شهادات ومذكرات

أبو الحسن الجمال: د. محمد بركات البيلي.. مؤرخاً للأندلس

2844 الزهاد والمتصوفةالدكتور محمد بركات البيلي أستاذ التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية في كلية الآداب جامعة القاهرة من الرواد الكبار الذين تخصصوا في تاريخ المغرب والأندلس بفضل تشجيع أساتذته الكبار في هذا المجال من أمثال: الدكتور حسن محمود والدكتور حسين مؤنس، له جهود مثمرة وآخرها موسوعته "معالم تاريخ المغرب والأندلس" الذي ظهرت منه ثلاثة مجلدات عن دار الغرب الإسلامي.. وله جهود أخرى في تاريخ المشرق ومنها تاريخ مصر الإسلامية. ومادة هذا المقال أخذتها من حوار طويل لي مع الدكتور البيلي عرج فيه على مشواره العلمي وتجاذبت معه أطراف الحديث في قضايا شتى وهو أصدق من يتحدث عن نفسه.

ولد محمد بركات البيلي في قرية ميت عساس التابعة لمركز سمنود سنة 1949، وهذه القرية قديمة قدم التاريخ، وورد ذكرها في كتب الجغرافيا وفي كتاب الإدريسي باسم منية عساس وكانت سمنود عاصمة مصر الفرعونية أيام الأسرة 26، وقد أنجبت العديد من الأعلام من أمثال: مانيتون السمنودي الذي صنف الأسرات، وتعلم البيلي في مدارس القرية ثم مدرسة سمنود الثانوية وقد حصل على الشهادة الثانوية سنة 1968، ثم يمم شطره إلى مدينة القاهرة ليلتحق بقسم التاريخ في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وقد حبب إليه التاريخ منذ صباه المبكر، وكذلك الفلسفة، وقد انتابته الحيرة في هذه الفترة للمفاضلة بين التاريخ والفلسفة في السنة الأولى بكلية الآداب، إلا أنه حدثت جفوة بينه وبين الدكتور يحيى هويدي أستاذ الفلسفة، جعلته يزهد في هذا المجال ويكمل في مجال التاريخ وبفضل تشجيع أساتذته له وعلى رأسهم الدكتور حسن أحمد محمود لما وجد لديه استعداد للتفوق في هذا المجال وأنه مشروع مؤرخ جاد، واقتدى أيضاً بأساتذة آخرين من أمثال: الدكتور حسين مؤنس، والدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور. وقد حافظ البيلي على التفوق حتى تخرج سنة 1972، بتقدير جيد ومن مشاهير دفعته: الأستاذ الدكتور أيمن فؤاد سيد أستاذ التاريخ الإسلامي ورئيس الجمعية التاريخية المصرية، والدكتور إلهام ذهني أستاذ التاريخ الحديث في كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، والدكتورة منى حسين مؤنس أستاذ التاريخ الإسلامي في كلية الآداب جامعة القاهرة، والدكتور أحمد زايد، والدكتور سيد فليفل، أستاذ التاريخ الحديث في آداب القاهرة...

وبعد تخرجه التحق البيلي بالقوات المسلحة ونال شرف المشاركة في حرب السادس من أكتوبر سنة 1973، واستمر ثلاثة أعوام. وبعدها، ثم عمل بمدارس التربية والتعليم حتى عام 1982، ثم واصل دراساته العليا حتى حصل على الماجستير في رسالة بعنوان "الحياة الاجتماعية والاقتصادية فى إشبيلية فى عصر بنى عباد" بإشراف الدكتور حسن محمود، ثم حصل على الدكتوراه في رسالة بعنوان "البربر فى الأندلس حتى نهاية عصر الإمارة" بإشراف الدكتور حسن محمود أيضاً، ثم عين مدرساً بكلية الآداب جامعة القاهرة سنة 1982، بعد أن أمضى فترة بالتدريس بمدارس وزارة التربية والتعليم. وتدرج في الوظائف بهيئة التدريس حتى حصل على الأستاذية سنة 1992.

مؤلفاته:

أثرى الدكتور محمد بركات البيلي المكتبة العربية بالعديد من الكتب والأبحاث، التي تنوعت بين تاريخ المغرب والأندلس وهو تخصصه الرفيع، وبين تاريخ المشرق الإسلامي ، ففي تاريخ المغرب والأندلس قدم عدة كتب وبحوث، فضلاً عن رسالتيه للماجستير والدكتوراه اللتين لم تطبعا بعد، بعدها قدم عدة كتب منها "طليطلة فى عصرها الإسلامي"، و"التشيع فى المغرب الإسلامي حتى القرن الخامس الهجري"، و"الزهاد والمراوغة فى المغرب والأندلس حتى نهاية القرن الخامس الهجري".

وقدم دراسات عن المشرق الإسلامي مثل: "الأزمات الاقتصادية فى مصر الإسلامية" وضع فيه منهج علمي لدراسة هذه الأزمات، وقام بدراسة الدعوة العباسية، وقدم كتاب "الوناس فى تاريخ دولة بنى العباس"، و"تاريخ الحضارة الإسلامية"، ومؤلفات دراسية عن مصر الإسلامية وعن الدولة الفاطمية. ودراسات فى نظم الحكم فى الدولة الاسلامية: الوساطة. الحجابة. نشأة السلطنة، و"الدعوة العباسية".

وله بحوث عديدة منها:

1- مدرسة مصر الدينية وأثرها فى الاندلس.

٢- عام الرمادية، صفحة من تاريخ علاقات مصر بالجزيرة العربية.

٣ –الأزمات الاقتصادية في الأندلس.

٤ – الجوائح والأوبئة في المغرب.

٥- الشريف الإدريسي وكتاب أنس المهج.

٦ -الخلفية التاريخية المستشرقين وقدراتهم للتاريخ الإسلامي

٧ – اللطف، صلح النوبة فى صورته الأولى.

٨- التنافس الدولي في القرن الأفريقي حتى القرن الأول الهجري

٩- ابن خلدون مؤسس علم الاقتصاد.

10- بجاية مركز للثقافة الاسلامية.

11- الكارم معناه ونشاته.

١٢- رحلات المغاربة كمصدر للتاريخ الإسلامي.

قضايا وآراء:

1- دراسة المدن في المغرب والأندلس: عمد الدكتور محمد بركات البيلي إلى دراسة بعض المدن الأندلسية مثل إشبيلية في عهد بني عباد وهي رسالته للماجستير ولم تطبع بعد، ثم في كتابه "طليطلة في عصرها الإسلامي (92-477هـ/712-1085م)، وقد كانت طليطلة منذ فتحها المسلمون واحدة من كبريات المدن الأندلسية، وقد اتخذها القوط الغربيون قبل الفتح الإسلامي للأندلس حاضرة سياسية ودينية لاسيما وأن موقعها في وسط الأندلس كان يؤهلها لأن تكون حاضرة نموذجية.. وقد أدرك طارق بن زياد فاتح الأندلس الأهمية الاستراتيجية لمدينة طليطلة، فاتجه مباشرة بعد معركته الظافرة في شذونة، وفتحها ثم جعلها قاعدة لفتح باقي الأصقاع في الأندلس في فترة وجيزة، ثم زهد فيها الولاة بعد مرحلة طارق وموسى واتخذوا قواعد أخرى عواصم للإمارة مثل إشبيلية وقرطبة، ويعيب الدكتور البيلي على هذه السياسة قائلاً: "وكان على الحكم العربي أن يقدر طليطلة حق قدرها ويتخذها حاضرة ليسهل عليه السيطرة على كافة أرجاء شبه جزيرة أيبيريا من جهة ومن جهة أخرى ليتخذها قاعدة انطلاق نحو مزيد من الفتوح في الأرض الكبيرة (أوربا)، لكن الحكم العربي تجاهل مكانة طليطلة وأهميتها الاستراتيجية واتخذ قاعدته في الجنوب في إشبيلية ثم في قرطبة فكان لذلك عواقب وخيمة كان من أبرزها جنوح طليطلة إلى التمرد والعصيان على الحكومة المركزية في قرطبة فقل أن يمر وقت على طليطلة لم ترفع فيه راية الثورة والتمرد مما استنفذ جزء كبيراً من طاقات الحكومة المركزية وطاقات طليطلة معاً"(1).

2- كما تناول الدكتور البيلي في كتبه بعض الفرق والمذاهب في المغرب الإسلامي مثل "التشيع فى المغرب الإسلامي حتى القرن الخامس الهجري"، و"الزهاد والمتصوفة فى المغرب والأندلس حتى نهاية القرن الخامس الهجري". وكتابه عن المتصوفة من الأهمية لأن تركيز الدراسات في هذا المجال انصب بصفة أساسية على التصوف والمتصوفة في المشرق الإسلامي أن شخصية صوفية واحدة، كالحلّاج أو ابن عربي أو ابن الفارض، أُلّفت عنها عشرات الكتب، فليس صعباً أن نميّز بين الأصيل والدخيل والمحقق والشائع، لكننا نجابه صعوبات عدة عندما نود التعرف على التصوف في الأندلس، ذلك أن المراجع الشائعة على كثرتها لا تضعنا على أرض صلبة نستطيع من خلالها سَبْر غور التصوف، فبدايات التصوف في الأندلس لم تتناولها الدراسات المشرقية بنفس القدر الذي تناولت به التصوف العربي، وأضحى من النادر أن نجد في المكتبة المشرقية دراسات تهتم بالتصوف الأندلسي وأعلامه، إلا كتابات نادرة صدرت قبل نهاية القرن الفائت، ومن ذلك نجد كتاب الدكتور محمد بركات البيلي، وأتبعه فيما بعد بدراسة عن المتصوف ابن مسرّة ونزعته المسريّة في الأندلس، ذكر في مقدّمتها مراجعة الدكتور محمود مكّي للدراسة، وأنه بفضله تمكّن أن يخرج هذا الدارسة في صورة مرضية، وعند مطالعتنا لكتاب الدكتور البيلي "الزهاد والمتصوفة" يمكننا أن نعتبره تطويراً لبحث كان قد نشره الدكتور محمود مكّي في مجلة "دعوة الحق" المغربية عام 1962، في عددين متتابعين تحت عنوان: التصوف الأندلسي مبادئه وأصوله، ثم عاد فوسّعه ونشره باللغة الإسبانية عام 1968، وأثبت مكّي في بحثه أصول الحركة الصوفية في الأندلس، أن أصول التصوف ومبادئه لم تكن مضطرة لاستعارة أفكارها من مصادر خارج الإسلام، مؤكّداً على أوجه الشبه المشتركة بين التصوف الأندلسي والمصري، ومركّزاً بصفة خاصة على أثر ذي النون المصري في متصوفة الأندلس.

3- تاريخ المغرب والأندلس: مشروع العمر:

ألف الدكتور محمد بركات البيلي كتاب "ملامح تاريخ المغرب والأندلس"، نشر منه ثلاثة أجزاء في دار الغرب الإسلامي ببيروت، ويعد للنشر الجزء الرابع عن المرابطين وجارى كتابة الجزء الخامس عن الموحدين.

وكتاب "ملامح تاريخ المغرب والأندلس" يعبر عن ارتباط تاريخها فى العصر الإسلامي الوسيط وهو من خمسة أجزاء. أولها عن بلاد المغرب منذ الفتح الإسلامي حتى عصر بنى زيري مع تقديم مناسب عن جغرافية المغرب الطبيعية والبشرية ونبذة موجزة عن تاريخه وصولا إلى الفتح الإسلامي، وثانيها عن الأندلس من الفتح حتى نهاية عصر الامارة مع مقدمة جغرافية وتاريخية موجزة وصولا إلى الفتح الإسلامي، وثالثها عن الأندلس فى عصارة الخلافة والطوائف. ورابعها عن المغرب والأندلس فى عصر المرابطي وخامسها عن المغرب والاندلس فى عصر الموحدين.

والمنهج العلمي التاريخي هو المتبع فى الدراسة يجمع بين الأصالة الملتزمة بتوثيق وتدقيق المعلومات من مظانها الاصلية وبين المعاصرة التي لا تتوقع عن النقد والتقييم وإبداء الرأي دون تعسف ولا شرط بل رأى يستند الى فهم ما فى المصادر لغويا والربط بين ما فيها تاريخيا حتى لا يكون الرأي تعسفيا ولا خياليا.. لهذا فالكتاب موثق توثيق دقيقا بل ومبالغ فيه كل لا يكون من ضرب الخيال.

 

بقلم: أبو الحسن الجمال

.................

(1) محمد بركات البيلي "طليطلة في عصرها الإسلامي"، القاهرة 1993،  ص3

 

 

في المثقف اليوم