قضايا وآراء

بين باب الحارة وعولمة الدم و البيتزا

وإذا كان تناول البيتزا والهمبرغر وغيرها من مأكولات غربية يدل على ارتباط الإنسان بالعصر وإرضاء العولمة، فهذا يعني أن العرب أكثر الشعوب حضارة في الوقت الراهن؟ فهم يستهلكون البيتزا أكثر من الايطاليين، ويشربون البيبسي أكثر من الأمريكان، وأكثر احتفاء بعيد الحب ممن اخترعوه، ويكاد العرب يشبهون كل الناس ولايشبهون أنفسهم ؟ والبعض يرى أنه حضاري ومتمدن جداً بمجرد أنه يساير الموضة بالمأكل والملبس بينما هو لم يقرأ كتاباً أو صحيفة في حياته حتى لو كانت مجانية، ربما قراءة البرج أو الكف أو الفنجان..؟ علماً أن نظرة الغرب إلى الإنسان (العصري) تختلف عن توقعاته، وليس-عصرياً- ذاك الذي يتكلم بضع كلمات عربية تتخللها بضع انكليزية، أو يقلد الأوربيين باللباس والتسريحة ولا ينسى موعد عيد الحب، بينما لا يعرف متى عيد الاستقلال والنكبة والنكسة.. الخ، كما أن مجاراة العصر لاتعني أن يتخلى الإنسان عن قيمه وأخلاقه. وإذا كنا نتباهى بما يصنعه غيرنا عندما نصبح أكثر استهلاكاً له من أصحابه الأصليين، سنبحث دائماً و أبداً عن هويتنا مثل إبرة في كوم قش، أو داخل علبة فارغة من الكوكاكولا، فنحن نقاطع تارة بحجة أن كلمات (كوكا كولا أو بيبسي) مسيئة للدين وتارة أخرى لا نستغني ونتوقف عن تأويل العبارات ونقول : (ماذا نقاطع حتى نقاطع ؟) والغزو وصل عتبات منازلنا وصارت الأسرة العربية والأخلاق العربية مهددة أكثر من أي وقت مضى وهي التي استنجدت (بباب الحارة)، لأن بهاء الماضي الذي كرّسه مسلسل بسيط وعادي جداً قد أرغمنا أخيراً على الاعتراف بأن هناك مخزون روحي يربطنا بالحياة. وإذا كان رئيس أمريكا السابق جورج بوش- بكل مساوئه- قد وقف يوماً على منبره وقال (أنه يجب فصل الشباب عن البنات في المدارس لدواعي أخلاقية)، فلماذا يتحول دعاة التحرر العرب إلى ببغاوات، ويدعون إلى تقمص الأخلاق الغربية بحجة المدنية ومواكبة العصر حتى لو كانت على حساب الاحتشام والأخلاق التي هي سبب بقاء الأمم أو فنائها، ورحم الله أحمد شوقي عندما قال: (إنّما الأممُ الأخلاق ما بقيت   وإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) 

لكن عندما تقتضي الحاجة نعود لتأويل العبارات، وما وراء العبارات، لنتجاهل للحظات إذا كانوا يقصدون الإساءة أو لا يقصدونها وهل (كوكا كولا ) وسواها تحتمل تأويلاً أبعد من حقيقة وجودنا، أم بحكم العادة نتغاضى عن إساءات الآخرين الذين يختبئون تحت غطاء حرية التعبير، ولا نختبئ نحن إلا وراء ضعفنا، لأنهم بحسابات كثيرة أقوى منا، والدليل أننا نقلدهم ومادمنا مقلدين فنحن تابعين، والتابع هو الضعيف دائماً وهذا ما ذكره ابن خلدون قبل مئات السنين واليوم تصبح النبوءة حقيقة، ثم يأتي كاتب أمريكي أشد تعصباً (فوكوياما) ليقول التاريخ سينتهي لصالح الأقوياء ورأسماليتهم، وطبعاً مهما كانت أخلاق تلك الرأسمالية، وفي كل مرة تؤكد لنا أفعالهم أن القضية صراع..؟ ونحن نهرب إلى الأمام ونقول حوار حضارات، وأي حوار هذا الذي لا نكاد نلمسه بأطراف أصابعنا؟ وأي عولمة هذه التي تفترس عاداتنا وتقاليدنا بحجة أن ذلك يجعلنا أكثر رفاهية وسعادة وتمدناً، بينما لا نحصل إلا على الفتات، إنها عولمة الفقر والجوع والمرض ليس إلا، إنها لعولمة الدم والقهر التي تجعل انفلونزا الخنازير أسرع انتشاراً وأقوى مفعولاً من السلام والمحبة وقرارات الأمم المتحدة..؟ العولمة التي تنثر رائحة الدم قبل رائحة العطر..؟ تلك هي ولن تكون غير ذلك.. في دائرة من الصراع، ومادام الأمر صراعاً فالمسألة مسألة هوية والأخلاق والعادات والتقاليد جزء كبير من هوية الشعوب..ومع أننا نؤمن بنظرية المؤامرة لكن ننسى بأننا نحن أيضاً نتآمر على أنفسنا مثل أعدائنا الذين تبهرنا قشور حضارتهم بينما هم رموها منذ زمن بعيد بسلة المهملات . وصرنا بين سندان مجاراة العصر الذي لا نتقن منه إلا المصطلحات والفوارغ، ومطرقة الحفاظ على هوية ثابتة متميزة تجعل لنا اسماً حقيقياً وليس مستعاراً على خارطة الوجود يحفظ لنا ماء الوجه وبعضاً من الأخلاق العربية المتبقية في قاع إناء العروبة ..وإذا كانت مفاهيم باب الحارة ببساطتها ومحدوديتها (باعتبار أنها تمثل حارة دمشقية) قد فتحت نافورة الحنين إلى الماضي بما فيه من قيم، فهل ذلك مجرد انجذاب عادي لما هو عادي أم أن القصة أكبر من ذلك بكثير..؟ وخاصة أننا نشهد كيف يتم استهداف الأسرة العربية التي هي الحصن الأخير الباقي على جغرافيا الطابع الروحي للشرق العربي.. وإذا كانت بعض الجهات الغربية خرجت علينا بتصنيف غريب يضع(بعض الدول العربية) في مراتب متقدمة لأكثر الدول سعادة فهذا لغز آخر، بل أسطورة، وطبعاً مفهوم السعادة يختلف في مجتمعاتنا عن المجتمعات الغربية التي عادة ما يرتبط مفهوم السعادة لديهم بما هو مادي ومحسوس بينما ترتبط السعادة عند العرب بما هو روحي ومعنوي ..لكن إذا كان العرب سعداء لأنهم يستهلكون ما ينتجه الغرب، فلن تكون تلك سعادة حقيقية مختبئة وراء عبوات الكوكا كولا وأطباق البيتزا والموضة والاستماع إلى الموسيقى الصاخبة، في الوقت الذي نصارع فيه الأعاصير لنجد لأنفسنا هوية حقيقية أو وثيقة تثبت حصتنا من هذا الوجود أملاً أن تعود أخلاقنا وقيمنا من غربتها الطويلة ومنفاها الإجباري أو الاختياري...

 

أسماء شلاش -  سورية      

[email protected]   

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1165 الجمعة 11/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم