آراء

كيف أثارت إسرائيل النعرات الطائفية في الوطن العربي (1)

محمود محمد عليحين غزت الولايات المتحدة العراق، وأطاحت بنظام صدام حسين في 20 مارس 2003 في عملية أطلقت عليها "تحرير العراق" Iraqi Freedom، لم يكن الهدف من ذلك، الإطاحة بنظام استبدادي، واستخلافه بنظام ديمقراطي، بقدر ما هو يهدف إلى هدم وإنهاء كيان الوطن العربي ؛ حيث كان الهدف الأساسي الذي وضعته الولايات المتحدة في استراتيجيتها في المنطقة، والذي كانت قد خططت له وأعدته منذ سنة 1970،هو " إعادة هيكلة دول المنطقة العربية، إلى كيانات صغيرة هزيلة متناثرة القوي، أكثر مما هي عليه الآن قائمة على أسس طائفية، وعرقية، ومذهبية، ودينية، وعنصرية، وعشائرية، وبذلك تكون قد حققت الفائقية للعدو الصهيوني في المنطقة، وإزالة كل تهديد ضده، وفي الوقت نفسه تأمين سيطرتها على هذه الكيانات الهزيلة بسهولة، واستنزاف واستثمار ثرواتها، وتسخير قدراتها الاقتصادية والنفطية، والعراق طبعاً كان من الدول العربية المهددة لهذا المخطط الخطير، فكان ولا بد من إضعافه مع السنين، وبالتالي القضاء على قدراته، وقوته، وإزاحة النظام الحاكم فيه" .

ولقد تلقف الصهاينة هذا المخطط والذي يتركز علي التقليل من أهمية الحضارة العربية، ومن دور العرب في التأريخ القريب والبعيد؛ حيث  أضافوا إسهامات أخري تشوه الشخصية العربية، والتاريخ العربي عندما زعموا أن السبب في أصل تجزئة العرب ليس من خلال تدخل الغرب للوقوف ضد كل محاولة وحدوية بالسلم وبالقوة لحماية الكيانات، لكن السبب وفقاً لما يدعون يندرج في طبيعة وتكوين الفرد العربي فهو صاحب فردية جامحة، لا يدين بالولاء لغير أسرته وطائفته، يقول الصهيوني "روفائيل باتاي" Rafael Batay : " إن الأمة العربية منذ أن خلقها الله مقسومة إلي يمنيين وقيسيين، وكل منهما مجزء إلي قبائل، وبطون، وأفخاذ، وعشائر" ويضيف (باتاي) إن السبب برأيه " في التناحر العربي بنظرة مفطورة علي الخصام والعدوان، فهو يكره أخاه، ويعتدي علي أبناء عمه، ويسلب جيرانه، وأن الله خلق العربي كارها للغرب". .

ويؤكد الكاتب الصهيوني "جرفاسي" Grévasse موقف الصهيونية من الوحدة العربية عبر الكشف عن موقفها من القومية العربية إذ يقول " القومية العربية بتمسكها بالوحدة العربية هي العقبة الرئيسية أمام السلام بين الدول العربية وإسرائيل .وإن الوحدة العربية لا تجد لها سندا في التاريخ العربي وأنها كانت الاستثناء لا القاعدة وما من شئ قسم الوطن العربي، مثل الإصرار علي توحيده".

وإزاء  ذلك أدركت الصهيونية بأن الاستقلال السياسي والاقتصادي للدول العربية يمثل خطورة في طريق الوحدة العربية، لذلك قامت الصهيونية و(إسرائيل) بالوقوف ضد حركة الاستقلال العربية، مما حدا بأحد السياسيين الصهاينة للتعبير بشكل صريح عن دور إسرائيل في تعزيز فكرة التجزئة في الوطن العربي، وفي ذلك يقول :" في الواقع إن إسرائيل هي التي تحمي وجود الأردن، وتدافع عنه ضد أخواتها العربيات، والأردن ما هي إلا دولة حاجز تحمي المملكة العربية السعودية، وإمارات الخليج من الغزو السوري- السوفيتي من الشمال والغرب، لأنه بعد الأردن يأتي دور السعودية وإن وجود وأمن دولة الحاجز العربية هذه مضمون لإسرائيل  .

ويؤكد الكاتب الصهيوني "شموئيل يعري" Shamuil Yaari الطرح السابق مؤشرا أهمية الدول الموالية لها للتصدي لحركة التحرر العربية وضرورة إسناد هذه الدول للإبقاء علي التجزئة في الوطن العربي، وفي ذلك يقول " إن إسرائيل ساهمت في إقامة استقرار في المنطقة التى تعتبر الدول الرجعية دعامتها، وترسيخ النفوذ الأمريكي، وطرد النفوذ السوفيتي، لقد خرج العرب رابحاً في عام 1967 لأن إسرائيل حطمت الحربة الناصرية.

