نصوص أدبية

سوسَنَّة العفيفة

حاتم السرويكان شموئيل بن يهوذا المغربي حبرًا من كبار اليهود في بغداد، والتي وفد إليها مع أبوه من فاس في بلاد المغرب الأقصى، ثم أنه قد هاجر إلى المراغة وهي مدينة فارسية عامرة كان فيها العلم والفن والصناعة.

وكان كثيرًا ما يفكر في الإسلام ويقرأ عنه وفيه ويقارن بينه وبين اليهودية التي هو أحد رجالها ، وأخيرًا قرر أن يسلم بعد رؤيا منامية شاهد فيها النبي شموئيل -الذي أسمته أمه حَنَّا على اسمه- وهو يحثه ويرغبه في الإسلام...وبعد إسلامه طلب منه بعض المصلين في مسجد المراغة الكبير أن يقص عليهم من بعض ما جاء في التوراة؛ فكانت هذه الحكاية:

في زمان السبي البابلي وعلى أرض بابل في جنوب العراق ومن بني إسرائيل كان "يواقيم" هذا الرجل الطيب يعيش في هدوء مع زوجةٍ طيبةٍ مثله وتقية، سُوسَنَّة الجميلة ابنة حلقيا، جميلةٌ جدًا كانت، أبواها بارين، ربياها على شريعة الكليم.

يواقيم لم يكن متواضع الحال، كان ثريًا كما يجب أن يكون الثراء، وداره الواسعة مزدانة بالرسوم بهية المنظر كثيرة الحجرات والمنافع، وتليها حديقةٌ غنَّاء.

وكان بنو ملة اليهود يجتمعون إليه في داره، حقيقةً كان فيهم وجيها.. وفي تلك السنة أقيم شيخان للقضاء في بني إسرائيل، وهما من الذين قالت عنهم التوراة: "إن الإثم قد صدر من بابل، من شيوخٍ قضاة يُحسَبون مدبري الشعب" وفي دار يواقيم يجلسان؛ فيأتيهما كل ذي دعوة، ومتى انصرف اليهود من دار يواقيم عند الظهيرة كانت سوسنة تخرج إلى حديقة زوجها وتتمشى، وكان الشيخان يشاهدان جمالها الآسر فكأنها من سحر بابل؛ فلا يملكان هواهما ولم يكن إلا الشغف...

أفكار الشيطان تلعب وتجري وتعبث في ذهنيهما، أما القلب فلم تعد فيه نفحة الإيمان، والعين لا تنظر إلى السماء بل إلى سوسَنَّة.. ولم يكاشف أحدهما الآخر بما فيه، ولكن كل شيخ منهما يعلم رغبة الإثم في رفيقه كما يعلمها في نفسه، وكيف يختبئان من رغبة فضحت نفسها وهما يَجِدَّان في الترقب منتظران قدومها حتى يغتصباها نظرةً شهيَّة وشهوةً شقية..

قال أحدهما للآخر ذات يوم: فلننصرف إلى بيوتنا فهي ساعة الغداء؛ فتفارقا، وما كانت إلا برهة من الوقت وإذا هما ينقلبان إلى ذات الموضع؛ فتسائلا بينهما عن سبب الرجوع، وهنا كان الاعتراف، اعترافٌ تلاه اتفاق، وهكذا توافق شيطانان على خطةٍ رَدِيَّة يوقعان فيها بالعصفور البريء.

وفي اليوم الموعود كان الطقس يعلن عن غضبه، والشمس تلفح الرؤوس، والجبين يتفصد عرقا، أما سوسنه فسارت بمشيتها الملائكية نحو موضعٍ في الحديقة حتى تغتسل، وقاضيا الخزي مختبئان، وقد حولتهما الشهوة إلى هيئة القرود وسيما المراهقين، فيما سوسنة تطلب من جاريتيها دهنًا وغسولا، وأن يحكما غلق الأبواب.

الجاريتان خرجتا وحانت الفرصة؛ فإذا الشيخان يثبا من جحريهما ويصيحان: ها، إن الأبواب مغلقة، ولا يرانا إنسان، ونحن كَلِفَان بهواكِ، وافقينا وكوني معنا وإلا...

ذهلت سوسنة وارتسمت ملامح الرعب على مُحَيَّاها الطفولي، وقالت بصعوبة: وإلا ماذا؟.

ضَيَّقَ أحدهما عينيه وعلته ابتسامة ماكرة، وقال بهدوء: أبدًا، سنشهد عليك بأن شابًا وسيمًا كان معك؛ ولذا صرفتي عنكِ الجاريتين، لماذا يا سوسنة؟ هل قصر معكِ يواقيم؟ جزاء المعروف ضرب الكفوف؟! حرام يا سوسنة.

