شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: أبو الوفا التفتازاني.. شيخ مشايخ الروحية الإسلامية (1)

محمود محمد علييهدف هذا المقال إلى إلقاء الضوء على فكر شيخنا وأستاذنا الأستاذ الدكتور أبو الوفا التفتازاني – أستاذ الفلسفة الإسلامية بكلية الآداب – جامعة القاهرة، وشيخ مشايخ الطريق الصوفية في مصر، وهو أحد علماء التصوف الإسلامي في مصر والعالم العربي الذين حددوا مجاله، ورتبوا موضوعاته، وكشفوا النقاب عن شخصياته، وصاغوا الأطر النظرية له، وأبان عن تاريخه وأبعاده النظرية والعملية، وعرف التجربة الصوفية وخصائصها، وأوضح المنهج  العلمي لدراستها، وظل أكثر من خمسة وأربعين عاماً أهم باحثى التصوف الإسلامي في مصر منذ وفاة الأستاذ الدكتور أبو العلا عفيفي في أكتوبر 1966م، والأستاذ الدكتور محمد مصطفي حلمي في فبراير عام 1969م (1).

كما يعد شيخنا المفدي رائداً من رواد القرن العشرين في مصرنا المعاصرة، وهو شخصية متفردة بين أبناء جيله من أساتذة الفلسفة المتخصصين في الحياة الروحية في الإسلام، فقد كان من أساتذة الفلسفة القلائل في تاريخ الفكر العربي العالمي، الذي عاش حياته بحق مفكراً صوفياً، شيخاً جليلاً رغم عقلانيته، نائباً سابقاً لرئيس جامعة القاهرة، أستاذا جامعيا متميزا، زاهدا رغم ثرائه، إنه بحق الصوفي المستنير .. مستنيرا في دراسته .. مستنيراً في تعليمه وتعلمه .. مستنيراً في تدريسه  .. مستنيراً في ربطه التصوف دوماً بالأخلاق .. مستنيراً في ربط التصوف بعلم النفس .. مستنيراً في ربط التصوف بتربية وسلوك مجتمعه .. نقده الدائم للظواهر السلبية في المجتمع ومنها المغالون من المتصوفة، وأصحاب الطرق، كما يحتل الدكتور التفتازاني مكانة متميزة بين الرعيل الثالث من أساتذة الفلسفة بالجامعة المصرية، ففضلا عن تتلمذه علي يد كل من الأمام الأكبر الشيخ مصطفي عبد الرازق، شيخ الجامع الأزهر، والدكتور محمد مصطفي حلمي، والدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، استطاع الدكتور التفتازاني أن يترك بصمة مميزة في مسار الدرس الفلسفي المصري بصفة عامة، وفي سياق التأريخ للتصوف الإسلامي بوجه خاص (2).

علاوة علي أنه ذاع صيته في الأوساط الفكرية بكونه واحداً من أبرز المشتغلين بالدراسات الصوفية، ذلك أن دراساته العليا في مجالي الماجستير والدكتوراه حول موضوع التصوف من خلال تناوله بالدراسة والبحث شخصيتين لهما في مجال السلوك الصوفي والمعرفة الصوفية مكانة بارزة ومرموقة، وهما ابن عطاء الله السكندري صاحب كتاب الحكم، وعبد الحق ابن سبعين صاحب كتاب بد العارف .

