني..

وفي نهاية هذا المقال أقول مع د. محمد القضاة وهو يرثي عرار فيقول: يا عرار: الشعراء المجيدون لا يرحلون، والمبدعون الرائعون لا ينتهون، وإن رحلت أجسادهم فهم باقون بشعرهم وإبداعهم، يجتثون من السكون حياة وحرية . وننهل من عبقرياتهم وطموحاتهم الكثير الكثير... والشعراء الكبار لا ينقطعون، بل يستمرون في ذاكرة التاريخ والزمن، ويسطع نورهم مع بزوغ كل شاعر مبدع جديد .. يا عرار: يا أيها المسافر في ماضي الأردن وسهوله وجباله، يا صاحب الوجه الأسمر الشاحب الذي غابت ملامحه، ودفنت قسماته في ثري الأردن، يا من أثقلته الأيام فذبل، ولعبت به الحوادث فتحملها بمآسيها، وشرد في طول اليلاد وعرضها، وعصفت به الهموم، ولج به الخيال الطموح، ستبقي قصائدك تنبش فينا ذاك الماضي الجميل، تذكر الأردن بأهله ومواقفه، بآماله وأحلامه، بيأسه وطموحه، بعلله وأمراضه، لأنك كنت وستبقى قيثارة الأردن المشجيه، وبلبله الغريد.

وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............

1- تحسين التل: الشاعر والسياسي مصطفى وهبي التل "عرار".. مقال منشور بتاريخ 31-08-2019 03:04 PM

2- أمل محي الدين الكردي: شاعر الاردن عرار".. مقال منشور بتاريخ07-08-2019 05:29 PM

3- مصطفى وهبي التل: من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة..

4- المقالات: أوراق عرار السياسية - وثائق مصطفى وهبي التل، (جمعها: محمد كعوش)، د.ن، عمان، 1980.

5- ماهر حسن: «زى النهارده» وفاة مصطفى التل «شاعر الأردن» 24 مايو 1949.. مقال منشور بتاريخ الأحد 24-05-2020 15:21 | كتب: ماهر حسن |

6- محمد القضاة: يا عرار، المجلة الثقافية، الجامعة الأردنية، ع47، 1999.

 

في المثقف اليوم