آراء

المرتزقة الجدد والمخطط الأمريكي لتفتيت العراق (3)

محمود محمد علي"رامسفيلد وبزوغ  البلاك ووتر"

نعود ونكمل حديثنا عن المخطط الأمريكي لتفتيت أرض الرافدين، وفي هذا نقول: عانت البشرية لفترات طويلة من ويلات الحروب التي خلفت وراءها العديد من المآسي الإنسانية بسبب فظاعتها أين كانت الدول تعتبر فيها النصر غايتها المتوخاة دون النظر إلى أسمى وأعظم غاية وهي تحقيق إنسانية الإنسان في هذه الحروب. ولعّل ما تبحث عنه أية دولة وتحرص على تحقيقه هو المحافظة قدر المستطاع على نقاوة الشعور الوطني في الالتزام بالأوامر العسكرية، وأن يكون جيشها من مواطنيها، لكن في الواقع توجد بعض الدول تلجأ في حروبها الاستخدام أشخاص ليسوا من مواطنيها كمقاتلين في صفوف جيوشها يدعون بالمرتزقة لخوض غمار الحرب حيث يشاركون مشاركة فعلية ومباشرة في الأعمال العدائية ويتقاضون مقابل ذلك أثمان باهظة .

وتعد تجربة العراق مع شركات الأمن الدولية أو شركات الحماية الدولية من أهم التجارب، وهي المحك الأساسي لعمل هذه الشركات التي يتوقف عليها مستقبل هذا العمل غير المشروع قانونيا وإنسانيا أيضا كما تم بيانه سابقا، فنجاح هذه التجربة تؤدي إلي إزدهار هذه الشركات، أما فشلها فسوف يؤدي إلي إعادة التفكير في جدوي هذه الشركات وإعادة تقييمها من حيث الوجود والمستقبل، وقد تبني هذه الشركات منذ البداية ديك شيني نائب الرئيس الأمريكي .

كان ديك تشيني ـ أقرب حلفاء رامسفيلد ـ وزيرا للدفاع وكان بين كل عشرة عسكريين منتشرين في منطقة تلك الحرب يوجد فرد واحد جرى استخدامه بوصفه متعاقدا من القطاع الخاص. ومع ذلك كان تشيني عاقدا العزم على زيادة هذا الواحد من عشرة ـ أو هذه العشرة في المئة إلى نسب أعلى بكثير. وهكذا أصدر تشيني أوامره بإجراء دراسة تجيب على سؤال محدد هو: كيف السبيل إلى خصخصة البيروقراطية العسكرية؟ وقد أفادت شركة هالبيرتون التي ترأسها تشيني فيما بعد من هذا الاتجاه، وسرعان ما خلقت نشاطا أو فلنقل صناعة تجعلها تخدم الجيش الأميركي خارج حدود الولايات المتحدة كي تقوم بعمليات عسكرية، فيما وراء البحار مقابل أرباح أكثر من طائلة. وهكذا فكلما كانت واشنطن تتوسع في أنشطتها العسكرية في الخارج، كانت أرباح الشركة المذكورة تزيد وتتراكم، وكان ذلك خلال ولاية الرئيس بيل كلينتون؛ حيث جنت هالبيرتون أرباحا طائلة بفضل العقود التي مارست بموجبها أنشطتها العسكرية في عمليات صراع البلقان خلال سنوات التسعينات .

وفي إطار هذا الاتجاه إلى الخصخصة، ازدهرت شركات خاصة أخرى كان يديرها كبار العسكريين المتقاعدين من خدمة الجيش الأمريكي، ومنها شركة تعاقدت على تدريب الجيش الكرواتي خلال حرب الانفصال عن يوغسلافيا السابقة . وهذا العقد العسكري (الخصوصي) هو الذي قلَب الميزان لصالح الانفصال في نهاية المطاف، وهو أيضا نفس العقد ـ يضيف مؤلف كتابنا ـ الذي أصبح أقرب إلى النموذج الذي نسجوا على منواله فكرة استخدام القطاع العسكري الخاص في خوض ما وصفوه بأنه (الحرب الشاملة على الإرهاب) وهو الوصف الذي اعتمدته جماعة المحافظين الجدد في أواخر حقبة كلينتون وكان على قمتها الفرسان الثلاثة: تشيني ورامسفيلد وكريستول، الكاتب الناطق باسمهم وخاصة في إطار المشروع الذي رفعوا عليه لافتة (قرن أميركي جديد) وهو نفس المشروع الذي مارسوا بواسطته الضغط على الرئيس كلينتون شخصيا لكي يرفع في آخر ولايته شعار تغيير النظام في العراق، ولكي يساير المبدأ الذي بشّر به المحافظون الجدد مع نهاية القرن العشرين وتجسده عبارة «سياسة تجمع بين القوة العسكرية وبين الوضوح الأخلاقي». وقبيل أن تسيطر جماعة المحافظين الجدد على المراكز المحورية في إدارة بوش الابن أصدروا في سبتمبر عام ٢٠٠٠ تقريرا يحمل العنوان التالي: إعادة بناء دفاعات أميركا: الاستراتيجية: القوات والموارد من أجل قرن جديد .

