شهادات ومذكرات

علي كرزازي: معروف الكرخي.. العارف السموح

علي كرزازيموتُ التقيِّ حياةٌ لا نفادَ لها قد * ماتَ قومٌ وهمْ في الناسِ أحياء

واحد من أعلام التصوف السني في القرن الثاني للهجرة، وعالم مبرز من علماء أهل السنة والجماعة المشهورين بالزهد والورع والتقوى، كنيته: أبو محفوظ معروف بن فيروز الكرخي، أصله نبطي بابلي عراقي قديم، وأثبت كثير من المؤرخين أن محتده وأصله عربي. كان والداه يدينان بالنصرانية وأسلماه في صباه إلى مؤدبهم، فكان يأمره: "قل ثالث ثلاثة (يقصد التثليث النصراني)، فيرد عليه معروف: بل هو الواحد الصمد، فضربه على ذلك ضربا مبرحا، فلم يصبر على تعنيفه فهرب منه وانقطعت أخباره مدة فحزن والداه عليه حزنا كظيما ولسان حالهما يقول: " ليته يرجع إلينا على أي دين كان فنوافقه عليه"، فرجع ذات يوم فطرق الباب، فقيل: من؟ فقال: معروف، فقالا: على أي دين؟ قال: دين الإسلام، فما كان من والديه سوى أن اعتنقا الإسلام.

الثابت أن التسامح خُلق ديني، والمتصوفة أعلوا من شأن هذا الخلق نظرا وممارسة، ولعل معروفا واحد من هؤلاء الصوفيين الذين تشبعوا بهذه الفضيلة الأخلاقية، ويروى في هذا الصدد أنه كان قاعدا على نهر دجلة ببغداد، إذ مر به أحداث /غلمان في زورق يضربون الملاهي ويشربون، فقال له أصحابه، ما ترى هؤلاء – في هذا الماء- يعصون الله فهلا دعوت عليهم، فرفع يديه إلى السماء فقال متضرعا: "إلهي وسيدي ! كما فرحتهم في الدنيا أسألك أن تفرحهم في الآخرة !" فقال له أصحابه: إنما قلنا لك ادع عليهم فقال:" إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا ولم يضركم شيء".

تذهب أغلب المرويات التاريخية إلى أن معروفا الكرخي أسلم على يد الإمام علي ابن موسى الرضا الذي كان له الفضل في ترسيخ الجانب الأخلاقي في منحى حياته، وبالتالي تأهيله للتشبع بمبادئ الزهد والتصوف، كما لا تفوتنا الإشارة إلى تتلمذه على يد الشيخ داود الطائي.

وفضلا عن خلق التسامح عرف معروف بكثرة الصيام والقيام والمجاهدة، ومن أشهر أقواله الدالة على خلقه القويم.

-"ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين في الصالحين"، وهو هنا يثمن قيمة ومزية

الصدق في ظل مجتمع أصبحت تتنامى فيه صنوف الرياء والزيف والتصنع.

-"توكل على الله عز وجل حتى يكون معلمك ومؤنسك وموضع شكواك فإن الناس

لا ينفعونك".

-"إذا أراد الله بعبد خيرا فتح عليه باب العمل وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عليه باب العمل وفتح عليه باب الجدل".وفي هذا تكريس لمبدأ الاجتهاد والعمل والتوكل بدل الارتهان إلى التراخي والتكاسل والتواكل فالتصوف الحق إنجاز وممارسة قبل أن يكون نظرا ومشافهة، وسيرا على نفس النهج العملي وجدنا معروفا يقرر: "قيام الليل نور للمؤمن يوم القيامة يسعى بين يديه ومن خلفه وصيام النهار ببعد العبد من حر السعير، ينادي مناد يوم القيامة: يا مادح الله قم فلا يقوم إلا من كان يكثر من قراءة " قل هو الله أحد".

سئل معروف عن صفة الأولياء فأجاب: "ثلاثة: همومهم لله، وشغلهم فيه وفرارهم إليه". له، فيه وإليه: تلك هي عتبات العروج نحو الملأ الأعلى، هذا العروج المحكوم بوشيجة الحب والمفضي إلى مقام الأنس، وتلك هي منزلة العلم التي راضها معروف بانقطاعه لله وسلوكه نحوه، وهو ما تترجمه قولة أحمد بن جنبل: "وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف" (سير أعلام النبلاء).

رحمه الله الإمام أحمد والشيخ معروف.

 

د.علي كرزازي

 

 

في المثقف اليوم