نصوص أدبية

أديب 2020

حاتم السرويالساعة الآن الثامنة والثلث مساءً، ينتبه من نومه، تتفتح عيناه في الغرفة المظلمة، يتنهد..يتثائب.. يتمطى...

يمدُّ يده إلى علبة سجائره وفي التوِّ يتناول سيجارة على الريق فهو لم يأكل طعامًا منذ ليلة البارحة... على مدار ثلاثين عامًا كان حريصًا على عدم تغيير ماركة الدخان الذي يدخل رئتيه ويحطم أسنانه مع أنها ماركة محلية الصنع رديئة التبغ تثير رائحة قذرة تجبر المحيطين على الشعور بالغثيان والميل إلى التقيؤ، والعجيب أنه لا ينقصه المال ولكنه الكيف.

ما هو الكيف؟ ربما كان مفهوماً هيوليًا لا يتشكل فهو عصيٌّ على التعريف ويبدو أنه وهم، ولكنه وهمٌ لذيذ ما فتئ يتحكم في حياته مُنذ الصف الثانوي الأول، وقتها كان يقوم بوضع شواشي الذرة في ورق البفرة المسروق ثم يقوم بتدخينه محاولاً أن يقلد الكبار، ويبدو أن رئتيه أصيلتين، تحملتا كل هذا القطران على مدار عقود.

بعد أن تناول سيجارته قام بوضع الكنكة على بوتجازه المسطح وفي داخلها ذلك البن الغامق المحروق الذي لا يقل في غموضه عن ماركة السجائر العتيقة التي داوم على شرائها منذ أن كان شابًا تمرح فوق شفتيه شعيراتٌ تافهة.

 سألته مراراً عن سر خصومته مع الطعام وأخبرته أن الإنسان الطبيعي لا يعيش على القهوة والدخان ولكنه ضحك حتى استلقى على قفاه وقال لي: بقالك عشرميت سنة وانت شغال عندي ولسه مش عارف إني مش طبيعي.

قلت له: يعني ايه مش طبيعي؟؟ انت مريض يعني؟

قال لي: يا حمار، العباقرة لا يخضعون لقانون الأحياء.

قلت: بس العباقرة بياكلوا زينا برضو

قال: أي عباقرة؟؟ دول بهايم!.

لم أشأ أن أسايره في جدال بيزنطي ينتهي غالباً بشتائم مفجعة يعاقب عليها القانون، خاصة وأن كرامتي لا زالت تؤرقني منذ ليلة أمس.

وما هي إلا دقائق حتى أعلن الموبايل تمرده على صمته الغارق المفارق وأفكاره السابحة في المجهول..نظر مليًا إلى رقم المتصل ليكتشف أنها صديقته، قام في التوِّ ودونما تردد، وأخبرني أننا يجب أن نترك المنزل ونذهب إلى "البار" فالصديقة في انتظارنا وقد أعدت لنا حفلة بمناسبة حصول روايتها على جائزة كفافيس.

- مين خنافس دا يا بيه

- خنافس إيه يا حيوان بقولك كفافيس، ماتشغلش بالك.

- بس البيت محتاج تنضيف وحضرتك مخلي الحمام يعني... متآخذنيش

- سيب الحمام في حاله وتعالى نلحقها، اللي هتشربه النهارده عمرك ما شربته ولا هتشربه، طقم فودكا يخليك طاير من غير جناحين، حاجة كده ولا ألف ليلة.

ارتدى ملابسه على عجل، ولم تكن إلا تيشيرت لم أتبين لونه ويبدو أن صبغته ذهبت أدراج الرياح، وبنطلون جينز مقطوع عند الركبتين، أما الحذاء فقد كنت أخشى منه على قدميه لكن خشيتي تبخرت بعد رؤية الشقوق الغائرة وهي تلتهم كعبه العبقري والتي يبدو أن عمرها يربو على سنوات عملي معه كخادمٍ بائس لم يجد مهنةً  تواري سوءته غير أن يعمل في خدمة آدمي شبه مجنون.

ونظرت إلى وجهه فألفيت لحيته مثيرة للشفقة لكنني آثرت ألا أتحدث عنها حتى لا يسب المرحومة والدتي، أنا أحب والدتي.

في الخمارة كان المشهد العام يذكرني بما كنت أشاهده في الأفلام والمسلسلات مع فارق يبدو لصالح النسخة المقلدة؛ حيث أن الأفلام ليس فيها مقاعد مهترئة ولا طاولات متسخة أو مناديل متناثرة في كل مكان.. قشر الترمس ورائحة البيرة وأنا ذاهلٌ حيران..ما علينا.

وبدأت الليلة في هدوء، ما بين عبارات تقليدية تنم عن السعادة باللقاء والتهنئة على الجائزة ثم تصاعدت الوتيرة لتصل إلى مسامعي عبارات الغزل التي كنت أخجل منها، وبعد قليل أحضر النادل قارورة الفودكا وأطباق المزة، ولم أنشغل بالفودكا فقد كنت أكره رائحتها التي تشبه الجاز، ورحت ألتهم المزة واضعاً في حسباني أنها لا يمكن أن تكون حرامًا؛ فالخمرة وحدها هي المحرمة أما الترمس والفول النابت والجبنة القديمة فمن يا ترى يستطيع أن يحرمهم، حرمت عليه عيشته.

