قضايا وآراء

سيكولوجيا الرقص والغناء والبنطال

وقبل أن أدخل صميم الموضوع أودّ أن أقول أن بعض المستشرقين قد عشقوا الشرق وأغرموا به بكل ما فيه من قسوة بما في ذلك قسوة مناخه وأنا هنا أقصد بالتأكيد الشرق العربي، وتحدثوا كثيراً عنه إما بدافع الإعجاب والإنصاف أو البحث عن الحقيقة التي يبدو أنها مدفونة لدينا، كأنها النفط أو الغاز أو الذهب، ومنهم من أراد أن يجعل مسرحه هنا، لكن بالتأكيد أن مقولة (ويل ديورانت) صاحب كتاب قصة الحضارة لن تسقط عندما قال:( قصتنا تبدأ من الشرق ..) والقصة لم تنته بعد..؟ لكن وللأسف أننا منذ زمن بعيد كسرنا خشبة ذلك المسرح وتحولنا إلى جمهور يشاهد ويراقب وقد يبدي رأيه، لكن بصوت مهموس، إلا إذا صار الآخرون جمهوراً لمسرحية نحن أبطالها وقد يتفاعلون ويضحكون ويسخرون وسيقفون عند مشهد مثير للدهشة أكثر من غيره ويسألون إلى هذه الدرجة أيها المشاهدون يشكل البنطال الذي ارتدته صحفية سودانية جريمة تستوجب الجلد..؟ وهل كلّ مشاكلنا وقضايانا تمّ حلها ومعالجتها ولم يبق شيء إلا ارتداء البنطال..؟ وأنا لا أتحدث عن قضية البنطال من باب جائز أم غير جائز فلست صاحبة الحق في إصدار الحكم . لكن أليس ثمة أشياء أخرى تستحق الحساب أكبر من حجم البنطال، ولماذا الهروب من الخارطة والبحث عن قصة فوق القمر وتضاريس الأرض العربية فيها ألف قضية..؟؟ حقاً نحن أمة لديها قدرة عجيبة على الصبر والصمت لدرجة أن ردة الفعل التي نمتلكها بعد كل مجزرة ترتكب بحق الشعب العربي هي الغناء ولحن العود والربابة على وتر جرح وأغنية وطنية، بل فيض أغان ٍ باعتبار أن نكباتنا ونكساتنا وانكساراتنا عطلت موسوعة غينيس..؟؟ لكن كل عربي سيتحول يوماً ما إلى (حكواتي) ليحكي لنفسه وللآخرين قصصنا المشرقية الكثيرة، ربّما لأنّ التاريخ قد لا يكون متحدثاً ماهراً أو منصفاً، فقد يمدحنا كثيراً ونحن بصراحة لا نستحق المدح فنأخذ عن أنفسنا فكرة خاطئة ذهبت مع الريح منذ أمد بعيد وبعيد جداً، وحتى لا يذمنا ونحن شبعنا من الذم حتى أُصِبنا بالتخمة لكن جلودنا قاسية جداً! وربّما سيقول أحدهم بسخرية هل سيزحف التاريخ إلينا بإعجاب..؟ ويجيب بنعم، حتى لو لم يبق ما نفتخر به سوى خصر راقصة شرقية، لأنهم يروون أن هذا الرقص ظاهرة عجيبة فعلاً ويستغربون أنّ ثمة مدارس وبرامج لتعليم الرقص بأنواعه بل (أكاديميات)عالية الجودة، وسيسأل هذا الأجنبي نفسه كما نسأل نحن( لماذا لا تكون هناك مدارس بهذا المستوى لمحو الأمية المتفشية بكثرة في الأرض العربية ) وطبعاً الأمية حسب تعريفنا نحن وليس حسب تعريفهم، لأن الأمية من منظورنا هي عدم إجادة القراءة والكتابة وبالنسبة لهم هي عدم القدرة على استخدام الكومبيوتر.ولن يتفاجأ هذا الوافد المفتون بسحر الشرق أن الرقص صار ثقافة ويمكن بكل بساطة أن نسمي الراقص أو الراقصة أو المطرب إنسان مثقف، وأنه يستطيع بسهولة أن يستدل على ذلك عندما يشاهد أي فعالية ثقافية وينظر إلى برنامج الفعاليات سيجد أن حفلات الرقص تفوق المحاضرات الفكرية وقد لا نختلف أن بعض أنواع الرقص والغناء هي جزء من ثقافة الشعوب ولكن ..؟ ولن يستغرب عندما يسمع بعدد المطربين والمطربات في عالمنا العربي الذي يفوق الخيال وربما يتحول العرب بين ليلة وضحاها إلى جمهور من الراقصين والراقصات، وكأن الموهبة الوحيدة لدينا التي تستحق التشجيع وحشد الإمكانيات لتطويرها هي الغناء والرقص.حتى أن برامج المسابقات الغنائية على الفضائيات العربية صارت أكثر عدداً من هموم المواطن العربي..؟ وستصيبه الدهشة عندما يدرك حجم الزلزال الذي خلفته أغنية (البرتقالة) عند العرب والذي تجاوز مقياس ريختر ..؟ وما يثير الضحك أيضاً أن الراقصات العربيات يكرمن في البلدان الأجنبية وصار للرقص الشرقي فروع ومدارس في دول العالم، وهذا واجب الراقصة تجاه عروبتها وهو نشر ثقافتنا والتعريف بها حتى لا يظنّ الآخرون أننا شعوب متخلفة مازالت في طور البداءة ..؟ لا، بل العكس نحن متقدمون وحضاريون جداً، وإلا لما صار الرقص والغناء من الأولويات في مجتمعنا العربي المتقدم، وانتهى فك الاشتباك بين رغيف الخبز والرقص، وبناء قصور ألف ليلة وليلة فوق أكوام التخلف والفقر والانحدار، والكذب على الذات...أما عاشق الشرق قد لقي الخيبة، وللكلام بقية..فبعض المطربين تقام لهم مراسم استقبال خيالية كأنهم فاتحون، ففي إحدى المدن العربية التي اختيرت قبل سنتين عاصمة للثقافة الإسلامية احتشد في المطار أحد عشر ألف شاب وفتاة لاستقبال مطرب والبعض أصيب بحالات إغماء، ! إحدى المطربات العربيات تتحدث بفخر أنها أول مطربة عربية غنّت أمام الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، واللبنانيون يفخرون دائماً أن شاكيرا من أصول لبنانية وهذه الأخرى كأن فيها وفاء عروبي فاختارت لنفسها هذا الاسم المشتق من (الشكر)..؟؟ ثم نستمع فاغري الأفواه إلى راقصة تتحدث عن تأديتها لمناسك الحج والعمرة، لكنها تعود ثانية للرقص، وأخرى تتفرغ للعبادة في رمضان لكن تعود إلى واجبها في أداء لغة الجسد والإغراء وقيادة الجيل العربي بعد رمضان ..وإحدى المطربات تعتز بأنها المثل الأعلى للفتيات العربيات، ومطربة أخرى لم تقبل إجراء الحوار إلا على متن طائرة ونسيت أنّ غالبية الشعوب العربية لم تصل إلى مرحلة الحلم بركوب الطائرة لأنها لا تزال تحلم بامتلاك سيارة رخيصة جداً جداً، وبالعودة إلى قضية البنطلون أو البنطال، سأقول: في أرضنا العربية الكثير من مصاصي الدماء والكثير من المفسدين والعابثين والناهبين الذين شيدوا ممالكهم على أحلام الشعوب ولقمة عيشها، هل نفكر يوماً كيف نجلدهم ونحاسبهم ونسألهم على الأقل من أين لكم هذا، ؟ وهل سنعفو عنهم بمجرد قولهم (هذا من فضل ربي)، ؟ وعندما نحقق المطلوب يحق لنا أن نلتفت إلى القشور مثل قضية لبس البنطال وغيرها، ويحق لنا أيضاً أن نغني بصوت عالٍ جداً لأننا انتصرنا على ما بأنفسنا من فساد، وقد يحق لنا أن نفاخر بعدد المطربين والراقصين وطلاب ستار أكاديمي وسوبر ستار ونجم النجوم وإكسير النجاح و(هزّي يا نواعم ) والى آخره من برامج تكشف مواهب الرقص والغناء ..؟؟ أخيراً هناك حكمة جميلة تلخص كل ما سبق تقول:(لا بأس أن نجلب الصخر من القمر شريطة أن يكون الخبز متوافراً لسكان الأرض) ..

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1216 الاثنين 02/11/2009)

 

 

في المثقف اليوم