ومن الملفت للنظر بالرغم من قدم أطروحات اليهود والصهاينة لتفتيت وتقويض الشعوب، والحكومات الواقفة ضدها التى خلقت بذلك إطاراً نظرياً وفكرياً لإسرائيل في تفتيت الدول العربية، إلا أن التنظيرات، والسياسات الغربية التجزيئية كانت تمثل عوناً وإرثاً لا يستهان به لدعم استراتيجية (إسرائيل) لتفتيت الوطن العربي لتوافق الطرفين في ضرورة إضعاف وإنهاك العرب من الداخل .

ولعل أبرز ما يميز تلك الاستراتيجية، طبيعتها المتواصلة غير المنقطعة، بالرغم من الظروف الاستثنائية ومن ضمنها وقوع الحروب مع العرب، وتأكيدا لصحة ما ورد ذكره يمكن الاستشهاد بأبرز الخطوط الرئيسية للسياسة الإسرائيلية عقب حرب 1973 والتي كانت ذات مضمون تفتيتي في كيانات هشة متجزئة، ثانياً تطويق المجتمع العربي، ثالثاً عزله عن محيطه الجغرافي، ورابعاً التحكم في هذا المجتمع بإرادة وهيمنة إسرائيلية .

إن إحدى النتائج التي يمكن استنتاجها بعد ذلك أن الصهيونية ومن ثم إسرائيل استحضرت الجذور الدينية والتاريخية، لتزاوجها مع توجهاتها التفتيتيه في الوقت الحاضر، حيث نتج تواصل في المنهج التفتيتي بين إرثهم الديني والتأريخي للتفتيت وتوجهاتهم التفتيتية في الوقت الحاضر .

والسؤال الآن ما الآداة التي استخدمتها إسرائيل في اللجوء إلي فكرة تفتيت دول الوطن العربي؟

كانت الآداة هي استراتيجية " إثارة الخلافات والنعرات الطائفية "؛ وإذا بحثنا عن الخلفية التاريخية في ذلك نجد أنه في أكتوبر سنة 1998 أصدر الكونجرس الأمريكي "قانون الحريات الدينية في العالم"، وهو القانون الذي مهد له، وسعي إلي إصداره أركان الأصولية الصهيونية – في الولايات المتحدة .وبهذا القانون – الذي صدر في المرحلة التي أطلقت أمريكا عليه "مرحلة العولمة" و" النظام العالمي الجديد"، والتي أعقبت سقوط الثنائية القطبية في النظام الدولي، وبسقوط وإنهيار المعسكر الشيوعي أواخر سنة 1990- وسعت أمريكا في هذه المرحلة إلي الانفراد بالنظام العالمي، وتهميش الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي.. معتبرة ذلك "نهاية التاريخ".. بهذا القانون –قانون الحريات الدينية في العالم – أعطت أمريكا نفسها حق مراقبة الحريات الدينية في العالم، وإصدار الأحكام الأمريكية علي الدول والأمم والحضارات.. بل وتوقيع العقوبات!.. أي حق اغتصاب الشرعية الدولية، وسلطان الأمم المتحدة، والمجلس الأممي لحقوق الإنسان.. وإحلال هذا القانون الأمريكي – الذي سنه الكونجرس الأمريكي- محل القانون الدولي .. وجعل الحكومة الأمريكية " الشرطي الدولي".. وجعل الكونجرس الأمريكي " المشرع للعالم " وليس للوطن الأمريكي فقط، كما هو حال كل برلمانات الدنيا!.. ومنذ ذلك التاريخ، دأبت الحكومة الأمريكية – بواسطة وزارة خارجيتها – علي إصدار التقارير السنوية ونصف السنوية حول الحريات الدينية في العالم، بناء علي المعلومات التي تجمعها السفارات الأمريكية .. والمنظمات الأمريكية .. ومنظمات المجتمع المدني التي تمولها أمريكا وبعض سفارات الدول الغربية .. والعملاء المتعاونون مع أمريكا .

إن هذا الاعتراف الأمريكي إنما يقوم شاهداً علي ممارسة أمريكا سياسة تفكيك النسيج الوطني والاجتماعي والثقافي والحضاري للوطن العربي، وذلك تحقيقا للهدف الأمريكي المعلن : " الفوضي الخلاقة" الرامية إلي تحويل المجتمعات العربية إلي طوائف، ليسهل اختراقه، ولتضعف مقاومته ومناعته.. ولتصبح الطائفية ثغرات تمكن النفوذ الخارجي من تفجير ألغامها – كما صنع الغزو الأمريكي بالعراق.

