آراء

مسجد آيا صوفيا وحلم الخلافة العثمانية

محمود محمد عليفي خطوة غير مسبوقة نحو تدمير الهوية التركية التي دشنها الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك، قام الرئيس التركي الحالي "رجب طيب أردوغان" بتحويل أثر "آيا صوفيا" التاريخى إلى مسجد، بعدما ظلت سنوات طويلة متحفاً بقرار من "أتاتورك.

تاريخياً: مبنى آيا صوفيا كان كاتدرائية خاصة بالمسيحيين، بنيت فى عهد الإمبراطور البيزنطي جيستنيان الأول Justinian dynasty عام 537م، وذلك على أنقاض كنيسة أقامها الإمبراطور قسطنطين العظيم Constantine the Great، إلى أن تحولت إلى مسجد عام 1453م، بعدما سيطرت الدولة العثمانية على اسطنبول الحالية، حيث قام السلطان محمد الفاتح بتحويل الكنيسة إلى مسجد، رمزا لانتصاره على الدولة البيزنطية.

وتعد آيا صوفيا تحفة معمارية شيدها البيزنطيون في القرن السادس وكانوا يتوّجون أباطرتهم فيها. وقد أدرجت على لائحة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونسكو)، وتعد واحدة من أهم الوجهات السياحية في اسطنبول. واستقبلت العام الماضي 3,8 ملايين زائر.

وبتفضيل نقول : في الأيام الماضية قرر أردوغان تحويل متحف «آيا صوفيا» في إسطنبول إلى مسجد، بموجب قرار صدر عن المحكمة الإدارية العليا، وذلك بناءً علي وثيقة تؤكد ملكية الكنيسة والأرض التى عليها، بعدما اشتراها السلطان محمد الفاتح، إبان غزوه القسطنطينية "اسطنبول" حاليا.

وهذه ليست المحاولة الأولى لتحويل المتحف إلى مسجد تنطلق منه الصلاة للمسلمين فقط، ولكن سبقتها محاولات وسلوكيات استفزازية، ففي عام 1991 أعادت تركيا فتح أبواب مسجد “قصر هونكار” في آيا صوفيا أمام العبادة مجددًا؛ بحجة أن “قصر هونكار” ليس جزءًا أساسيًّا من آيا صوفيا، إنما تم تشييده في العصر العثماني على يد السلطان محمود الأول، وهو القسم المفتوح للعبادة حاليًّا وليس كامل آيا صوفيا.

وبالفعل جاء قرار المحكمة العليا التي ألغت قرار الحكومة لعام 1934، والذي حوّل آيا صوفيا من جامع إلى متحف ليحمل في طياته رسائل ومعاني كثيرة على طريق إحياء ذكريات الخلافة والسلطنة العثمانية بعد ما يسمى بالربيع العربي الذي أراد له أروغان أن يساعده لتحقيق حلمه في زعامة الأمة الإسلامية والإسلاميين.

يبدو أن أردوغان يشعر بالحنين إلى الإمبراطورية العثمانية، بكل سلوكياتها المقيتة، ويبدو أنه ما زال يراوده حلم الخلافة المزعوم، مستخدماً الدين أداة، فتأتي تصريحات كل موظفيه المؤتمنين على شاكلته، وشاكلة التطرف الديني الضارب حتى النخاع في نظامه.

وهنا جاء خطاب الرئيس أروغان، الذي سبق له أن رفض أكثر من مرة خلال السنوات الماضية تحويل آيا صوفيا إلى جامع، ليثبت رغبته في تسويق الجامع كرمز للخلافة الإسلامية الجديدة بعد أن تحدى ويتحدى وسيتحدى الجميع، في الخارج إقليمياً ودولياً، وفي الداخل كل من يعترض على مشاريعه في الخارج.

وقد أطلقت العديد من الكنائس العالمية دعوات لإعلان حداد عام فى الكنائس، الجمعة (الموافق 24 يوليو 2020)، ووضع صلوات خاصة لحفظ الكنيسة التى تحولت لمتحف فى القسطنطينية، وهو الاسم القديم لإسطنبول، مع الاستنجاد بالسيدة العذراء فى صلوات أخرى، وذلك احتجاجًا على تحويل متحف آيا صوفيا لمسجد وإقامة أول صلاة به، وذلك بحضور أردوغان الذي افتتحه بمطلع سورة البقرة.

وفي المقابل وجدنا جماعة الإسلام السياسي يفرحون ويهللون طربا عندما غردوا علي مواقع  التواصل الاجتماعي ؛ لاسيما عندما أقيمت أول صلاة جمعة بالمسجد أول أمس معلنين بأن هذا البلد وهي تركيا، إنما هو من إرث آل عثمان الفاتح، وأن الرئيس المسلم رجب طيب أردوغان؛ إنما يعيد بهذا الفعل الجليل صيحات الإسلام العالية في قلب أوروبا، حتى وإن كان الثمن هو رفض الاتحاد الأوروبي إدخال جمهورية تركيا، ضمن عضويته التي ما عادت تهم الرئيس التركي وشعبه، المتطلع إلى أكبر من هذا، والساعي بلا شك إلى بناء دولة قوية راسخة، تسعى كل الدول لبناء علاقتها معها وليس العكس.

وفي السياق نفسه، أكد أحد المغردين إلى أن: "القضية قديمة والمعركة على هوية آيا صوفيا اشتدت مع اقتراب جيوش ونفوذ الممالك الأوروبية من الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر؛ إذ كانت عنوان هجمات الروس واليونانيين، وجعلت منها القوى الاوروبية عنوانًا للزحف على إسطنبول.

أما من وجهة نظري الخاصة فإن الخطوة الاستباقية التي قام بها أردوغان نحو تحويل متحف آيا صوفيا إلى مسجد، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن النظام التركي الحالي، بدأ يقترب من أسلوب النظام الإيراني والميليشيات الإرهابية، ويكاد يتلاشى الفرق بينه وبين الجماعات الإرهابية كداعش والقاعدة. وهذهِ الخطوة ليست إهانة بحق المسيحيين فقط؛ بل هي إهانة بحق كل إنسان يحترم حرية الأديان ومشاعر أتباع كل دين.

والسؤال الذي أود أن أطرحه : هل سيسمح الأتراك لأردوغان بقتل أتاتورك كما قتل الخميني الشاه محمد رضا بهلوي؟.

اعتقد أن أردوغان يريد أن يحرق ويدمر كل ما بناه أتاتورك من مجد عظيم للأتراك، ولا أعتقد أن الشعب التركي سيظل صامتاً وهو يرى من يقودهم نحو الرجعية والتطرف والدمار..

أردوغان يريد أن يستخدم الدين للوصول به إلى أغراضه، التي هي بعيدة كل البعد عن الدين.. أردوغان عمل منذ البدايات الأولى له في العمل السياسي على تقديم نفسه، وإن تذبذب كثيرا في ذلك، على أنه يمثل الإسلام في المجال السياسي، ذلك الذي أكسبه شعبية لم نستغربها في المجتمع التركي، الذي لا يستطيع أحد أن ينكر ارتباطه بالإسلام كدين وعقيدة، وإن كان هذا الدين الإسلامي مصبوغا بصبغة تركية خاصة، ما أظن أن يرتضيها أنصار أردوغان في المنطقة العربية..

أردوغان يريد أن يقول للبسطاء المخدوعين المغشية أبصارهم فيما قام به الخليفة"، قائلاً: "أيهما كان الأوْلى أن يمنع بيوت الدعارة المنتشرة في تركيا، أو يحول المتحف الذي كان قد تم تصنيفه كجزء من موقع التراث العالمي للمناطق التاريخية في إسطنبول؟".

وهناك سؤالاً آخر يطرح نفسه: هل بات صدام أردوغان مع الغرب والاتحاد الأوربي أقرب؟

بعض المحللين السياسيين يري أن الخطبة التي ألقاها أردوغان بهذه المناسبة،  في الجمعة الماضية وصفوه بأنه " استخدم 'الجوكر‛ وأعلن الجهاد الأكبر"... ويقولون: "الرجل لا يحتفي بتحويل المتحف لمسجد بقرار قضائي فحسب، بل هو يعلن مرحلة جديدة بثلاثة ركائز أساسية: الأولى بدء الابتعاد عن هوية تركيا العلمانية والميل نحو الأسلمة مجدداً... والثانية بدء مرحلة التمدد على شكل خلافة لكن بصورة عصرية...الركيزة الثالثة تتمثل في تعزيز موازٍ للقومية التركية"...

في حين يري محللون آخرون أن أردوغان فتح النار علي نفسه عندما عادي مسيحي العالم .. لكنه اكتسب تعاطفا من شعبه بالانتخابات مؤقتاً لأهدافه السياسية الخبيثة والضحك على (الذقون)، ولكنه سيخسر.. لأنه يلعب بالنار..

بينما يتساءل محللون آخرون فيقولون : ما الفائدة التي ستعود على المسلمين في العالم إذا تحول آيا صوفيا إلى مسجد؟ وهل يرضى أردوغان أن يحول اليهود مسجد قبة الصخرة إلى معبد؟ وأن تتحول مساجد حيفا ويافا وعكا والقدس في فلسطين إلى كنائس؟ أو أن تحول كنيسة القيامة إلى مسجد؟ وتحول أوروبا مساجدنا إلى معابد وكنائس؟".

ويبدو أن أردوغان يتعمد إثارة فتنة عالمية دينية، فبعض الردود غير الدبلوماسية جاءت غاضبة، توضح حجم الكارثة التي أقدم عليها أردوغان، إذ نقلت وكالة إنترفاكس الروسية للأنباء عن متروبوليتان هيلاريون رئيس إدارة العلاقات الخارجية في بطريركية موسكو، قوله في التليفزيون الحكومي: "لا يمكننا العودة إلى العصور الوسطى الآن". وأضاف "نحن نعيش في عالم متعدد الأقطاب، نعيش في عالم متعدد العقائد ونحتاج إلى احترام المشاعر الدينية"، موضحاً أن "الكنيسة الأرثوذكسية الروسية لم تفهم الدافع وراء تحويل آيا صوفيا، وأنها تعتقد أن السياسات المحلية كانت وراء هذه الخطوة، ونعتقد أنه في الظروف الحالية يعتبر هذا العمل انتهاكًا غير مقبول للحرية الدينية".

وهنا تجدر الإشارة إلي أن آيا صوفيا كان كتدرائية على مدار 916 عاماً، ومسجداً لمدة 481 عاماً، حتى تحول إلى متحف في عام 1935، وأهداف تحويله إلى مسجد اليوم واضحة وجائرة، فمن يلاحظ الفرق بين بيانات الرئيس التركي باللغة العربية «آيا صوفيا عودة نحو المسجد الأقصى، وعودة للمسلمين والحضارة العثمانية» وبين بياناته باللغة الإنجليزية سيلاحظ الفرق والتلاعب بالبيانات الموجهة للعرب وبين ما هو موجه للغرب! فبياناته للغرب يتحدث فيها عن أن المسجد سيكون مفتوحاً للمسلمين وغير المسلمين، وإن قراره يتعلق بالسيادة وتنظيم قانوني.

ولكن لماذا لجأ أردوغان إلي تحول آيا صوفيا مسجداً الآن؟

والإجابة تتمثل في أن القرار هو كرت سياسي بحت لعب به أردوغان لإنقاذ شعبيته في الداخل التركي بعد الانكماش الاقتصادي والتدهور الأمني وتراجع الحريات، وانشقاقات التيار المتحالف معه، والتصدع السياسي الداخلي وانهيار الليرة، والتخبط الدبلوماسي الخارجي من هزائمه في سوريا والعراق وليبيا!

يبقي لنا سؤال أخير نختتم به المقال : ما الفائدة التي ستعود على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إذا تحولت آيا صوفيا إلى مسجد؟.. وهل يرضى أردوغان أن يحول اليهود مسجد قبة الصخرة إلى معبد؟.. وأن تتحول مساجد حيفا، ويافا، وعكا، والقدس في فلسطين إلى كنائس؟.. أو أن تُحول كنيسة القيامة إلى مسجد؟ وتُحول أوروبا مساجدنا إلى معابد وكنائس؟.

تلك قضية خطيرة لو تم تصعيدها، فلو كان محمد الفاتح هو من اشترى الكنيسة عند دخوله القسطنطينية، فقد اشتراها تحت حد السيف والسطو العثماني، وإذا طبق الغرب الذي استعمر بلادنا العربية لعقود، وفتح أراضيه اليوم لمساجدنا، ثم قرر أن يحولها بقرار قضائي إلى معابد وكنائس لكانت كارثة.

في نهاية المقال لا أملك إلا أن أقول مع أمير الشعراء أحمد شوقي : قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعا .. بيت الشعر البليغ هذا ربما يلخص الجدل الدائر حول أية صوفيا .. هل يبقي متحفاً كما هو .. أم يبقي مسجداً كما خطط له أردوغان ونفذ.. ننتظر ما تسفر عنه الأيام المقبلة ..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم