آراء

الاحتجاجات الأمريكية وتسيس الخطاب الإعلامي

محمود محمد عليعقب مقتل جورج فلويد عمد الديمقراطيون في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى إتباع مختلف السبل لزعزعة استقرار حكم الرئيس ترامب لتحريك الشارع، من خلال وسائل الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، من أجل التأثير على الرأي العام الأمريكي، حيث وجدنا أن من أهم الأساليب التي اتبعها الديمقراطيون، هو تحريك التي اتبعتها من خلال مساندتهم لشريحة واسعة من الشباب الأمريكي ذوي الأصول الأفريقية، من خلال تدريبهم على مفاهيم الديمقراطية، بهدف استثمار هؤلاء الشباب الذين وجدوا في سياسة الديمقراطيين الناعمة ما فقدوه في ظل حكم ترامب، وتم دعوة العديد من الناشطين إلى للنزول للشارع والاحتجاج ضد ترامب في عدد كبير من المدن الأمريكية من أجل اسقاطه في الانتخابات المقبلة في الرابع من نوفمبر المقبل .

وقد اتضح ذلك من خلال الخطاب الإعلامي الموجهة ضد ترامب داخلياً وخارجياً، ويمكن أن نعرض لهذا الخطاب بشئ من التفصيل، وذلك من خلال المبالغة في شرح تفاصيل مقتل فلويد وتسخين الأرضية، وذلك علي النحو التالي من خلال بعض وسائل الإعلام في الداخل والخارج :

أولاً: لتسع دقائق كاملة وتحديداً لثماني دقائق وست وأربعين ثانية ظلت ركبة الشرطي الأبيض علي رقبة رجل أسود، يتوسل إليه بعبارة واحدة، أصبحت خلال ساعات صرخة وشعاراً "أرجوك لا أستطيع أن أتنفس".. جورج فلويد العملاق اللطيف كما سماه أصدقائه.. قُتل أثناء القبض عليه في اشتباه بمحاولة صرف عملة مزورة، عشرون دولاراً ومجرد اشتباه، كلفه حياته.. مقتل فلويد أعاد للأذهان حوادث متشابهة برتوش مختلفة قبل عدة أشهر.. قبل عام أو عامين.. أربعة ويزيد.. مقتل فلويد كانت شرارة أشعلت الحريق ليس مجازاً هذه المرة.. مدن أمريكية كثيرة انطلق فيها الغضب وأعمال الشغب.. حرق سيارات ومحال.. ومواجهات حامية ما بين الشرطة والمتظاهرين.. الرئيس الأمريكي ترامب أُتهم اليسار المتطرف ومن سماهم بالفوضويين واللصوص.. هل ترون الولايات المتحدة بلداً للحريات؟ أم ساحة للعنصرية؟

ثانيا: أمريكا ليست ساحة معركة ومواطنون ليسوا العدو.. موقف نشره رئيس الأركان السابق الجنرال مارتن ديمبسي في تغريدة شكلت جزء من الجدل الذي أثارته طريقة ترامب في التعاطي مع الاحتجاجات الجارية في بلاده ضد مقتل جورج فلويد.. طريقة تعاظم فيها تعويل الرئيس الأمريكي علي دور قوات المن والجيش ما أثار انتقادات واسعة دعت قيادات الجيش للنأي بنفسها عن مجابهة الشارع الغاضب، حتي أن وزير الدفاع اتخذ مسافة من صورة جمعته بترامب معلنا رفضه الجيش لمجابهة الشارع الغاضب.. تطورات تزيد من الأعباء علي كاهل ترامب المعني بتشريعات جديدة تهدف لإعادة النظر في طريقة عمل الشرطة وتعزز إجراءات التحقيق معها..

ثالثاً:  "لا أستطيع أن أتنفس" ,, ما بعد استغاثة جورج  فلويد المقتول علي يد شرطي.. أحداث تجثم علي صدر الرئيس الأمريكي ترامب.. تستمر المظاهرات السلمية منها والغاضبة ضد العنصرية والرئيس المتهم بتكريسها.. احتجاجات عارمة تصيب الليل بالنهار في أكثر من مدينة أمريكية تطالب بالعدالة.. من مينيابوليس مسرج الجريمة التي هزت الولايات المتحدة إلي لوس أنجلوس ونيويورك وواشنطن وغيرها من المدن صدح المحتجون باسم فلويد ونددوا بممارسات الشرطة وسياسة ترامب المغضوب عليه في كل الحالات والآن أكثر..  كانوا ما لا يقل عن أكثر من 60 ألف في يوست التي نشأ فيها فلويد.. تحدي بعضهم قرار حظر التجوال في نيويورك وواشنطن وهتفوا لرحيل الإدارة الحالية.. ردت عنه الشرطة بالقوة.. ضربت واعتقلت وسحلت متظاهرين في صور مهينة بقيم الديمقراطية بالدولة العظمي..