وعلى غير المعتاد بدت صحة مخدومي على غير ما يُرَام، كان يسعل كثيرًا، ويغمغم بعباراتٍ غير منضبطة ولا مفهومة، تعودت على رؤيته وهو يشرب المحيط دون أن يتقيأ أو يهذي أو يصل إلى مرتبة "سكران طينة" وعرفته متمرسًا على الشرب وبارعاً في التهام الفودكا والنبيذ، أما البيرة فقد كان يتجرعها دفعة واحدة كمن يشرب الماء البارد.

وفجأة وجدته يسعل حتى احمرت بشرته وأصبحت جمرة ملتهبة ثم قام وجعل يضحك ويبكي في الوقت نفسه ويقول: أنا طول عمري عبقري، دي حاجة مفروغ منها، بس للأسف حظي هباب وانا بحب الكباب بس ملاقتش غير الطعمية، لييييييه؟؟ ليه يا عالم وسخة؟ صدق اللي قال: لا كرامة لنبيٍ في وطنه.

- هو انت نبي يا أستاذ وانا مش عارف؟

- أنا أعظم من نبي،أنا إله السرد يا جاموسة.

- إله السرد، دا غير إله الحب وإله المطر؟

- هتفضل طول عمرك حشرة.

- ما ترسى لك على بر، من شوية كنت جاموسة ودلوقتي حشرة، أنا إيه بالظبط.

- انت ولا حاجة.

- ربنا يجبر بخاطرك يا باشا

- بقالك معايا كام سنة ومش قادر تفهم إني كائن علوي صنعته آلهة الأولمب على عينها وأمرته أن يهبط إلى العالم التعس حتى ينتشل النوع الإنساني من عذاباته، إن لديَّ جواباً لكل سؤال وحلاً لكل مشكلة، أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمَمُ.

- إيه التجلي دا، يا دين النبي، يا مثقفنا يا أبهة إيه العظمة دي كلها.

- ومع ذلك ماخدتش نوبل.

- وهتاخدها ازاي يا بيه؟ دا نجيب محفوظ كان منظم في حياته وكان غزير الانتاج وكان عبقري.

- تبًا لك سائر اليوم، أنا آخر مرة قلتلك إيه؟

- قلت إني حشرة.

- أنا آسف... انت ماحصلتش هاموشة، أمثالك من الرعاع يجب أن يتوقفوا عن عادة تقييم الأكابر، يالها من عادةٍ سخيفة ألفتها جموع النمل البشري الذين يعيشون بلا هدفٍ ولا رؤية، هل قرأت لي " أين أشيائي" و" ليلة فسحة عانس" و" الشك يا هريدي" و" هذه ليلتي"؟.

- الله يرحمك يا ست، لا والله ما قريتش.

- ولو قريت مش هتفهم.

ثم اعتلى الكرسي الذي كان يجلس عليه في حركةٍ دراماتيكية وأخذ يخطب في السكارى الذين يملأون جنبات البار، حاولت أن أثنيه عن هذا الخبل وأن أسترحمه حتى لا يدع فرصة لقنبلة صحافية جديدة تغتال سمعته التي لم يتبق منها إلا ذكريات فصاح بي: غور يا ابن الوســ......

وبينما هو يستعد لإلقاء خطبته العصماء أو التي بدا أنها سوف تخرج قويةً مجلجلة مليئة بالشعارات الحارقة والمصطلحات الجبارة إذ به ينظر أمامه لكأنما يخاطب شخصاً لا نراه ولا يراه غيره، ويتمتم بصوتٍ خافت ويشير بسبابته إليه محركًا إياها ذات اليمين وذات الشمال  ثم يشهق باكيًا ويتعلو نبرته وهو يصيح : حرام عليك؟؟ طب لما انت عايزني أبقى راجل بهدلتني ليه؟ عشان تربيني؟ أديني طلعت مش متربي، مبسوط كده؟ آه، أديب بس مش مؤدب، هاهاهاهاهاي.. ثم تهاوى على الطاولة وبدا كجذع نخلة يسقط على الأرض محطماً كل زجاجات البيرة وأطباق المزه، ومحدثًا أكبر كارثة تشهدها خمارات وسط البلد.

وساد المكان هرج ومرج وهرع الجميع إلى الجسد المنهار الذي حطم ثقله المنضدة وحاولوا أن يحركوه فوجدوه يقبل الأرض ويغني: الدنيا ريشه فـ هوا، طايره من غير جناحين.

صحت مدفوعاً بحالة نادرة من الغيظ: - يا بيه يا بيه، روح الله يخرب بيتك وقعت قلبي فـ رجليا.

وتلقائياً عزمت على عدم استكمال العمل مع هذا العبقري إلى الحد الذي يصعب فهمه على أمثالي، لكن..ليس في كل خرابة عفريت؛ فهناك زهرة تحوم النحلات حولها وتأخذ من رحيقها زاداً وسقيا، شربت من كتبه فارتويت ولا تنسوا أن معي الإعدادية، واليوم أنا أيضًا أكتب، ترى هل أعجبتكم كتابتي..

***

قصة: حاتم السروي

 

في نصوص اليوم