إنهم يريدون بهذا الاختراق لأمننا الاجتماعي، والتفكيك لنسيجنا الوطني حرمان الأمة من صلابة العمود الفقري العربي، الذي مثل- تاريخياً – مؤهلات الانتصار علي الصليبيين والتتار والغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة، والذي يمثل الضمانة لقيادة الأمة في نهضتها الحضارية المنشودة .. فتفكيك المجتمع العربي هو الهدف الذي تسعي إليه الولايات المتحدة وإسرائيل، فقد سبق لبرنارد لويس أن أعلن عن " ضرورة العمل علي تحويل المجتمعات العربية والإسلامية إلي " فسيفساء ورقية.. ومجتمعات موزاييك ".. ليتحقق الأمن والتفوق لإسرائيل علي جميع هذه المجتمعات " .

ولما كانت المنطقة العربية تتعرض لأعنف مرحلة من مراحل إعادة ترسيم المنطقة وتقسيمها أو بمعنى أدق "تفتيتها"، وفقاً للمخطط الذي وضعه برنارد لويس وبتكليف من الإدارة الأمريكية عام 1980، لتحويل المنطقة العربية إلى دويلات صغيرة يسهل السيطرة عليها، وضمان عدم تصديرها للموجات الإرهابية للغرب، وفق هذه الرؤية. ولما كان هدف الولايات المتحدة الأساسي من مشروع التقسيم والتفتيت هو استعمال شتي الطرق والوسائل لمنع قيام الوحدة العربية وإضعاف الأمة العربية، فالولايات المتحدة ومعها إسرائيل قد حاولت بشتي الطرق تضخيم مشكلة الأقليات الدينية والعرقية الموجودة في الوطن العربي واستغلالها في وجه المشروع الوحدوي العربي، عن طريق الأقليات في الأقطار العربية، وحضها علي التمرد والانفصال عن الأقطار العربية، تنفيذاً لتفتيت وتجزئة الوطن العربي. ومن وجهة النظر الأمريكية – الإسرائيلية، فإن العالم العربي تتنازعه الانقسامات الطائفية والعرقية والأثنية، ومن السهل اختراقه وإضعافه من خلال التآمر مع تلك الأقليات وتشجيعها علي التمرد وإقامة دويلات منفصلة عن الوطن العربي، لأن انتشار الدويلات التي تحكمها أقليات دينية وإثنية هي الوسيلة الرئيسية لإضعاف الوطن العربي .

ومن نافلة القول في البداية، تعريف الأقليات بأنها " جماعة من الأفراد يتميزون عن بقية أفراد المجتمع عرقياً أو دينياً أو لغويا"، كما عرفها البعض بأنها "مجموعة بشرية تختلف عن الأغلبية في واحد أو أكثر من المتغيرات التالية: الدين أو اللغة أو الثقافة أو السلالة" . وتعرف الأقلية من الناحية السياسية بأنها " جماعة تشترك في واحد أو أكثر من المقومات الثقافية أو الطبيعية أو عدد من المصالح التي تكرسها تنظيمات وأنماط خاصة للتفاعل وينشأ لدي أفرادها وعي بتميزهم في مواجهة الآخرين، نتيجة التمييز السياسي والاجتماعي والاقتصادي ضدهم، مما يؤكد تضامنهم ودعمهم"، وتعرف الأقليات في الموسوعة الأمريكية بأنهم " جماعة لها وضع اجتماعي داخل المجتمع أقل من وضع الجماعات المسيطرة في نفس المجتمع وتمتلك قدراً أقل من النفوذ والقوة وتمارس عدداً أقل من الحقوق مقارنة بالجماعة المسيطرة في المجتمع، وغالباً ما يحرم أفراد الأقليات من  الاستمتاع الكافي بحقوق مواطني الدرجة الأولي" .