رابعاً : مظاهر القوة هذه جاءت بعد تهديد الرئيس ترامب باستخدام القوة العسكرية لضبط الأمن.. تهديد كلفه  انتقادات لاذعة  من خصومه الديمقراطيين وحكام بعض الولايات.. وعند ترامب ليتقاسمه وزير الدفاع "مارك اسبر" الذي نأي بنفسه عن هذه الصورة الذي تجمعه بالرئيس وأعلن رفضه نشر الجيش.. وتعهد اسبر بفتح  تحقيق في قمع المحتجين عندما ذهب ترامب مشياً علي الأقدام إلي الكنيسة، نافياً علاقة الحرس الوطني لتلك الأحداث.. هل الولايات المتحدة مقبلة علي تشريعات جديدة طال انتظارها للحد من ممارسات الشرطة؟.. يصفها منتقدوها بالعنف والعنصرية والقمعية.. وعدت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي باتخاذ قرارات قريبة بشأن تشريعات تتعلق بتصرفات رجال الشرطة، تراجع طبيعة عملهم وتعزز إجراءات التحقيق معهم، مؤكدة أن مقتل فلويد ليس حادثاً فردياً، بل نهجاً متبعاً.. استناداً إلي رئيس الأقلية الديمقراطية في مجلس الشيوخ "ماكس شومر" يسعي الديمقراطيون لسن قراراً يدين تصرفات الرئيس الذي أمر الشرطة الفيدرالية باستخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي ضد أمريكيين.. ممثلوا اتحاد الولايات الأمريكية من الديمقراطيين في سياق شارع محتقن وخلال السباق الانتخابي لا يريد الجمهوريون خسارة المزيد من الأوراق ومن الآن بعيدا عن واشنطن تقترب سلطات مينيسوتا من المتظاهرين استجابة إلي طلباتهم أعلنت الولايات فتح تحقيق بشأن الشرطة فيها.. سينظر التحقيق في احتمال حصول ممارسات تمييزية منظمة علي مدي السنوات العشر الماضية.. الخميس هو يوم حفل تأبين جورج فلويد.. تفشي عدوي الاحتجاجات في الولايات المتحدة الأمريكية تقول إن إدارة  الرئيس ترامب لن تتنفس الصعداء قريباً..

خامساً: قتلي واعتقالات وهتافات غاضبة وإعلان طوارئ واستدعاء للحرس الوطني وتلويح بجاهزية الجيش للانتشار ومظاهرات عارمة في أكثر من 30 مدينة.. ما الذي يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية؟ في الخليفة تظل صورة مقتل جورج فلويد الأمريكي من أصل أفريقي علي يد الشرطة في مدينة مينيابوليس يحتج  المتظاهرون علي ما يقولون إنها عنصرية ممنهجة ومتحزرة في أمريكا ضد ذوي البشرة السمراء.. دونالد ترامب يشعل الجدل واصفا المتظاهرين بقطاع الطرق والجماعات المنظمة.. تبقي الحقيقة أن أكثر من 1000 شخص قتلوا برصاص الشرطة في الولايات المتحدة العام الماضي وفقا لإحصاء واشنطن بوست، ويمثل السود غالبية القتلي ولا تصدر أحكام علي المسؤولين إلا نادراً.. رقعة الغضب تتسع إلي نحو ثلاثين مدينة أمريكية.. هنا في نيويورك كما في مينيابوليس وواشنطن ولوس أنجلوس وغيرها.. يتظاهر الأمريكيون احتجاجاً علي مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي " جورج فلويد" خنقاً تحت ركبة ضابط للشرطة، وقد رفعوا شعارات منددة بالاستخدام المفرط للعنف من قبل والشرطة، وبما تقوله منظمات الدفاع عن الحقوق المدنية إنه ميز عنصري يستهدف الأقليات الأمريكية بطريقة ممنهجة.. لم تسلم المظاهرات من أعمال العنف والتخريب فتحول أغلبها إلي مواجهات دامية مع قوات الحرس الوطني التي انتشرت في 6 ولايات، وخلفت قتلي وجرحي، وموجة اعتقالات واسعة..

