آراء

رشيد الخيون: محسن الحَكيم.. لم يفتِ مع الكرد ولا ضدهم

نَشر رئيس «تيار الحِكمة» السّيد عمار الحَكيم في حسابه الشّخصيّ (تويتر 5/7/2023) ما نصه: «نستذكر باعتزاز بالغ فتوى جدِّنا الإمام السَّيد محسن الحكيم (قُدس سره) التي صدرت في مثل هذا اليوم من عام 1965، بتحريم قتال أهلنا الكرد آنذاك، والتي عززت التَّكاتف واللحمة الوطنية بين أبناء البلد الواحد، ورسخت مبدأ حفظ المكونات العراقية لبعضها البعض، وبقي صداها وذكراها شاخصين حتَّى يومنا هذا، كما كانت مصداقاً لحرص الإمام الحكيم على حفظ أنفس المسلمين والتَّصدي لمحاولات سفك دمهم الحرام» (@Ammar_Alhakeem).

هنا لنا قول يستند لشاهد عيان، وفي الحدث نفسه، عمّ السّيد عمار الحكيم الأكبر، محمدّ مهدي بن محسن الحكيم (اغتيل: 1988)، الذي كان بمثابة باب والده المرجع السّيد محسن الحكيم (تـ: 1970) وحاجبه، فمِن تقاليد المراجع الدينيين عند الشّيعة الإماميَّة عموماً أنّ يقوم الأبناء بدور إدارة مكاتب الآباء وصلتهم بالآخرين، ولا يتم اتصال إلا عبرهم، والأمثلة على هذا كثيرة.

جاء ذلك في كتاب السّيد مهدي الحكيم: «مِن مذكرات العلامة الشّهيد مهدي الحكيم حول التّحرك الإسلاميّ في العِراق»، فقد أكد أن ما حصل ليست فتوى، إنما احتجاج على زج اسم المرجع محسن الحكيم دون علم مرجعية والده، في بيان منشور ضد الكرد، خلال القتال مع الحركة الكرديَّة آنذاك، ووفقاً لما ذكره مهدي الحكيم لم يحدث ذلك في التَّاريخ الذي أثبته عمار الحكيم (1965) إنما عام 1964.

إنّ ما حصل، والذي يعد خلاف الواقع، كان بدافع التّأثير على القوى الكرديّة، في زمن المعارضة العِراقيّة في التسعينات مِن القرن الماضي: إنَّ حكومة الرئيس عبد السّلام عارف (قُتل: 1966) دعت إلى عقد «مؤتمر علماء الإسلام» (1964)، شارك فيه رجال دين مصريون، تحت ظلال مشاعر الوحدة العربيَّة في زمن الرَّئيس جمال عبد النَّاصر، وأفتوا جميعاً: بأن «الأكراد بغاة يجب قتالهم». فطُلب مِن المرجع الحكيم تأييدها، فرفض ذلك.

كان سبب الرفض عقائدياً أولاً لأن «الحكومة غير شرعيّة» (مذكرات مهدي الحكيم)، أيّ في زمن الغيبة الكبرى، وهذا تقليد ثابت عند فقهاء الشّيعة، وثانياً أنه لا يرى القتال حلاً، ومعلوم أنّ الحكومات في العقيدة الإماميّة ليست شرعيّة خلال الغيبة، لكن يمكن التّعامل معها دون الشّرعيّة الدِّينيًّة، وعدم العمل ضدها، فالعمل الثّوريّ غير متاح في التقليد الشيعي الإماميّ، أو الاثني عشريّ، فتلك من حقّ الإمام الغائب فقط.

غير أنّ أحد رجال الدّين ممَن حضر المؤتمر المذكور أعلاه، كتبَ منشوراً، نشره «التَّوجيه المعنويّ» في الصَّحافة، وهو المؤسسة الإعلاميّة الرَّسميَّة آنذاك، جاء فيه: «إنْه تشرف بخدمة (تشرف بزيارته) الإمام الحكيم الذي أظهر استنكاره للأكراد»، أي أظهره أنه مع فتوى قتالهم. بطبيعة الحال، وربّما جرى حديث بهذا الاتجاه، في برانية المرجع الحكيم، لكن لا تؤخذ أحاديث اللقاءات والمجاملات على أنَّها مواقف، وتُنشر في الصَّحافة.

عندما علمت مرجعية الحكيم بالمنشور، اتصل مهدي الحكيم بـ«التَّوجيه المعنوي»؛ محتجاً على زج اسم والده دون علمه! فكتبت المرجعيّة تكذيباً، لكنْ لم يوافق «التّوجيه المعنويّ» على نشره، فأخبرهم: «أنتم مخيرون: إمّا تنشرون التَّكذيب، أو نقوم نحن بنشر المنشور»! فقامت المرجعيّة بتوزيعه في المساجد والحُسينيات، بواسطة نشطاء في الإسلام السّياسيّ آنذاك، مثل مرتضى العسكري (تـ:2007)، وعارف البصريّ (أعدم: 1974). هذا، ولولا زج اسم الحكيم في المنشور، ما تحدثت معارضة التّسعينات عن وجود فتوى تحريم قتال الكرد.

لم تكن المرجعية ضد الكرد، في حالٍ مِن الأحوال، عدا ما أوردته الرَّسائل الفقهية: عدم تزويج الأكراد والأعراب وأقوام أُخر، وهذا الرأي الفقهي يشترك فيه رجال دين كثيرون، وبينهم الحَكيم (مستمسك العروة الوثقى)، وهو رأي فقهيّ قديم يخص كفاءة النّسب (الكلينيّ، الكافي).

إضافة إلى الموقف الشّرعيّ التَّقليديّ مِن الحكومات؛ خلال الغيبة الكبرى، إنّ لمرجعيّة الحكيم موقفاً مِن السِّياسة الحكوميَّة آنذاك، فلما أراد عارف زيارة الحكيم، اشترط لاستقباله إلغاء قانون «الأحوال الشّخصيّة» (188 لسنة 1959) - كان قانوناً متقدماً لصالح المرأة والأسرة - وإلغاء القوانين الاشتراكيَّة، التي أصدرت عهدذاك (مذكرات مهدي الحكيم).

غير أنَّ إظهار المنشور على أنه فتوى حصل بعد عقود طويلة؛ في أيام معارضة التَّسعينات العِراقيّة، بعد حرب الخليج الثَّانيّ وتحرير الكويت، وضمن العمل المشترك ضد النّظام السَّابق، حصل بدافع إسلاميّ مصلحي، وهو الحصول على تسهيلات بإقليم كردستان - العِراق، التي تُديره القوى الكرديّة!

وقد ظل السَّاسة الكرد يتداولون الفتوى المزعومة على أنها حقيقةٌ، ورداً للجميل حصل الإسلاميون، في مقدمتهم «المجلس الأعلى للثورة الإسلاميَّة»، على تسهيلات للنشاط الشِّيعي السِّياسي، كرسه مسؤول «المجلس الأعلى» بكردستان حينها، للكسب المذهبيّ الحزبيّ الطَّائفيّ، مما لفت نظر أحزاب الإسلام السِّياسي السُّنيّ الكرديّة (سمعت هذا من قياداتهم). كان ثمن الفتوى أيضاً افتتاح «حسينية الحكيم» بالسُّليمانيَّة (بعد تسلم إدارتها 1990) بمنطقة سُنيَّة، ناهيك عن أنَّ صلات السّليمانيّة بإيران، بعد القتال مع أربيل والدَّعم الإيرانيّ لها، في تلك الظُّروف، تُشجع على ذلك.

أرى ما نشره رئيس «تيار الحِكمة» مِن فتوى لجَدِّه، في هذا الوقت، قد يكون لا يعلم هو نفسه أنها ليست فتوى، فقد حصل ذلك في زمن عدم تصديه وتصدره لقيادة التَّنظيم، ولا تخرج إعادة التّذكير بوجود الفتوى، خلاف الحقيقة، عن هدف إدامة الغزل الحزبيّ، ومع اعترافنا بمثل هذا الغزل في العمل السّياسيّ، لكنْ ليس بالادعاء على حِساب التَّاريخ، فالحكيم الجدُّ لم يفتِ مع الكرد ولا ضدهم، خصوصاً ليس هناك نص يدل عليها ولا شهود، وما كتبه الحكيم العم حسم الجدل بالفتوى المزعومة.

***

د. ر شيد الخيون - كاتب عراقي

في المثقف اليوم