شهادات ومذكرات

محمود محمد علي: الحارث بن عباد.. حكيم العرب في الجاهلية

محمود محمد علييعد الشعر الجاهلي مادة ثرية للدراسات الأدبية تفيض بالأصالة وتمتلئ بالصور الموحية، إلي جانب كونها وثيقة تاريخية مهمة، تحفظ على الأمة أخبار الماضين وتجاربهم، وتطلع الأبناء على آثار الأجداد ومآثرهم،ومن ذلك أخبار مؤسفة دارت بين أبناء بكر وتغلب ابني وائل، تقدم دروسا عن عواقب الظلم والعدوان، وعواقب احتراب الإخوة وتجاهل الروابط الجامعة، والانجراف وراء العاطفة والعصبية القاتلة .

وكان من أعلام المشاركين فيتلك الحرب شاعر سيد في قومه بني بكر؛ هو الحارث بن عباد، الذي كانت حياته وشعره موضوعا لنيل درجة الماجستير في الآداب من جامعة دمشق، وكان بعنوان (الحارث بن عباد: حياته وشعره)، إذ كان له أثر واضح في تلك الحرب، وكان مار روي له من أشعار حافلا بتاريخ أحداثها وأيامها .

والحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل (و.؟ – 550)، هو شاعر وفارس جاهلي شهير، من فحول شعراء الطبقة الثانية، وأمير بني ضبيعة. كان الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة من بني بكر (توفي سنة 74 ق. هـ. – 550 م) أحد سادات العرب وحكمائها، وشاعراً مقلاً ومجيداً، وفارساً لا يشق له غبار.

اشتهر بالحكمة، والتوسط بين قومه بني بكر، وبين أبناء عمهم بني تغلب، وشهد مقتل كليب بن ربيعة التغلبي على يد جساس البكري عمرو بن مرة البكري، واندلاع حرب البسوس بين تغلب وبكر، فاعزلها مع قبائل من بكر، لكنه سعى بين الطرفين المتصالحين بالصلح طوال فترة الحرب التي دامت أربعين عاماً.

ولد الحارث قبل عام الفيل بـ 51 سنه، في الشعيبة غرب مكة المكرمة، من عشيرة حنيفية يمتهن اغلب افرادها صناعة السفن، ونشأ في الشعيبة وتعلم القراءة والكتابة والانساب في سن مبكرة، وكان يرتاد النوادي الادبية في مكة والطائف، من اشهرها عكاظ ودار الحكمة.

‎ كان والده عباد بحاراً يسافر كثيراً، وقد سافر الحارث مع والده عدة مرات الى الحبشة، وكانت والدته نائلة قرشية، فعرفه اهل مكة من قريش.

‎ شارك الحارث بن عباد مع فرسان العرب في معركة خزاز ومعركة هرجاب ضد ابرهة الحبشي وقتل مائة وعشرون حبشي، واعتزل حرب البسوس، لكن بعد مقتل ابنه بجير على يد الزير سالم، دخل الحارث في الحرب وخاض معركة ضد الزير سالم.

‎ تقابل الحارث بن عباد مع عنترة بن شداد في سوق عكاظ بالطائف، وكان الحارث قد بلغ السبعين من العمر، فمد يده لمصافحة عنترة الذي كان شاباً وكلٍ شد يده لآخر حتى سال الدم من يد عنتره وقال الحارث وهو يضحك لو انك في شبابي سُميت عنزه لا عنتره، فتعجب عنترة من قوة الحارث، وانتصاب جسده.

‎ توفي الحارث بن عباد، عن 74 سنة، بعد عام الفيل بـ 23 سنه، في الشعيبة (غرب مكة) ودفن بها.

كذلك كان الحارث بن عباد رجلا فاضلا، عاش حياته يعتزل الحرب التى دارت سنوات طويلة بين قبيلتى بكر وتغلب (بعد مقتل كليب وائل) على يد (جساس)، الحرب التي اندلعت قبل الإسلام ونعرفها نحن بحرب البسوس، بل إن الحارث راح يسعى فى الصلح،، ولكن المهلهل رفض الصلح وقتل ابنه بُجيراً، فثار الحارث ونادى بالثأر، فرثاه يقول:

لم أكن من جناتها علم الله/ وإنى لحرها اليوم الصال

قد تجنبت وائلا كى يفيقوا/ فأبت تغلب علىًّ اعتزالى

وأشابوا ذؤابتى ببجير/ قتلوه ظلما بغير قتال

قتلوه بشسع نعل كليب/ إن قتل الكريم بالشسع غال

تقول القصة إن الحارث بن عباد كان يحمل قيما وأخلاقا عظيمة، وفى ظل سعيه الدائم للصلح بين الطرفين، عرض ابنه "بجير" على المهلهل بن أبى ربيعة المعروف فى التراث الشعبى بالزير سالم كفداء لمقتل أخيه "كليب" ولإخماد الحرب القائمة بين أبناء العمومة، إلا أن (المهلهل) قتل "بجير" وصاح وهو يقتله "بؤ بشسع نعل كليب" أى أنك ستموت فقط فداء لـ "أربطة حذاء كليب".

قربـا مربـط النعامـة منـى/ ليس قولى يـراد لكـن فعالـي

قربـا مربـط النعامـة منـى/ شاب رأسى وأنكرتنى الغوالي

قربـا مربـط النعامـة منـي/ طال ليلى على الليالى الطـوال

قربـا مربـط النعامـة منـى/ كلما هب ريـح ذيـل الشمـال

قربـا مربـط النعامـة منـى/ لبجـيـر مفـكـك الأغــلال

قربـا مربـط النعامـة منـى/ لا نبيع الرجـال بيـع النعـال

ومن شدة غضبه قال والله لا أكفّ عن تغلب حتى تكلمني فيهم الأرض. ودارت الدوائر على تغلب بعد أن انضم ابن عباد إلى بكر في حربها على تغلب وأثخن فيهم لدرجة أن أهل تغلب حفروا سرداباً تحت الأرض وأدخلوا رجلاً فيه فلما مرّ الحارث أنشده:

أبا منذر أفْنيْتَ فاسْتبقِ بعضَنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض.. فقالوا للحارث قد كلمتك الأرض وبررت بقسمك فأبقهم واترك الحرب، فتركها بعد ذلك.

وبالفعل عندما دخل الحارث بن عباد المعركة تغير كل شيء، دارت الدائرة على المهلهل ورجال تغلب وانهزموا، وأسرَ المهلهل وجزّ له شعره وأطلقه إذلالاً له، وأقسم أن لا يكف عن تغلب حتى تكلمه الأرض فيهم، فأدخلوا رجلاً في سَرب تحت الأرض ومرَّ به الحارث، فأنشد الرجل:

أبا المنذر أفنيتَ فاستبقِ بعضنا.. حنانيك بعض الشر أهون من بعض.. فأوقف القتال، وتصالح العرب!

في الحرب كان الحارث يطلب رجلاً يُقال له عدي بن أبي ربيعة ليقتله، فبينما هو في بعض معاركه إذ أسرَ رجلاً، وطلب منه أن يدله على عدي بن أبي ربيعة

فقال له الرجل: هل تطلق سراحي إن دللتك عليه؟..فقال: نعم.. فقال الرجل: أنا عدي بن أبي ربيعة!.. فأطلقه الحارث بن عباد وفاءً بوعده!

على جاهليتهم كان فيهم أخلاق وشهامة ومروءة أقرَّ بها الإسلام وقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق!

يوم تحلاق اللّمم (يوم قضة)، إنما سمّى بذلك لأن الحارث بن عباد لمّا تولّى الحرب قال لقومه: احملوا معكم نساءكم يكنّ من ورائكم، فإذا وجدن جريحا منهم قتلوه، وإذا وجدن جريحا منّا سقينه وأطعمنه، فقالوا: ومن أين يتميّز لهنّ؟ فقال: احلقوا رءوسكم لتمتازوا بذلك، ففعلوا، فسمّى به، فقال جحدر بن ضبيعة- وكان من شجعانهم-: اتركوا لمّتى وأقتل لكم أوّل فارس يقدمهم، فتركوه، وهو الذي قتل عمرا وعامرا التغلبيّان، طعن أحدهما بسنان رمحه، والآخر بزجّه، ثم صرع بعد ذلك، فلمّا رأته نساء بكر دون حلق ظنّوه من تغلب فأجهزوا عليه. وفي هذا اليوم أسر الحارث بن عباد المهلهل عدىّ بن ربيعة وهو لا يعرفه فقال له: دلّنى على عدىّ وأخلى عنك، فقال له عدىّ: عليك العهد بذلك إن دللتك عليه، قال نعم، قال فأنا عدىّ، فجزّ ناصيته وتركه.

وكان الحارث آلى ألّا يصالح تغلبا حتى تكلّمه الأرض، فلمّا كثرت وقائعه في تغلب ورأت تغلب أنها ما تقوم له حفروا سربا تحت الأرض وأدخلوا فيه رجلا وقالوا له: إذا مرّ بك الحارث فغنّ بهذا البيت:

حنانيكَ بعض الشر أهون من بعضِ.. أبا منذر أفنيت فاستبقِ بعضنا

فلما مرّ الحارث اندفع الرجل وغنّى بالبيت، فقيل للحارث قد برّ بقسمك فابق بقيّة قومك، فأمسك، فاصطلحت بكر وتغلب.

وللحارث قصة أخرى تنم عن مدى قوته وصواب عقله وحكمته وهي أن بعد أن قام بتطليق أحد نسائه لتتزوج من رجل أخر ليقوم هذا الرجل بزيارته بعد ذلك ويحدثه قائلا بأنها فضلته عنه ولكن لم يجد الحارث إلا أن رد عليه ببضع كلمات قليلة ولكنها تحمل الكثير والكثير في طياتها وهي”عِشْ رجبًا ترَ عجبًا”، وفي هذا المثل حذف وبلاغة، فهو في الأصل “عش رجبًا بعد رجب ترَ عجبًا”وظل الحارث مشغول بأمور قتال أعدائه حتى قام اثنان من مساعديه بقتله بدماء باردة لتتذكره القبائل وترثيه على أن كان من أفضل الرجال الأقوياء في هذا العصر.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة اسيوط

..............................

مراجع المقال:

أنظر ديوان الحارث بن عبّاد البكري (ط أبوظبي) - تحقيق أنس عبد الهادي أبو هلال، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، 2008.

 

 

في المثقف اليوم