آراء

الاتجاه المعاكس بين النقد والنقض (2)

محمود محمد عليلا شك في أن التلفاز يعد من أهم وسائل الاتصال الجماهيري بما هو مؤثر مباشر تأثيراً سريعا ًفي نفس وعقل المتلقي؛ ومن ثم، فهو حقاً وسيلة إعلامية قادرة علي تشكيل الرأي العام وبنائه، وذلك إذا ما اتبع فيه طرق إعلامية مدروسة، مستقلة، تعتمد حرية رأي، أو تعدد آراء ومواقف، دونما فبركة موجهة خيوطها من خلف ستارٍ ما.

وفي المقال السابق كنا قد تناولنا برنامج الاتجاه المعاكس باعتباره أنموذجاً للبرامج السباقة، والمتدرجة في سلم التحسيس الإعلامي، وجس النبض في كثير من القضايا التي تشغل بال الرأي العام العربي الراهن، وهو أيضاً نموذج محتذىً من قبل قنوات فضائية عربية أخرى تنسج على منواله. هذا التحليل مشفوع بالنقد قبل الوصول إلى خلاصة عامة تحاول أن تعكس رأي كاتبه.

وهنا نعود ونكمل حديثنا السابق فنقول : إن برنامج الاتجاه المعاكس الذي استحق وبجداره تصنيفه كمكبِ للنفايات الفكري، يفتات عليها المذيع الدكتاتوري فيصل القاسم، وهو بريطاني الجنسية، مطرود من رحمة سوريا . علاوة علي أن طريقة تناوله في برنامجه الاسبوعي الشهير " الاتجاه المعاكس " الذي تبثه قناة الجزيرة , رغم أن فيصل القاسم الاعلامي على مستوى عالي جداً من المعرفة في هذا الموضوع الا ان طريقة الطرح هي التي تساهم في تشويه الصورة ‘ فإذا سمعته يتكلم مثلاً عن العدل في الدول الغربية وعلاقتها بدولنا غالبا ما تفهم أن الظلم يسود هذه الدول، لأنها ظالمة في تعاملها مع دولنا، ولا يعلق في ذهنك قناعة، ولو بسيطة بأن هذه الدول يسود العدل بين أبنائها أفضل مما يسود في مجتمعاتنا ألف مرة وكذا الديمقراطية وكذا الحرية وكذا حقوق الانسان.

ولذلك وجدنا الكثيرين من الباحثين والمفكرين يتهمون الدكتور فيصل القاسم في مقالات عديدة بأنه مصاب بعقدة النقص، وهي تسيطر علي صاحبها فتجعله يقوم بأفعال غير سوية دون أن يدري إنها كذلك، ومن صفات تلك العقدة إن صاحبها يبحث عن إشهار نفسه بشتي الوسائل حتي ولو وصل به الأمر إلي أن يداس بالحذاء شرط أن يكون ذلك أمام شاشات التلفزة ليشاهده أكبر عدد من الناس وذلك حسب قول فايز الفايز في مقاله في صحيفة عمون بعنوان عندما يكون برنامج الاتجاه المعاكس مكبا للنفايات الفكرية.. تحول البرنامج  إلى ما يشبه برامج المصارعة التي يترقبها البعض بتوقع مسبق لانتهائها بالعراك.. البرنامج أثار علامات استفهام حول الرسائل التي يريد تمريرها إلى المشاهد العربي، الذي يتسمر مشدوهاً أمام أصوات السجالات الصاخبة التي تنتهي غالباً بالمشاجرات بين المتحاورين.. لقد تحول البرنامج  إلى ما يشبه برامج المصارعة التي يترقبها البعض بتوقع مسبق لانتهائها بالعراك، وهذا ما تفعله صفحات التواصل الاجتماعي.

وأود أن أتساءل: إلى أي مدى يساهم ''الاتجاه المعاكس'' في تعزيز ثقافة التسامح وتقبل الآخر، ومحاولة فهم الملابسات التي دعت الآخر لاتخاذ موقفه المخالف لنا من خلال القاعدة الشهيرة: ضع نفسك مكان الطرف الآخر؟.. وإلى أي مدى يساهم البرنامج الأشهر في العالم العربي في التأسيس لحوارية سياسية، وثقافية، واجتماعية عربية تساهم في حلحلة الركود التاريخي للعرب بعيداً عن التشنّج وإلقاء اللوم على الآخر في كل ما يصيبنا؟.. من منّا يتابع الحوارات الأكاديمية المرموقة التي تجري في الجامعات الغربية بين علماءٍ مختلفين في قضايا جوهرية تمسّ الوجود الإنساني ويرى كيف يدار النقاش وكيف ينتهي؟