سادساً : الشرارة  الأولي تفجرت في مينيابوليس أكثر الولايات استقراراً ورفاهية كما تُصنف.. جورج فلويد البالغ من العمر 46 عاما يُعتقل بتهمة استخدامه ورقة مالية مزيفة  من فئة العشرين دولارا.. لا أستطيع أن أتنفس يصرخ فلويد إلي أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.. لكن المأساة جديدة قديمة.. إيلي جارنر مواطن امريكي من أصل أفريقي يطلق الصرخة ذاتها قبل أن يموت خلال عملية اعتقاله.. كان ذلك في نيويورك عام 2014.. لماذا تستمر الممارسات العنيفة علي يد قوات الأمن، وضد الأقليات العرقية تحديداً.. يتساءل نشطاء حقوق الإنسان.. ولماذا فشلت الإصلاحات التي أوصت بها السلطات الفيدرالية عقب مقتل جارنر ووفاة مايكل برون أيضا في هندرسون ميزوري في أغسطس من العام ذاته.. لكن الانتهاكات العنصرية قد لا تفسر وحدها البعد الخطير الذي تأخذه الاحتجاجات علي مقتل فلويد.. وهنا يرجح مراقبون أن يكون تفشي جائحة كورونا قد أسهم في تأجيج مشاعر عدم المساواة في صفوف الأقليات العرقية علي المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فالإحصائيات تقول إن إجراءات التسريح من العمل استهدفت بالخصوص الأمريكيين الأفارقة منذ بدء الجائحة، كما سُجلت في صفوفهم نسب وفيات بفيروس كورونا، هي ثلاثة أضعاف النسب المسجلة لدي بقية المجموعات العرقية، والسبب حسب الخبراء، تفشي أمراض السمنة والسكر واستشراء الفقر في صفوفهم.. حقائق قد يصعب تجاهلها بعد اليوم ؛ خاصة وقد فرض موت فلويد نفسه علي انتخابات نوفمبر القادم.. واتهم الديمقراطيون الرئيس ترامب الذي رثي فلويد اتهموه بتأجيج الأزمة مستدلين بتغريدة نشرها علي تويتر جاء فيها : حين يبدا النهب.. يبدأ إطلاق النار ".. أبعد من ذلك ألقي الحادث أيضا بظلاله علي صورة الولايات المتحدة في بعض الدول الغربية والإفريقية خاصة بعد إعلان الاتحاد الأفريقي وعدداً من الزعماء الأفارقة رفضهم لما وصفوه بيان الاتحاد بالممارسات العنصرية المستمرة ضد الأمريكيين من ذوي البشرة السمراء، فاضطرت بعض السفارات الأمريكية إلي إصدار بيانات بأسف وانزعاج مما وقع في خطوة وصفها المراقبون بالسابقة.