ولا تكاد تخلو دولة من دول العالم أجمع من أن يكون شعبها مكوناً من أقليات عرقية أو طوائف دينية وأديان مختلفة أصولها وثقافتها، فالأقليات تمثل ظاهرة يشترك أفرادها في واحدة أو أكثر من مقومات اللغة أو العرق أو الدين أو الطائفة، وقد يشتركون في هذه العوامل كافة .والأقلية نتاج عمليتين: الأولي استقطاب كل من يشترك معها في تلك المقومات، والثانية استبعاد كل من يختلف معها فيها، كما أن تعدد الهويات : العربية والإسلامية والقطرية ودون القطرية، أثرت في تنازع الولاءات في الدول العربية وفي انتماءاتها . وتوزعت تلك الأقليات علي الأقليات اللغوية غير العربية، كالأكراد، والأرمن، والسريان، والآشوريين، والتركمان، والبربر، والنوبيين، وأقليات دينية غير إسلامية، كالكاثوليك، والأرثوذكس، والبروتستانت، والأقباط، واليهود. ويشكل العرب غالبية السكان في الوطن العربي، وتبلغ نسبتهم   88 %  من السكان. وأما البقية فإنهم من غير العرب علي الرغم من كونهم يتكلمون العربية كالبربر في المغرب العربي الذي يبلغ عددهم حوالي 5.5 % من مجمل السكان في الوطن العربي، و2.4 % من القبائل الزنجية في جنوب السودان، و2 % من الأكراد، و1 %  من اليهود، والبقية موزعة علي أقليات صغيرة من النوبيين، والإيرانيين، والتركمان، والشركس، والسريان. و91 % من سكان الوطن العربي من المسلمين ( منهم 84 % منهم من السنة)، 5 % من مجمل السكان العرب من المسيحيين، و2 % من الديانات القبلية الزنجية في جنوب السودان و1.9 % من اليهود .

وهنا أرادت الولايات المتحدة التسلل إلي تلك الأقليات، واستغلالها في مواجهة الدول العربية مدعية حق تلك الأقليات في تقرير مصيرها والانفصال عن الهوية والثقافة العربية، وإعادة تشكيل هويتها الخاصة انتصاراً للمنطق الصهيوني القائل بالتمايز التاريخي بين شعوب المنطقة .

ولهذا نجد الولايات المتحدة ومعها إسرائيل تسعي إلي إثارة الخلافات بين السنة والشيعة والأكراد في العراق، وبين السنة والعلويين في سوريا، والموارنة، والدروز، والسنة، والشيعة في لبنان، وبين الفلسطينيين والأردنيين في الأردن، والسنة والشيعة في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط في السعودية، والمسلمين والأقباط في مصر، والشمال المسلم والجنوب المسيحي والوثني في السودان، والعرب والبربر في الجزائر والمغرب .

وبما أن توحيد العرب هو النقيض لما تحاول الولايات المتحدة تحقيقه، فإنها تسعي دائما إلي إفشاله من خلال دعمها ومساندتها للأقليات في الوطن العربي لمنعها من الاندماج في المجتمعات العربية - الإسلامية. ولهذا فإن تفتيت الوطن العربي ومحو فكرة القومية العربية، والأمة العربية الواحدة، وضرب النظام العربي، هي من الأولويات الثابتة لدي الولايات المتحدة .

ولهذا فإن الولايات المتحدة تعتمد في استراتيجيتها علي إضعاف الدول العربية من خلال الوسائل التالية :

1- تفتيت الدول العربية من خلال إثارة النعرات الطائفية وتغذيتها داخل كل دولة عربية بما يحقق الأمن القومي لإسرائيل.

2- العمل علي توسيع الخلافات بين الأقطار العربية لكي تبدد قوتها العسكرية في الصراعات الإقليمية التي تسهم هي في خلقها ودعمها.

3- العمل علي منع قيام وحدة بين الأقطار العربية، والسعي إلي تمزيق المنطقة وتجزئتها بتحويلها إلي كيانات ضعيفة متقاتلة.

4- إنشاء حركات مؤيدة لـ"إسرائيل" تهدف إلي تفتيت الروابط الاجتماعية والقومية في المجتمعات العربية وخلق صراعات دينية بين المسلمين وبقية الطوائف من أجل تفتيت الشعب الواحد وتقسيمه.

5- تمزيق الدول العربية إلي مناطق مستقلة تسيطر عليها الطوائف المختلفة.

6- بما أن القومية العربية هي العدو الرئيسي لـ "إسرائيل"، فإن تجزئة وتقسيم وتدمير الأقطار العربية هو واجب وهدف إسرائيل الأول .

7- علي إسرائيل أن تقيم علاقات جيدة مع الأقليات الدينية (المسيحيين) والعرقية (الأكراد) والاثنية (البربر)، وتحريضها علي العمل معها ضد العرب تصل إلي حد الانفصال وتشكيل كيانات منفصلة .

8- من أجل القضاء علي التفوق السكاني العربي والقوة العربية، لا بد من تفتيت الأقطار العربية لإضعافها وإبقائها عاجزة عن مقاومة الوجود الإسرائيلي .

9- التركيز الإسرائيلي علي أن منطقة الشرق الأوسط لا تضم شعباً واحداً، بل عدة شعوب مختلفة، والتأكيد علي هوية الشرق أوسطية بديلاً للهوية العربية لشعوب الشرق الأوسط...وللحديث بقية!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم