شهادات ومذكرات

علي ثويني: بغداد الحاضرة القاسمية

علي ثوينيكثيرا ما تتهم ثورة 14 تموز 1958 و الزعيم عبد الكريم قاسم بأنهما كانا السبب في (هجرة سكان الريف الى المدينة) وما تبعها من ويلات تأججت اليوم حينما شاع حكم الرعاع وقفزت الطبقات المسحوقة لتأخر حيفها من مجتمع همشها وأبتذلها. ومكثت شبهة "إستقدام الشراگوه" لبغداد، يرددها الكثير ببغاويا بقصد يهدف التضليل او عن ينم عن جهل بالأحداث، ولاسيما أن عملية تمويه وتشويه حصلت بما يتعلق بما حدث خلال فترة الأربع سنوات والنصف التي حكمها عبدالكريم قاسم، وذلك من أكثر من طرف، متكون من الرعيل الملكي والإقطاع القديم وشيوخ العشائر، وكهنة الدين (سنة وشيعة) من جهة، والقوميين والبعثيين والإسلامويين وحتى الشيوعيين من جهة أخرى. أما الخبر اليقين فنجده مجسد على الأرض ولايحتاج إلى شهادة زور.

حري ننقل سطور من مؤلف الباحث الإنكليزي (أوريل دان)، وهو يوضح الحالة المعيشية البائسة للعراقيين الفقراء في العهد الملكي (الزاهر كما يدعي البعض)!، والهجرة المرعبة من الريف هرباً من جور الاقطاع وظلم الشيوخ و"السراكيل"(1) نحو المدينة للنجاة بحياتهم و بحثا عن فرصة للعيش الكريم والتي أستكثرها البعض عليهم !. لك ان تتخيل ان 200 الف عراقي يسكن في (الصرائف)(2) حول بغداد في العهد الملكي ضمن شعب تعداده يومها حوالي خمس ملايين، يعيشون مع الحيوانات ويشربون من المياه الاسنة ويموت أطفالهم جوعا ويتحسرون على الأكل واللباس،"فالدشداشة" الساترة تمكث على أجسادهم عقود متوالية. وحين كان يمر نوري سعيد (صاحب الـ14 وزارة خلال 37 عام ملكي) من قربهم كان يضع منديله على أنفه تقززاً، في حين كان الزعيم عبدالكريم يقضي ليله عندهم حتى الصباح يستمع لهم وينظر في شكاويهم!.ولانقاذ هؤلاء الفقراء وغيرهم جاءت ثورة 14 تموز، ووقد عز على الزعيم عبد الكريم قاسم ان يشاهد عراقياً يسكن مع الحيوانات في الصرائف ويشرب من المياة الاسنة!!هل كان جرمه انه وفر لهم مساكن لعيش كريم؟، وهم بشر أولا ومواطنون عراقيون وما الضير حينما يسكنون أي أرض من وطنهم ال>ي يحكمه الأغراب حتى اليوم.هل كان عليه ان يكون مجرماً ويجرف أو يحرق بيوتهم المتهالكة لكي يعودوا الى الريف!؟ (3).

يأخذنا السياق إلى مشروع توسعة بغداد الذي أحدثه الزعيم عبدالكريم قاسم،و حسبي أنه المؤسس الثاني لبغداد بعد الخليفة أبا جعفر المنصور التي أسسها عام 762م على أثر أكدي مكث بعضه في شاطئ (خضر الياس) وقبل أنها لقرية نصرانية في حينها. بدأ أبا جعفر بالمدينة المدورة في الكرخ،وهيئتها كاملة الدوران،قطرها ثلاثة كيلومترات، ولم يبقى من أثرها شئ اليوم وهي تقع فوق الكرخ والشالجية والعطيفية . ثم أنتقلت القصور إلى الرصافة ثم عادت وتمددت في الكرخ حتى وصلت غربا حي المنصور الحالي، وأتسعت لتسكن مليوني إنسان حوالي منتصف القرن التاسع الميلادي.وكان الأمر ثورة في تطور المدن ضمن التأريخ البشري، الذي سبق لندن بالف عام، رغم أن بناء المدن كان ريادة عراقية منذ 5600 عام خلت، وتجسدت بمدينة أريدو بسومر جنوب العراق(قرب السماوة)، حينما تعدى التجمع السكاني عدد الخمسين الف ساكن بحسب معيارية (لويس ممفورد) الوارد في كتابه (المدينة). لكن بغداد أضمحلت بعد سقوط بغداد عام 1258م على يد التتار، ثم تقهقرت بكل مجال خلال القرون التركية حتى العثمانية، لتصبح نابذة للعمران والناس، حتى كنّيت (سيبيريا العثمانية) حينما أمست مبعد للولاة غير المرغوب بهم عند سلاطين البسفور.

تقلصت بغداد حتى أمست مساحتها حوالي ثلاثة كيلومترات ونيف تمتد في الرصافة بين الباب الشرقي (باب كلواضه) وباب المعظم (باب السلطان)، وفي الكرخ مكثت شريط ضحل متهادي مع شاطئ دجله الغربي لقرية يسكنها الأعراب القادمين من جهات الغرب،والمتواصله مع جهات الفرات وبابل، وقد أحتفظت بتسمية الكرخ (4).وحدث أن تقلص سكانها حتى وطأ عددهم إحدى عشر الف ساكن بعيد مادعي فيضان وطاعون (داود باشا) عام 1831. والذي الم بها وقتل أهلها حتى أن علي رضا اللاز الوالي التركي الجديد القادم بعد حكم المماليك (1749-1831)، كان يبحث عن نصاب مدينة وسكان يحكمهم، فلم يفلح (5).

واستمر الحال إبان تأسيس الدولة العراقية 1921، ولم تعبأ الدولة الملكية إلا عام 1954 حينما أوكل (مجلس الإعمار) مهمة وضع مخطط أساس لتوسعة بغداد إلى مكتب المخطط الحضري اليوناني/الأمريكي قسطنطين دوكسياديس(1913-1975)، لتكون ثالث محاولة لتوسعة بغداد، بعد التوسعة الإعتباطية إنطلاقا من الباب المعظم نحو الوزيرية والأعظمية، ثم التوسعة التي قام بها المخطط الحضري المصري سيد كريم عام 1948 واسس حي (بغداد الجديدة) وتخومها، ثم جاء اخيرا مخطط (دوكسيادس) الذي مكث في مخازن مجلس الإعمار كونه كان بسبب ضخامته، أكبر من طاقة المجلس التنفيذية، كونه مجلس تشريعي على الأكثر .

ومن الشهادات الموثقة كتب المرحوم محمد حديد الوزير إبان تلك السنين: زارت بغداد السيدة (بربرا كاسل) عضو البرلمان البريطاني، فاتصلت بي وارادت زيارتي فدعوتها لتناول الشاي في داري (في البتاوين)، وجرى الحديث عن الاوضاع العامة في العراق.. ولأجل البرهان لها على سوء الحالة المعيشية لاكثرية الشعب العراقي اخذتها بسيارتي الى الحي الذي كان يدعى (حي العاصمة) وهو حي واسع يقع خلف السدة، وبمحاذاة ما يسمى مستودع الكيلاني للنفط القريب من جهة ساحة الطيران،شرق بغداد، ومن جهة اخرى لمعامل الطابوق التي كانت مقامة هناك، وكان هذا الحي الواسع مؤلفا من "الصرائف" اي الاكواح المبنية من سعف النخيل، فشاهدت المناظر المؤلمة للاكواخ المكدسة بعضها قرب بعض بصورة عشوائية ! ومحرومة من وسائل الحياة الاساسية وهي اشبه بزرائب المواشي في البلاد المتخلفة، وكان هذا الحي يخص اقامه الفلاحين الوافدين من الريف الى بغداد هربا من سوء وضعهم وطلبا للعمل، وكانوا يعتبرون وضعهم المعيشي مع شدة رادءته افضل من وضعهم المعيشي في الريف !. وكان لهذا المشهد وقع شديد في نفس السيد (كاسل) واستنكرت الحالة السائدة في بغداد التي تعد متقدمة على مناطق البلاد الاخرى ! "(6)

ولم يخلوا الأمر من الفساد الإداري إبان السلطة الملكية، والأسليب الملتوية للإستحواذ على أراضي شاسعة تابعة للدولة، من خلال التحايل والعلاقات الملتوية. تحت عنوان (حي الوزيرية) يروي الوزير والنائب في العهد الملكي عبد الكريم الازري وفي مذكراته ما يلي:" كان الملك فيصل الأول (قد وضع يده)!! على اراضي تقع الى الشرق من البلاط الملكي السابق على اعتبار انها اراضي أميرية تعود للدولة وأسس فيها مزرعة واسعة ونصب من أجل اروائها المكائن والمضخات على ساحل نهر دجلة بالقرب من البلاط الملكي وشق جدولا لنقل المياه اليها، كما اسس فيها مشروعا لإنتاج الحليب وجلب اليه انواعا من الابقار الأجنبية المعروفة بكثرة انتاجها للحليب!

و كتب الوزير الأزري: ذهبنا يوما لزيارة المنطقة برفقة ناظر الخزينة الخاصة السيد شاكر حميد واعجبت بمنظرها !.وبعد وفاة الملك فيصل الأول قررت لجنة تسوية حقوق الاراضي منها بإنسابها الى ورثة الملك فيصل بعد ان ردت ادعاءات المدعين بمختلف الحقوق فيها !! وكانت اللجنة قد تأثرت بنفوذ البلاط الملكي مثلها مثل بقية اللجان في انحاء العراقي التي تأثرت باتخاذ قراراتها بنفوذ الاشخاص المتنفذين! "(7)

ولغايه نهايه العهد الملكي تم بناء ١٣٣ دار غير موزعه بمنطقه الوشاش، وذلك بحسب ماصرح به مهندس الأعمار بمجلس الأعمار بتصريح رسمي بجريده بالعهد الملكي .اما الباقي وهي عددها ١٢٠٠٠ دار فمن المؤمل وضع خطه بناء لها بالمستقبل.اما "الصرايف" المنتشرة ببغداد والبصره وغيرها فلا يوجد للدولة خطه حل لها. وكان في حينها مليون عراقي أي خمس السكان، يعيشون البؤس ويسكنون الصرائف بعد النزوح من الريف هربا من ظلم الاقطاع وجوره، والعائلة المالكة وحدها تمتلك 177.000 الف دونم!.

كتبت الدكتورة غصون مزهر المحمداوي: حاولت حكومة ثورة 14 تموز 1958 أن تسعى وبأقصى سرعة ممكنة لغرض أحداث النهوض الاقتصادي والاجتماعي في المجتمع العراقي من خلال تحسين الاقتصاد وتوفير فرص العمل وسن قوانين الضمان الاجتماعي، وإنشاء مجلس الشؤون الاجتماعية، وتشريع قانون الإصلاح الزراعي الذي احدث هوة قوية في المجتمع لانه خطوة تقدمية كان يسعى إليها الفلاحون منذ فترة طويلة ليتمكنوا من امتلاك أرض خاصة بهم تعود عليهم بالنفع والفائدة

من هنا بدأت الحاجة تظهر لحل أزمة كانت تؤثر في حياة المواطنين وتدفعهم إلى العيش في وضع مزري إلا وهي أزمة السكن حيث كانت هناك أزمة حقيقية تظهر أثارها واضحة في نشوء الأكواخ والصرائف كنطاق حول المدن وبالأخص حول مدينة بغداد كما ذكرنا .لذا كانت هناك حاجة ماسة إلى مشاريع سريعة ومثمرة على المدى الطويل لحل هذه الأزمة لان تخلف قطاع التشييد والبناء عن متطلبات عملية التنمية القومية السريعة يؤدي إلى عدم نجاح تنفيذ خطط وعمليات التنمية، فمع ازدياد حصيلة الدولة من الموارد النفطية والتي أدت إلى زيادة الدخل القومي ومن ثم ارتفاع مستوى المعيشة بوجه عام ودور الدولة في تسليف المواطنين مبالغ كافية لتشييد الدور السكنية كل ذلك أدى إلى توسع كبير في حقل البناء والتشييد، ولم يقتصر دور الدولة على عملية التسليف بل تمت عملية توزيع أراض كثيرة من الأراضي المملوكة للدولة (أميرية) في بغداد والمحافظات على الموظفين والعسكريين والعمال مقابل أسعار زهيدة لا تزيد عن (100) فلس للمتر المربع الواحد، كما قامت الدولة بمشاريع سكنية تملك للموظفين المدنيين والعسكريين على أقساط سنوية وشهرية لفترة طويلة تزيد عن خمسة عشر عاماً مثل مشروع إسكان غربي بغداد الذي تضمن إنشاء (1154 دار) مخصصه لأسكان صغار منتسبي الجيش من موظفين ونواب ضباط وكتاب على اختلاف درجاتهم.