سابعا: إنني لا أستطيع التنفس.. عبارة طوي بها جورج فلويد حياته مترنحا تحت ضغط ركبة تابعة للشرطة الأمريكية لتنطلق بعدها احتجاجات تستمر في عشرات المدن، مضيفة أبعاداً أكبر علي حادثة يقول الغاضبون إنها حلقة اخري في مسلسل لم ينتهي من تجاوزات بحق السود والأقليات في الولايات المتحدة.. احتجاجات اختار الرئيس الأمريكي أن يرفع في وجهها الاتهامات بالتخريب والإرهاب، وعصا غليظة تجدها قوات الحرس وأخري للجيش، بلوح باستدعائها.. خطاب تلفقته انتقادات خاصة من قبل قيادت ديمقراطية تعتزم التحرك بمشروع قرارا ضد ترامب الذي قالت إنه يريد الظهور بمظهر الرجل القوي، حتي لو استدعي الأمر المخاطرة الزج بالجيش في مواجهة جماهير محقة في غضبها حتي ولو شابته أعمال غير مشروعه.. علي مفترق طرق شائكة ومتشابكة، تبدو الدولة الأقوي في العالم.. أسبوع كامل مر ولا يزال مشهد اللحظات الأخيرة في حياة الأمريكي جورج فلويد يلقي بظلاله الثقيلة علي البلاد.. إذا لم تحل قرارات حظر التجوال في عشرات المدن وانتشار أكثر من 70 ألفا من أفراد الحرس الوطني دون خروج المزيد من الأمريكيين إلي الشوارع استنكارا لمقتل فلويد وللمطالبة بمحاسبة قتلته، وبينما تظاهر المحتجون بشكل سلمي في العديد من المدن الأمريكية، اندلعت أعمال عنف واضطرابات في نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغوا، كما وردت أنباء عن إطلاق نار علي رجال الشرطة في لاس فيغاس وتانكنيس.. في حين بدا الخطاب الأول للرئيس ترامب منذ اندلاع الاحتجاجات وكأنه جاء بنتائج عكسية، رغم تأكيده علي حق الاحتجاج السلمي، ففضلا عن تزامن خطابه في استخدام الشرطة للرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين بمحيط البيت الأبيض فإن تلوبحه بالزج بالجيش لفرض الأمن وإنهاء الاحتجاجات بالقوة وتحميله لما أسماه بـ" الإرهاب المحلي " مسؤولية أعمال النهب والتخريب تسبب في إطلاق موجة من الانتقادات الحادة له، وصلت حدتها بتمزيق نسيج المجتمع الأمريكي وتعميق الشق والانقسام داخل أطيافه ؛ لا سيما حين زار بعدها كنيسة أفريقية قبالة البيت الأبيض تعرض لحريق محدود خلال الاحتجاجات ورفع الإنجيل أمام عدسات الإعلام.. صورة حرص منافس ترامب في سباق الرئاسة المنتظر الديمقرايطي " جون بايدن" علي توظيفه في خطابه اللافت علي أحداث الساعة في الولايات المتحدة؛ خصوصا حين وصف كلمات ترامب بأنها لا تليق برئيس بل بشرطي عنصري..

ثامناً : كما لم بفوت بايدن فرصة ترسيخ صورته أمام الشارع الأمريكي،  وكأنه النقيض لمنافسه حين شدد علي قيم حرية الرأي والتعبير وعدم السماح لأي رئيس بإسكاتنا، وعلي وجود حرب بين المبادئ التي تؤمن بالمساواة وتلك التي تؤمن بالعنصرية.. الانتقادات لترامب داخل المعسكر الديمقراطي لم تقتصر علي بايدن، فقد سبقهم بذلك زعيمهم في مجلس الشيوخ "تشاك شومر" الذي اتهم ترامب بإطلاق قنابل الغاز علي المحتجين السلميين ليتسني له التقاط صورة والظهور كرجل قوي، كما أصدر شومر بيانا مشتركا مع رئيسة مجلس النواب الديمقراطية نانسي بيلوسي قالا فيه: " إن الأمة الأمريكية في حاجة إلي زعامة حقيقة في هذه الظروف الدقيقة.. واتهما ترامب بمواصلة تعميق الفُرقة والانقسام والكراهية والعنف في خطوة تتسم بالجبن والضعف والخطورة علي حد وصفهما.. وفي ظل هذا المناخ السياسي المتوتر تبقي التساؤلات حا    ضرة عن الخطوات التي يمكن أن تُعيد  الهدوء للشارع.. فما يعتبره الغاضبون وحشية من قبل الشرطة ليست إلا الجزء الظاهر في نظر الكثيرين من جبل جليدي يخفي تحته الكثير من مظاهر التهميش وعدم المساواة الممنهجة والعنصرية في حق الأقليات.. وللحديث بقية في مقبل الأيام..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

.............................

المراجع

1- قناة BBC  نيوز: مقتل جورج فلويد: هل ترون أمريكا بلدا للحريات أم ساحة للعنصرية؟ | نقطة حوار (نقطة حوار)

قناة الجزيرة

2- قناة الجزيرة : الحصاد - الاحتجاجات الأمريكية.. ترمب يلوح بالجيش  (يوتيوب)

3- قناة الجزيرة :  الحصاد- ما بعد مقتل فلويد.. احتجاجات دموية بأميركا (يوتيوب)

4-  قناة فوكس الأمريكية : احتجاجات أمريكية (يوتيوب)

 

 

في المثقف اليوم