وبعد أن دخل بوش إلى المكتب الرئاسي، دخلت إلى غرف البنتاغون ثلّة من غلاة المحافظين ما بين رامسفيلد إلى وولفويتز إلى زلماي خليل زاد أو غيرهم من الأسماء التي حرص المؤلف على الربط بينها وبين المراكز التي كانت تشغلها في كبرى الشركات الأميركية المنخرطة في صناعات الأسلحة والطيران وما إليها .وهنا يعلق المؤلف ليضيف ما يلي: هذه القيادة المدنية الجديدة في البنتاغون جاءت إلى مواقع السلطة وفي جعبتها هدفان رئيسيان: تغيير النظم الحاكمة في الدول ذات الأهمية الاستراتيجية (بالنسبة لأميركا طبعا) وتنفيذ أخطر عمليات الخصخصة واستخدام الأطراف الخارجة عن المؤسسة العسكرية الرسمية على نحو لم يسبق له مثيل في التاريخ العسكري للولايات المتحدة، وهو ما يعادل «ثورة» حدثت في الشؤون العسكرية .

وبعد الحادي عشر من سبتمبر مضت هذه الحملة في طريقها بغير توقف على الإطلاق . من كابول إلى بغداد كانت البداية ـ كما هو معروف ـ هي الحملة على أفغانستان. وقد جاءت الهزيمة السريعة لقوات طالبان لتشجع رامسفيلد ومؤيديه على بدء التخطيط لمحور الحملة (الصليبية كما يصفها كتابنا) في مفهوم المحافظين الجدد، وهذا المحور كان يحمل اسما واحدا وهو: العراق . ومنذ بداية الحشد العسكري تمهيدا لحرب العراق شرع البنتاغون في تجهيز وإبرام العقود مع دوائر ومؤسسات وأفراد القطاع الخاص ليصبحوا جزءا لا يتجزأ من عملية العراق. وحتى عندما كانت واشنطن تعطي الانطباع الظاهري بفسح المجال للدبلوماسية، كانت شركة هالبيرتون تواصل استعداداتها للمشاركة العسكرية " خلف أبواب مغلقة "، وهنا يقول سكاهيل:" وعندما دارت عجلات الدبابات الأميركية صوب العاصمة بغداد في مارس عام ٢٠٠٣ كانت تضم في ركابها أكبر جيش من المتعاقدين الخاصين على نحو لم تشهده أي حرب سبقت في التاريخ. ومع نهاية رامسفيلد في منصب وزير الدفاع كان عدد هؤلاء المتعاقدين يقدر في العراق بنحو ١٠٠ ألف فرد أو ما يكاد يضاهي حجم القوات العسكرية الرسمية من جنود جيش الولايات المتحدة هناك . وربما قدم رامسفيلد خدمة العمر قبيل تخليه عن منصبه الخطير حين أصدر ما وصفه بأنه (خارطة الطريق من أجل التغيير) وبمقتضاها صنف قوام الجيش الأميركي بأنه يجمع بين أفراد الجيش العامل والاحتياطي والعاملين المدنيين والمتعاقدين ومنهم جميعا تتشكل القوة الإجمالية التي يكلف أفرادها بالعمل في آلاف من المواقع في طول العالم وعرضه، حيث ينفذون تشكيلة متنوعة من الواجبات من أجل تحقيق المهام الجوهرية الدقيقة .

وتحاول الولايات المتحدة أن تصور للعالم أن أفراد هذه الشركة مقاولون أو متعاقدون تقتصر مهامهم على أعمال الحراسة وتأمين حماية المنشآت، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما فالواقع أن هؤلاء يمارسون مهام قتالية ضد المقاومة العراقية إضافة إلى ارتكابهم جرائم ضد المدنيين العراقيين، علاوة علي أن هذه الشركة كانت تمتلك أسطول طائرات هيلكوبتر  وتعقد اتفاقيات مع بعض العشائر المحلية بالعراق .

وتشير الإحصائيات إلى وجود أكثر من 20 ألف مرتزق في العراق عام 2004 أصبحوا (100) ألف عام 2006م كما أن وجودهم الآن أصبح واضحاً وهم يتجولون في عربات مدرعة وكثير منهم مدججون بأسلحة للقتال بالغة التقدم وقد شكلت بعض الشركات    العسكرية قوات للرد السريع ووحدات مخابرات خاصة بها تصدر يومياً تقاريرها الاستخباراتية التي تعتمد فيها على خريطة تواجدها في المناطق الساخنة وهذه في حقيقتها مهام تناط بالجيوش النظامية وليس بالشركات العسكرية وعناصرها مما يزيل الحدود بين ما هو مدني وما هو حربي في عمل هذه الشركات وهناك محاولات أميركية لتنظيم أكبر جيش خاص في العالم يضم هؤلاء وفرق إنقاذ خاصة ووحدات استخباراتية .