إن نجاح الحوار هناك لا يتمثل بمقدرة أحد المحاورين على ليّ ذراع المحاوِر الآخر - وهذا الآخر هو الباطل الملعون في حالة ''الاتجاه المعاكس'' - وإنما في تمكّن الطرفين المتحاورين من بسط مواقفهما لأبعد حدّ أمام الجمهور, ونجاح كلّ منهما في شرح الخلفيات والملابسات التي أدت به لتبني موقفه. وهكذا ينفتح الأفق أمام المتابع للحوار كي يخرج برأيه الخاصّ عن موضوع النقاش، من دون أن يرى في أحد الأطراف حق والآخر باطل. أما المحاور نفسه فسيخرج راضياً عن نفسه في كل الأحوال فهو لم يأتِ إلى الحوار أصلاً وفي ذهنه مقولة: ''لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمراء النعم.''

وهكذا يبرز ''الاتجاه المعاكس'' على حقيقته الموضوعية بصفته ''عاكس'' وليس ''معاكس''.. إنه عاكسٌ لواقع البلدان العربية، وما تشهده من اقتتال وتمزّق يضرب بجذوره في الإيديولوجيات الدينية والإثنية والطائفية والتي ينجح البرنامج ليس في عكسها فقط، وإنما في تعزيزها أيضاً.

ولعل أخطر ما في هذا البرنامج،أنه في نهايته لا يقدم للمشاهد أهم الخلاصات التي خرجت بها المناظرة والحوار، مما يجعل ذهنه شارداً، وقلبه حائراً غير مطمئن لأحد الفكرين أو الاتجاهين، الأمر الذي يوقعه في البلبلة والحيرة، فلا يكاد يميز بين الحق والباطل، وبين المحق والمبطل من الخصمين، خصوصاً ونحن نعلم ذلك الجو الذي تمر فيه تلك الحوارات والنقاشات من أخذ ورد للكلام من غير تنظيم ولا ترتيب في عرض المواقف والأفكار، وتلك العشوائية في طرح الموضوعات واختيار المتناظرين والمتحاورين؛ وكأننا أمام برنامج من نوع القرقوز، إذ يرقص كل ضيف على الآخر برقصة والقذف والسباب والتلفيق، ويدير هذه الرقصات قائد السرك، أي المقدم بأسلوب مضحك ومبكي في نفس الوقت حتى يصل في أغلب الأحيان البرنامج إلى السباب والضرب والاتهامات واستخدام الكلمات النابية من قبل الضيوف مع بعضهم البعض، ومما يزيد منها مقدم البرنامج، حيث يسعى بكل أساليبه إلى إثارة الصراع والخلاف بين الضيوف وبأسلوب غير أخلاقي وإعلامي، ودائماً تنتهي الحلقة بالصراع والمهارات وبابتسامة من قبل المقدم بانتهاء الحلقة، وغالباً لم يفهم المشاهد حتى الموضوع، ونقطة الخلاف والاختلاف بين الضيوف، بقدر الاهتمام بالمهاترات والأسلوب الذي يتبعه الضيوف حتى أصبح البرنامج وسيلة كاريكارتية عبر أغلب وسائل الاتصال كرسوم الكاريكاتير أو عبر المسرحيات الهزلية التي شاهدناها في أغلب البلدان العربية عبر فيصل وضيوفه والسخرية من الخلافات بين الضيوف وتعميقها عبر الأهداف المخطط لها مسبقا من قبل القناة أولاً والفيصل ثانياً ولا اعتقد من شاهد البرنامج لم يخرج بهذه القناعة.

ومن يُشاهد البرنامج ولو حلقة واحدة منه؛ يلاحظ الانحياز الكامل للمذيع مع الضيف الذي يتفق رؤيته مع رؤية القناة. وأذكر أنه في إحدى حلقات البرنامج بعد الغزو الأمريكي للعراق؛ تمت استضافة إحدى الشخصيات الكويتية - وأعتقد أنه كان المفكر الراحل أحمد الربعي- الذي قال للمذيع؛ بأنه جاء إلى البرنامج وهو يعرف تماما أنه يواجه خصمين وليس خصما واحدا فقط. وهذا ما يحدث للأسف في أغلب حلقات البرنامج، التي بالإضافة إلى الموضوع السوري، أصبح يضرب أيضا على وتر السنة والشيعة. وكأن قضايا العالم جميعها انتهت، ولم يبق إلا هذين الموضوعين فقط.

لقد صارت أغلب حلقات هذا البرنامج في السنوات الأخيرة كما قال البعض أقرب إلى التهريج السياسي، والتحريض الطائفي. وغاب عنها التحليل السياسي المتزن، والمنهج الموضوعي في النقاش والاستدلال. ومما ساعد على ذلك انحياز مقدم البرنامج بشكل فاضح إلى أحد طرفي النقاش ؛ وللأسف هذا ما اعتاد عليه الدكتور فيصل القاسم عند الاختيار والإعداد في أغلب الأحيان شخصيات غير متزنة، ومتطرفة سياسياً، وفكرياً، وطائفياً، وتدافع من أجل الدفاع أو تنتقد من أجل النقد وشخصيات متزنة في الطرف الآخر، ولم يسعفني الحظ ولو لمرة واحدة أن أسمع من قبل أحد الضيوف نقداً تحليلياً، أو أن يقوم بتقدم روئ فكرية لمعالجة ظاهرة من الظواهر الخطرة التي تعج بها الساحة العربية أو العراقية بشكل خاص.

ولذلك فإن برنامج الاتجاه المعاكس يعد مثال جيد يختزل الكثير من غوغائيتنا العربية، ففي هذا البرنامج الكل يصرخ بمن فيهم مقدم البرنامج، ويوشك أن يصدق على الجميع القول «إذا ضعفت حجج المرء زاد رنين مفرداته». وكثيرا ما ينسى الدكتور فيصل القاسم دوره المفترض أن يكون حياديا ليقف فجأة في الصف المقابل مع هذا أو ذاك حسب مجريات رياحه، ومقتضيات «الفزعة» متغافلا عن كل المتعارف عليه إعلاميا في مثل هذا النوع من برامج المواجهة؛ ومما يزيد الصورة عتمة أن مقدم البرنامج يبدو وكأنه يختار بعض ضيوفه أو ضحاياه بعناية فائقة، بحيث يراعي عدم التكافؤ بين المتناظرين بالصورة التي تسمح بانتصار الأفكار التي يتحزب لها القاسم، حتى أنني لأستطيع أن أجزم بنتائج تلك الحوارات قبل بدئها رغم الإخراج الشكلي.

ولا أتخيل أن مفكراً أو مثقفاً أو على درجة من الوعي يمكن أن يسلم أذنه وعقله وفكره لكل هذا الصراخ وتلك الفوضى، لذا لا غرابة أن يكون جل مشاهدي «الاتجاه المعاكس» من نوعية الجمهور الذي يبحث عن شيء يضحك عليه، ولو كان شر البلية.

وبشكل عام يمكننا أن نؤكد على أهم النقاط التي حاول البرنامج تقديمها عبر السنوات المنصرمة كما يقول د. طارق المالكي :

1- الإساءة الى المجتمع العربي والشخصية العربية، وبشكل خاص الطبقات السياسية والكتاب والمحللين السياسيين، حيث تم تقديمهم بصورة كاريكارتيرية عبر التنابز بالألقاب وافتقارهم، إلى ابسط أسلوب الحوار الحضاري، فكيف يكون الأمر للشرائح الاجتماعية الأخرى، وقد تم عرض أحد البرامج على الشباب الألماني فكانت ردود الافعال كارثة لا يمكن وصفها بالكلمات؛ خاصة وأن الشخصيات كانت من نوع الأساتذة والدكاترة والكتاب.

2- إسقاط بعض الشخصيات السياسية، أو الكتاب، والمحللين السياسيين، من خلال إثارتهم شخصياً أو من قبل الطرف الآخر الذي غالباً ما يكون أميا سياسياً، أو مراهق سياسياً، أو طائفياً، وقد كتب في أسفل الشاشة إعلامي وكاتب ومحلل وغيرها من الالقاب .. الخ.

3- تعميق الاتجاه الطائفي في المجتمع العربي، وبشكل خاص في العراق، حيث تم استضافة شخصيات معروفة في اجنداتها الخارجية وتعميق الشعار بأن عرب السنه مستهدفون في العراق من قبل الشيعة

4 - محاولة الاستهزاء من التجربة العراقية وافشالها عبر استضافة شخصيات لها مواقف واضحة من التجربة العراقية، وبشكل خاص ازلام النظام المقبور، وغيرهم واتهام الحكومة العراقية باتباعها لايران التي احتلت العراق وأن الحكومة حكومة شيعية وكل قراراتها استهداف للسنه العرب وهي حكومة ايرانية وليس عراقية.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل بجامعة أسيوط

.........................

المراجع

1- محمد الإحسايني: سوسيلوجيا المناقشات في برنامج: -الاتجاه المعاكس- الحوار المتمدن-العدد: 2071 - 2007 / 10 / 17 - 11:28

2- إبراهيم بوعدي: حول " برنامج الاتجاه المعاكس " (مقال).

3- صالح البلوشي: برنامج "الاتجاه المعاكس"(مقال).

4- د. طارق المالكي: برنامج الاتجاه المعاكس والاهداف المخفية (مقال).

5- عبدالسلام بنعيسي: محزن ان يصبح "الاتجاه المعاكس" معاديا (مقال).

 

 

 

في المثقف اليوم