تنهدت بنت حلقيا وقالت: ضاق بي الأمر، واستحكمت البَلِيَّة؛ فإني لو فعلت لكان في هذا موتي، وإن لم أفعل فكيف نجاتي منكما، ولكن لن أفعل، خيرٌ لي أن أقع بين أنيابكما من الخطيئة أمام الله.. وصرخت الجميلة بصوتٍ عظيم؛ فصرخ الشيطانان بصوتٍ حقير، وركض أحدهما تجاه باب الحديقة، وفتحه للجمهور، وكانت الواقعة...

وسمع من في البيت تجاوب الصرخات؛ فوثبوا مفزوعين، وأسرعوا إليها من باب السر حتى يروا ما حل بها.. وتكلم الشيخان بحديث الإفك والعبيد يسمعون وقد انتابهم خجلٌ شديد؛ لأنه لم يقل إنسان على المرأة مثل هذا القول، وما جرى في خيالِ أحد.

ولما كان الغد اجتمعت اليهود كما عادتهم في دار يواقيم، وجاء الشيخان بنية أثيمة أضمراها في جوفٍ قذر، وقالا أمام الجموع: أرسلوا إلى سوسنة بنت حلقيا امرأة يواقيم... وجاءت العفيفة ومعها بنوها وأبواها وجميع قرابتها، والترف يبدو في تفاصيلها، والجمال يلاحقها حتى في البلاء، ولم ينس الفاجران شهوتيهما؛ فأمراها أن تزيح البرقع ليرتويا من جمالها، وكان من يعرفها يذرف الدمع.

وضع الشيخان أيديهما على رأسها؛ فرفعت إلى السماء طرفها وتكلمت عنها الدموع، وصاح قلبها: عليك اتكالي يارب.

وقال شيخ: كنا نتمشى في الحديقة ودخلت سوسنة ومعها جاريتاها؛ فغَلَّقَتِ الأبواب وصرفت أمَتَيْها؛ فأتى شابٌ كان مختبئا ثم وقع عليها، أما نحن فكنا في زاوية من الحديقة، ولما شاهدنا الإثم أسرعنا إليهما فإذا هما يتعانقان، وهرب الشاب وما قدرنا عليه، أما هي فأمسكناها وسألناها من الشاب فلم تخبرنا، وهذا ما نشهد به.

ولأنهما كانا قاضيان فقد صدقهما المجمع وحكم على سوسنة بالموت.. نظرت البريئة فوقها، ورفعت يدها إلى السماء، وقالت بأعلى صوت: أيها الإله الأزلي البصير بالخفايا، الذي يعلم كل شيء قبل أن يكون، يارب أنت العالم بأنهما شهدا عليَّ زورا، وها أنا ذا أموت ولم أصنع شيئا.

وبينما هي في طريقها إلى الموت نبه الله روحًا طيبة قدسية لشاب صغير واسمه "دانيال" فصرخ قائلا: أنا بريء من دم هذه.. والتفتت إليه الجموع وقالوا: أعد ما قلته.. فقام في وسطهم وقال: أهكذا أنتم أغبياء يا بني إسرائيل حتى تقضوا على أختكم بالموت؟؟ هلَّا تفحصتم الأمر، أليس من الممكن أن يكونا قد شهدا عليها زورا.

فعاد الشعب أدراجه، وقال دانيال: فرقا الشيخين عن بعضهما فأحكم فيهما.. فلما فرقوا كل واحد عن صاحبه دعا أحدهما، وقال: أيها العتيق في أيام الشر، لقد جاءت عليك آثامك التي اقترفتها على مدى السنوات، كم حكمت بالظلم وعاقبت الأبرياء، فالآن لو كنت رأيتها فأي شجرة كانت تحتها مع الشاب؟ فقال: تحت الضَّرَوَة..فقال دانيال: كذبك على رأسك؛ فلو بدلت الحق فإن ملاك الله قد أمر بشطرك نصفين..ثم نَحَّاه.

وقال للآخر: يا من يدَّعي أنه منا وليس منا، فتنك الجمال ومال الهوى بقلبك نحو الفساد، هكذا فعلتما مع بنات إسرائيل اللاتي أوقعتما بهن، أما التقية فما احتملت فجوركما؛ فالآن أخبرني تحت أية شجرة كانت مع الشاب..فقال: تحت السنديانة..

نظر دانيال إلى الجموع، وقال: انكشف الكذب وتعرت الخطيئة، ما حاجتنا بعدُ إلى كلام..فصاح الجميع مهللين، وقاموا على الشيخين فقطعوا غصنيهما، وأزالوا جذورهما، ونجت سوسنة، وسبَّح يواقيم وحلقيا لأن العفيفة ظهرت عفتها..

وصار دانيال موقرًا من شعبه، وما كان إلا قليل حتى مات الملك، وجاء كورش من فارس فأعتق اليهود من سبيهم في بابل؛ فهل أعتق اليهود أنفسهم؟؟ زفر شموئيل وقال بصوت عميق: أعتقنا الله من رق النفوس..فأجابه المصلون: آااامين.

*تمت*

***

قصة: حاتم السروي

(مستلهمة من تتمة سفر دانيال/ العهد القديم)

 

 

في نصوص اليوم