وهكذا أخرج الزعيم عبدالكريم المخططات من (الدروج) وبدأ يضع الخطط لتنفيذها، ولاسيما شرقي العاصمة ومنها حي الثورة الذي أشترت الحكومة أرضه من (حكمت سليمان) وهو أحد رؤساء الوزراء في الحقبة الملكية وجده سليمان باشا أبو ليليى المملوك الذي حكم بغداد ردجا،وكان قد أشتراه الولاة العثمانيين من سوق نخاسة تفليس بجورجيا، وتسنى لحفيده أن يمتلك كل شرق بغداد!. وقد أعتنى (دوكسياديس) بتخطيط حي الثورة (الصدر اليوم) ليكون مدينة نموذجية، تمتد من صلب بغداد نحو الشرق حتى السدة المقامة التي منعت الطوفات عن بغداد، وتتمحور في ثلاث طرق رئيسية شرق غرب هي (الجوادر والفلاح والداخل)، وثمة شوارع عرضية شمال جنوب تقطعها على المنهج الذي ألفه دوكسياديس فيما دعي (رقعة الشطرنج grid pattern)، وقسمت المساحات السكنية إلى قطع أراضي مستطيلة بواجهات 7م، مساحة الأرض 144 متر مربع، مع ترك مساحات مخصصة للترفيه وسط التجمعات، ومساحات لمشافي ومدارس وأسواق وإدارات وملاعب رياضيه وحدائق..الخ. وهذا النوع من المساكن المتلاصقة بواجهة صغيرة و"نزال" عميق، كانت قد طبقت في بريطانيا منذ قرنين.

كما تم تنفيذ مشروع شرقي بغداد لاسكان الضباط بكلفة (ـ , 664 , 1) دينار مع تبليط الطرق ومد المجاري اللازمة وإنشاء المرافق والمباني العامة في المشروع (1)، وتضمنت جداول الخطة الاقتصادية المؤقتة تخصيص مبلغ عشرين مليون دينار تصرف خلال ثلاث سنوات لإنشاء (2500) دار لأسكان منتسبي جمعية بناء المساكن التعاونية المحدودة من العسكريين والموظفين المدنيين من منتسبي الجيش العراقي في مدينة الضباط شرقي بغداد ومدينة القاسم غربي بغداد، ووزعت هذه الدور على وجبات للمستفيدين منها.

وفي سبيل توفير السكن المناسب لعمال المصانع الحكومية قامت الدولة بإنشاء (800 دار) لأسكان عمال معمل السكر في الموصل وخصص له مبلغ (000 , 500) ألف دينار لإنشاء هذه الدور على أنواع وتصاميم ومساحات مختلفة مع مرافقها العامة. كما تم توفير السكن المناسب لصغار الموظفين في اقضيه ونواحي لواء ديإلى من خلال تشييد إحدى عشرة دار في مركز كل قضاء ومركز كل ناحية. وتم إنشاء مشروع إسكان أربيل من خلال بناء (152) دار على ستة أنواع من التصاميم تتراوح مساحتها بين (108 و 135 م2) على أن تشتمل على غرفتين أو ثلاثة غرف ومد الطرق داخل المشروع، وفي البصرة تم إنشاء مشروع مماثل مع جميع المباني العامة الضرورية كالمدارس الابتدائية . وملجاء للعب الأطفال وقاعة اجتماع وسينما، كما يتضمن تشييد روضتي أطفال وثلاثة أسواق.

وكانت الدولة تسعى جاهدة أن تكون هذه المشاريع السكنية تحتوي على كافة متطلبات الحياة المدنية المهمة من خدمات اجتماعية وثقافية وصحية، لكي تساهم هذه المجمعات السكنية في حل أزمة السكن . وفيما يخص العاصمة بغداد فقد حاولت الحكومة بطريقة ناجحة حل مشكلة سكان الصرائف، حيث تم نقلهم إلى شرقي بغداد،وتم تخصيص مبلغ (ـ , 900) ألف دينار لإنشاء (911) دار ذات غرفتين مع مرافقهما الضرورية بمساحة (108 م2) لكل دار مع مرافق المشروع العامة كتعبيد الطرق ومد مجاري مياه الأمطار والمياه القذرة، وتم توزيع باقي الأراضي على العوائل التي بلغ عددها (120) ألف عائلة، ووضعت الخطط لبناء المرافق، كما مدت شبكة المواصلات إلى هذه المدينة.

أما مشروع إنشاء أو فتح قناة الجيش، فقد كان عملاً رائداً في تلك الفترة، حيث أن هذه القناة التي توصل نهر دجلة بنهر ديالى خلف السدة الشرقية كان الهدف منها حماية بغداد من مياه الفضان الوارد من الشمال، أما الجانب الجمالي والحضري فهو يشعر المواطنون الساكنون في المناطق الجديدة بأنهم ليسوا بعيدين عن النهر ولترغيبهم في تشييد تلك المناطق بالسرعة الممكنة، كما إن الحدائق التي بنيت على جانبيها لغرض الترفيه، وتبداء هذه القناة من موقع يسمى (كولداري) على نهر دجلة وتتجه إلى الجنوب الغربي حتى نهر ديإلى وتمر في طريقها بمنطقة الصليخ وقرب المجموعات السكنية للمصرف العقاري، ثم مدينة جميلة بوحيرد فشمالي مدينة الضباط فبغداد الجديدة فمدينة الأمين ثم الزعفرانية والرستمية حتى نهر ديإلى، ويبلغ طول هذه القناة ثلاثة وعشرون كيلو متراً، كما تم تشييد عدد من الجسور على هذه القناة لأنها تجتاز منطقة واسعة خلف السدة الشرقية وتجتاز عدداً من الطرق الرئيسة التي تتفرع من بغداد لتربطها بمشاريع الإسكان والضواحي المنتشرة في المنطقة ومن ثم الأجزاء الشمالية لتسهيل المرور عليها. وسميت (قناة الجيش) كون الجيش من أنجزها لكي لاتكلف الدولة كثيرا، وأنجزت بوقت قياسي.

إن المشاريع الرائدة التي قامت بها الحكومة لغرض رفع مستوى الريف ومحاولة للقضاء على الهجرة من الريف إلى المدينة تجسد في مشروع القرى النموذجية مثلما في اللطيفية حيث وافق مجلس الوزراء في 21 شباط 1959 على تخصيص مبلغ 000 ,150 , 1 ألف دينار لإنشاء قرية عصرية نموذجية زراعية قرب بغداد تتوفر فيها أسباب الحياة الريفية المتحضرة لاسكان قسم من الفلاحين والعمال وفي 12 تموز 1959 أنجز بناء القرية وافتتحها الزعيم عبدالكريم في منطقة مشروع اللطيفية التي تم توزيع أراضيها على الفلاحين من مديرية الإصلاح الزراعي، وكانت تشمل على (100) دار ريفية عصرية بنيت على صفوف متوازية تخترقها شوارع معبدة و ألحقت بها المؤسسات والمرافق والحدائق العامة، وزودت بالماء والكهرباء، كما أنشئت بنايات للمدارس والمركز الاجتماعي ومستوصف ودائرة بريد وسوق عام وبناية لمجلس إدارة القريـة ومسجد وحمـام شعبي، وقـد سلمت للفلاحين في 9 تشرين الثاني 1959).وكانت القرية حلاً ارتأته الدولة لإيقاف مشكلة الهجرة من الريف حيث أن الفلاح إذا امتلك ارضا او مسكنا وقدمت له المساعدات في استثمار ارضه فأنه لايفكر في ترك الأرض والهجرة للمدينة. كل تلك المشاريع السكنية الكبيرة، لكن عبد الكريم قاسم مكث يقيم في جناح متواضع من أجنحة وزارة الدفاع ولم يرضى بالانتقال الى البلاط الفخم الذي بنته العائلة المالكة، الذي أمسى تباعا مادعاه البعثيون القصر الجمهوري.

كان عبدالكريم يسهر الليالي عاملا بنهم، يجمع مجلس وزرائه ويقابل زواره الى قبيل الفجر، فاذا حل يوم الجمعة مضى الى الدار الصغيرة التي كان يقيم فيها منذ كان ضابطا مغمورا ليقضي عطلة نهاية الاسبوع . وكان اصحاب الحاجات يقفون له في الطريق، فيقف احتراما لهم، ويستمع الى مظالمهم وحاجاتهم، ويتسلم عرائضهم ويأمر مرافقيه بإنجاز مطالبهم، بل ويتبرع لبعضهم من ماله الخاص. لم يتزوج عبد الكريم قاسم ولم يترك مالا ولا متاعا ! وترك الدنيا ببزته الخاكية التي نزف دمه عليها بعد ان اعدمه البعثيون والناصريون .(8)

كتب عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي بحق الزعيم عبد الكريم قاسم سطور تكشف واقع الحال يومها بدقته الرصينة: "يجدر بي أن أشير الى موقف الزعيم عبد الكريم قاسم في هذه المرحله الاجتماعيه الهامة من تاريخنا. فقد أعلن الرجل غير مرة أنه فوق الميول والاتجاهات, واعتقد انه صادق فيما قال. مع ذلك لا أستطيع أن أعد موقفه هذا خاليا من الدقة والحراجة.أنه ليس قائد حزب وانما هو قائد بلد تتصارع فيه الأحزاب, وهو معرض للحيرة أكثر من تعرض أي قائد حزبي لها. وكلما تأملت في حراجة موقفه هذا شعرت بالثقل الهائل الموضوع على عاتقه, ساعده الله.

إنه لا يستطيع أن يتجاهل أهمية الحماس الشعبي في تأيد الثورة التي تكاثر عليها الأعداء ولا يستطيع أن يجاري هذا الحماس إلى الدرجة التي اندفع بها المتعصبون المتسرعون. بين يديه من جهة بلد يحتاج إلى استقرار, وبين يديه من الجهة الأخرى ثورة تحتاج إلى تأيد ولابد للرجل من أن ينظر في هذه الجهة تارة أخرى.إني أشعر بالعجز في سياسة صف واحد من الطلاب حين يشتد الجدل بينهم, فكيف بالرجل وهو يقود ثورة كثورة 14 تموز وفي مجتمع كالمجتمع العراقي. ومهما يكن الحال فإننا يجب أن نحني رؤوسنا اعترافا بما وهب الرجل من مهارة في قيادة سفينة البلد بين هاتك الأمواج المتلاطمة" (9)

 

د.علي ثويني

.....................

(1) السركال هو نائب شيخ العشيرة أو الإقطاعي والمتنف> محله, و هو المشرف على العاملين في زراعة الحقل الذي يمتلكة شيخ العشيرة، أي صلة الوصل بين الفلاح والشيخ، لذا تجبر وتكبر وظلم.

(2) مفردها صريفة وهي مفردة آرامية، وتعني معماريا العشة المبنية من هيكل قصبي ومغطاة بالحصر العراقية (البارية) وهي طريقة بناء قديمة غير مكلفة، مكثت من أزمنة سحيقة حتى اليوم.

(3) اوريل دان:العراق في عهد قاسم - ترجمة جرجيس فتح الله - ص 18

(4) الكرخ التي يلفظها العراقيون (الجرخ) وهي نفسها مفردة circle في اللغات الغربية وتعني العجلة والبرمق المدور أو مجازا المستفقطب حتى سميت بها الكنيسة باللغات الجيرمانية(جيرج).وهي مفردة تعود للأكدية أو أقدم من ذلك.

(5) كان علي اللاز شيعي علوي تركي، ولجأ يتوسل العشائر العراقية القريبة من بغداد أن يقدموا ويسكنوا بيوت تركها أهلها، لكن دون طائل. كثير من التفاصيل السردية تجدوها في لمحات الوردي الإجتماعية، ومنها ماهو طريف حدث لجد الوردي.

(6) محمد حديد - مذكراتي ص 314

(7) من مذكرات عبد الكريم الازري وزير المالية في العهد الملكي ص96، علما ان المنطقة المذكورة تقع حاليا ما بين ساحة عنتر في الاعظمية حتى السفارة التركية في باب المعظم! وللقارئ الكريم ان يتخيل حجم ومساحة تلك الاراضي!

(8) مير بصري في كتابه (اعلام السياسة في العراق الحديث)

(9) د.علي الوردي -من كتابه الأحلام بين العلم والعقيدة 1959

 

 

في المثقف اليوم