وعمل هذه الشركات مع قوات الاحتلال في العراق مستور بالتعتيم الإعلامي من حيث المهام والعدد الحقيقي لخسائرها في العراق وأفراد هذه الشركات لا يرتدون الزى العسكري مما يجعلهم خارج الإحصائيات الرسمية التي يتولى البنتاغون الإعلان عنها وتحتل الشركات العسكرية الخاصة المرتبة الثالثة في القوات التي تدعم الجهود العسكرية الأمريكية والبريطانية في العراق ويبلغ الأجر اليومي الذي يتلقاه الفرد الواحد(1500) دولار يومياً .

وعلى الرغم من ذلك إلا انه حسب تقديرات غربية فان جيوش هذه الشركات بات الآن اكبر جيش اجتبى بالعراق بعد القوات الأمريكية وأصبح يفوق مجموع كافة القوات الأجنبية الأخرى غير الأمريكية بالعراق، وقد كشفت صحيفة "نيويورك تيمز" الأمريكية عن أن الولايات المتحدة تعتمد الآن على الشركات العسكرية لتنفيذ مهام حيوية بالعراق بصورة هائلة تفوق ما فعلته في أي حرب أخرى على مدى التاريخ العسكري الأمريكي كله. وأضافت أن البنتاجون يعتمد الآن على هذه الشركات لتوفير من تطلق عليهم الصحيفة (بجنود الظل) لتنفيذ أعمال حيوية كانت تكلف بها الجيش الأمريكي سابقا،  وأشارت الصحيفة إلى أن هؤلاء من جميع أنحاء العالم فمنهم جنود كوماندوز عملوا سابقا في القوات البحرية في نورث كارولينا ومنهم عسكريون من نيبال وجنود خدموا نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا وقد أتوا بالآلاف إلى العراق وهناك العشرات من شركات الأمن الخاصة التي أقامت معارض لسلعتها في بغداد والأكثر أجرا بين هؤلاء هم الذين خدموا في وحدات القوات الخاصة المرموقة في العالم .

ومن الشركات الأمنية المرتزقة شركة بلاك ووتر، وهذه الشركة تعد من أكبر وأخطر شركات المرتزقة في العالم، نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية ضمن القوانين الأمريكية، التي لا تمانع من بناء شركات عسكرية خاصة تسمي (شركات أمنية)، تقوم بتجنيد عسكريين قدامي سواء أكانوا أمريكيين أو عسكريين من من مختلف أنحاء العالم . نشأت الشركة باسم (بلاك ووتر أمريكا) للتدريب في السادس والعشرين من شهر يناير عام 1996 في (نورث كارولينا)، بالقرب من مستنقع اسمه (الماء الأسود) ومنه أخذت الشركة اسمها، حيث تضمنت وثيقة التأسيس أنها شركة متخصصة (في الدعم العسكري للأجهزة المنفذة للقانون والأمن وحفظ السلام وعمليات حفظ الاستقرار) .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل

...........................

المراجع

1- أحمد أنور صيتان العزام: دور الشركات الأمنية المتعددة الجنسية في الحروب والصراعات العسكرية في الوطن العربي (2003- 2015): دراسة في حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب  جامعة اليرموك، الأردن، 2016.

2- نسمة حسين: المرتزقة في القانون الدولي الإنساني، مجلة العلوم الانسانية –الجزائر، العدد 46، 2016.

3- نمر محمد الشهوان: مشكلة المرتزقة في النزعات المسلحة، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الحقوق، جامعة الشرق الأوسط، 2012.

4- جيرمي سكاهيل: بلاكووتر أخطر منظمة سرية في العالم، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، لبنان، 2010،.

5-  صحيفة نيويورك تايمز في 20/4/2004م.

6- د. السيد مصطفي أحمد أبو الخير: الجوانب القانونية والسياسية للشركات العسكرية   الدولية الخاصة، دراسة نشرت في مجلة شئون خليجية العدد(52) يناير2008م.

7- أحمد أنور صيتان العزام: دور الشركات الأمنية المتعددة الجنسية في الحروب والصراعات العسكرية في الوطن العربي (2003- 2015):دراسة في حالة العراق، رسالة ماجستير غير منشورة بكلية الآداب – جامعة اليرموك، الأردن، 2016.

8- محمود جميل الجندي: مسؤولية الشركات الأمنية عن انتهاك حقوق الإنسان: بلاك ووتر نموذجا، المستقبل العربي، المجلد 36، العدد 422، بيروت، لبنان، 2014.

 

 

في المثقف اليوم