ومع أن الدكتور التفتازانى كان متخصّصاً فى دراسة الفلسفة الصوفية، العميقة، ولغة «ابن سبعين» الموغلة في الرمزية والاستغلاق، إلا أنه كان حريصاً على تبسيط المفاهيم الصوفية بأبسط العبارات، وكثير الاستشهاد بكلمات ابن عطاء الله السكندري (حكيم الصوفية، صاحب كتاب: الحكم العطائية) وهو الذى نصحني بعبارته الذهبية التي التزمتُ بها فى سنوات الابتداء: ادفنْ وجودك فى أرض الخمول، فما نبت مما لم يصلح دفنُه، لا يتمُّ نتاجه؛ ومعنى عبارة ابن عطاء الله، للقارئ غير المتخصّص، هو أن المبتدئ يكون كالبذرة ولذلك يتعين عليه التوارى بقدر ما يستطيع، ولا يسعى لجذب الأنظار إليه أو استجلاب الشهرة، لأنه يحتاج الكمون اللازم للنضج. والبذرةُ التي لا تُدفن جيداً، قد تورق مؤقتاً لكن ثمارها لن تأتى، لأن نبتها لن يكتمل.. وهذه واحدة من قواعد التربية الصوفية، وهى فى الغالب تكون لأهل البدايات (المريدين) أما الدكتور التفتازاني فقد التزم بها حتى وهو شيخ مشايخ الصوفية فكان لا يسعى للشهرة والصخب، وقليلاً ماكان يُلبى دعوات الظهور التلفزيوني. (3).

لقد قدم الأستاذ الدكتور التفتازاني لأمتنا العربية الإسلامية العديد من الكتب والدراسات والتي تدلنا علي عمق ثقافته الروحية الإسلامية العديد من الكتب والدراسات والتي تدلنا علي عمق ثقافته الروحية الإسلامية وغزارة اطلاعه، لقد نجح في الربط بين الماضي والحاضر، وبقدر ما كان مهتماً بالدراسات التراثية، كان في نفس الوقت مركزاً اهتماماته الفكرية ومشاغله الثقافية، علي تشخيص أمراض العصر، وتقديم العلاج لهذا المرض أو ذاك، لهذه المشكلة، أو تلك من المشكلات الفكرية والاجتماعية وما أكثرها (4) .

كان الدكتور التفتازاني كما قال أستاذنا الدكتور عاطف العراقي أستاذاً بكل ما تحمله كلمة الأستاذية من معان نبيلة وقيم خالدة، وخاصة في وقت كثر فيه أشباه الأساتذة المثقفين، لم يتردد في الدفاع عن القيم الإسلامية الكبرى، كتب عن الإسلام، ديننا الحنيف مئات الصفحات، كان حريضا علي إبراز الدور الرائد والحيوي والذي قام به مفكرو الإسلام في الماضي والحاضر، أدرك بثاقب نظره وذكائه الحاد العديد من الدروس التي يمكن استخلاصها من مبادئ الدين الإسلامي،ومن أفكار مفكري الإسلام والذين آمنوا بربهم  وآمنوا بوطنهم وكانوا كالشعلة أو المنارة التي تضئ لنا الطريق في كل زمان وكل مكان (6).

والدكتور التفتازاني هو الفيلسوف المصري الإسلامي والمتصوف الكبير ؛ الوحيد الذي جمع بين أستاذية الفلسفة الإسلامية والتصوف (في جامعة القاهرة) ورئاسة الجمعية الفلسفية والمشيخة الكبري للطرق الصوفية؛ والداعية إلي توضيح وتأكيد العلاقة بين التصوفي والتفلسف الأخلاقي أو الفلسفة الأخلاقية باعتبار أن التصوف سلوك اخلاقي يسلكه الفرد المؤمن إزاء نفسه وإزاء مجتمعه تقربا إلي الله وسعيا إلي تحقيق مشيئة الله في أن يكون الإنسان خليفة لله في الأرض ؛ وهو مؤسس التيار الذي تنامي بفضل ريادته في الوسط الفلسفي الأكاديمي والثقافي المصري ثم العربي لتأكيد العلاقة الثلاثية في الفكر الإسلامي التراثي والحديث بين الفلسفة والإيمان والفكر العلمي العقلاني، ولتأكيد العلاقة الثلاثية بين انشغال كل من الفقه الإسلامي والفكر الفلسفي الإسلامي بكل من أولا: قيام المجتمع والدولة علي أساس من " العدل" و" التوحيد" في الفقه (فأقام فكره في هذه الزاوية علي فقه المعتزلة من أهل السنة وبوجه خاص عند كل من القاضي عبد  الجبار الهمذاني الذي حقق له الجزء الرابع من كتابه الرئيسي: المغني في أبواب التوحيد والعدل "ثم عند واصل بن عطاء أحد أئمة الفقه الإعتزالي وأوائلهم الذي اختصه بدراسة مشهورة) وثانيا: قيام سلوك الفرد علي الإخلاص في كل من التعبد والعمل لوجه الله ولصالح المة (مقيما فكره في هذه الزاوية علي ما أخذه من أئمة التصوف من أهل السنة، وبوجه خاص عند كل من: ابن عطاء الله السكندري وحكمه، وابن سبعين وابن عباد الرافدي الأندلسي الذي كشف عن عمق تأثيره في الفلسفة المسيحية الإسبانية أواخر العصور الوسطي). وثالثا: قيام مصالح الأمة أفرادا أو جماعة علي المعرفة المنظمة والمتجددة التي تسمح بكل من استخلاص الأحكام المستقيمة مع السنن الأصلية المنصوص عليها في الكتاب والسنة والتي تراعي في الوقت نفسه تغير الأحوال وطرائق وممارسة الحياة وضرورة حماية وجود الأمة وحماية خصائصها ( من ذلك تأكيده لجواز إنتاج مشاهدة كل أنواع الفنون: الموسيقي والغناء والتمثيل والرسم أو التصوير والنحت).(7).

ولد محمد أبو الوفا التفتازاني في قرية " كفر الغنيمي" بريف محافظة الشرقية لأسرة من المزارعين، ولكن والده كان شيخاً لطريقة السادة الغنيمية من الطرق الصوفية أتباع الطريقة الخلواتية في مصر فورث مشيخة الطريقة عن والده . ودرس علي والده في البداية وأتم تعليمه في المدارس الحكومية حتي إلتحق بقسم الفلسفة بكلية الآداب بجمعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة الآن) حتي تخرج منها عام 1950 وعمل مدرسا للفلسفة بمدارس الحكومة لمدة عامين حتي بدأ بكتب رسالته للماجستير عن ابن عطاء الله السكندري المتصوف المصري الكبير فعين معيدا بنفس قسمه ونال الدرجة من جامعته عام 1955 فكتب رسالته للدكتوراه عن  ابن سبعين وفلسفته الصوفية ونالها عام 1961 فأصبح وكيلا لكليته (1978) ثم عميداً لكلية التربية بجامعة القاهرة (فرع الفيوم)  ثم نائباً لمدير الجامعة لفرعي الفيوم وبني يوسف، ونائباً لرئيس الجامعة للدراسات العليا عام 1984؛ وفي أثناء ذلك اختير عضوا بالمجلس الصوفي الأعلي ثم شيخاُ لمشايخ الطرق الصوفية في مصر ورئيسا للمجلس الصوفي الأعلي ورئيسا لمجلس إدارة مجلة التصوف الإسلامي التي يصدرها المجلس الأعلي للتصوف (8).

غير أن فكر أبو الوفا التفتازاني وسلوكه الصوفيين ينعكسان في حياته وأعماله. فعلاوة علي التدريس والإشراف علي عشرات من رسائل تلامذته الأكاديميين في الجامعة ؛ فقد تميز بغزارة الإنتاج  العلمي وأصالته وطرقه لأبواب لم تطرق  قبله في دراسة تراث الفلسفة والتصوف الإسلاميين، وفتحه السبل لتطوير هذا التراث وإعادة ربطه بالعصر الحديث، ومن أكثر بحوثه ( غير ما أشرنا إليه في رسالتيه للماجستير ثم الدكتوراه ) كتابه:  دراسات في الفلسفة الإسلامية عام 1958 الذي تابع فيه ما كان المؤسس الشيخ مصطفي عبد الرازق قد بدأه من تأصيل الفكر الفلسفي الإسلامي في كل من الوحي (القرآن الكريم) والحديث القدسي والحديث النبوي وأعمال كبار أئمة المفسرين وعلماء اللغة ؛ وفي الكتاب نفسه يوضح التفتازاني تفاعل هذا الفكر الأصيل مع التراث الفكري الفلسفي والعلمي للأمم السابقة واستيعاب الفكر الإسلامي لهذا التراث . ويأتي كتابه البالغ الأهمية عن " علم الكلام وبعض مشكلاته" عام 1966 لكي يوضح فيه كيف أن هذا العلم تبلورت فيه "  الفلسفة الإسلامية" الخالصة التي أبدعها العقل الإسلامي  العقلاني والمثقف بعد استيعابه ثقافات الأمم  الأخرى وفي مواجهة واقع مركب ومختلف عن عصر الأئمة الأوائل .  وفي البحثين المشهورين:" الإسلام  والفكر الوجودي المعاصر " عام 1978 الذي ناقش فيه وجودية جان بول سارتر وأصولها ومصادرها الفكرية والمنهجية ؛ و: " منهج إسلامي في تدريس الفلسفة الأوربية الحديثة المعاصرة في الجامعة " عام 1979- في هذين البحثين يتوسع التفتازاني في تطبيق منهج كتابه عن الفكر الوجودي والإسلام ويوضح نقديا ومعرفيا كيفية تفاعل العقل الأوربي في العصور الوسطي ثم في عصر النهضة الأوربية مع كل من الفلسفة والعلوم العربية الإسلامية لكي تتضح الفلسفة الغربية (الأوربية) أواخر عصر النهضة (إيرازمش وجميع الرشيدين والإنسانيين) وأوائل عصر التنوير (سبينوزا وديكارت) .. وتوضيح قراءة هذين الكتابين مدي التأثير العميق الذي تركه التفتازاني كفيلسوف في إبراز أبناء الجيل التالي الحالي من المفكرين الفلسفيين في مصر والعالم العربي (9).

وتأثير آخر مهم إضافة إلي تأثير الدكتور التفتازاني في مجالي دراسات التصوف وعلم الكلام ونقد الفلسفات الغربية، هو تأثيره في مجال دراسة وتحليل تطور العلوم الطبيعية عند  العرب المسلمين ( وخاصة الطب والفلك) اللذين كانا يعتبران ويعودان الآن فروعا رئيسية من انشغالات ومكونات الفكر الفلسفي وذلك في بحثه التاريخي:" العلاقة بين الفلسفة والطب عند المسلمين " عام 1981؛ ثم كتابه " مفهوم العلم في الإسلام " عام 1982 وقد منحه الرئيس حسني مبارك جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1985 (10)... وللحديث بقية...

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.......................

الهوامش

1- أسماء جمعة القلعي، وآخرون: سيكولوجية التصوف عند أبي الوفا الغنيمي التفتازاني، مجلة البحث العلمي في الآداب، جامعة عين شمس - كلية البنات للآداب والعلوم والتربية، ع19 ,ج8، 2018، ص 67.

2- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

3- .يوسف زيدان: رموز مصرية: أبو الوفا التفتازانى، مقال بالأهرام المصرية بتاريخ الأربعاء 7 من ذي الحجة 1435 هــ 1 أكتوبر 2014 السنة 139 العدد 46685

4- أنظر  مقدمة أستاذنا الدكتور عاطف العراقي لكتاب الدكتور أبو الوفا التفتازاني أستاذا للتصوف ومفكرا فكريا، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 1995، ص 9.

5- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

6- سامي خشبة: مفكرون من عصرنا، من ص 33.

7- المرجع نفسه، ص 34.

8- المرجع نفسه، ص 35.

9- المرجع نفسه، ص 36.

10- المرجع نفسه والصفحة نفسها.

 

في المثقف اليوم