آراء

خطاب ماكرون في بيروت وعودة "الانتداب الفرنسي" للبنان!

محمود محمد علي"يا بيروت.. يا ست الدنيا يا بيروت.. نعترف أمام الله الواحد.. أنا كنا منك نغار.. وكان جمالك يؤذينا.. نعترف الآن.. بأنا لم ننصفك ولم نرحمك.. بأنا لم نفهمك ولم نعذرك.. وأهديناك مكان الوردة سكيناً.. نعترف أمام الله العادل.. بأنا جرحناك وأتعبناك.. بأنا أحرقناك وأبكيناك.. وحمّلناك أيا بيروت معاصينا.. إن الثورة تولد من رحم الأحزان.. يا بيروت".

إنها أغنية ماجدة الرومى الشهيرة، وكلمات الشاعر السورى الكبير "نزار قبانى"، تترجم وتختزل كل الجراح التى يتعرض لها لبنان الشقيق الآن.. بيروت التى أدمتها الجراح من الحرب الأهلية إلى الصراعات الطائفية والسياسية، حتى وصلت إلى احتراق القلب بالانفجار المزلزل الذى هز أحشاء المدينة وقلب عاليها واطيها، انفجار دموى كارثى يوازى تفجير قنبلة نووية صغيرة! وشُبّه بالقنبلة النووية التى ألقيت على هيروشيما وناجازاكى فى اليابان؛ وذلك حسب قول جيهان فوزي في مقالها "يا بيروت".. أهدوكِ مكان الوردة سكيناً.

المهم أنه بعد ثلاثة أيّام على كارثة مرفأ بيروت التي وقعت في الرابع من أغسطس الجاري، والتي خلّفت وراءها، 137 قتيلاً، وإصابة 4 آلاف بجروح، وهي حصيلة لا تزال قابلة للارتفاع، في ظل وجود أشخاص مفقودين؛ قام الرئيس الفرنسي ماكرون بزيارة بيروت ، وذلك لمُعاينة وضعٍ كارثيٍّ، وتقديم المُساعدة للبنان..  لم تقتصر زيارة ماكرون على تفقّد مكان الانفجار، وتحديدًا شارع الجميّزة، بل أصرّ الرئيس الفرنسي، وفي مشهدٍ خارجٍ عن الأعراف وفق مُعلّقين، الوقوف والاستماع لمطالب المُواطنين اللبنانيين بعد الانفجار ومُعاناتهم، وهو كأنّما يُمثّل أحد المسؤولين اللبنانيين في الحُكومة.

الرئيس ماكرون، لا يحلّ ضيفاً، حين مُراقبة مشهديّة زيارته، بقدر ما يُعيد التذكير بحقبة الانتداب الفرنسي للبنان، بل ليس عابرًا أن يختار أن يكون أوّل رئيس زائر لبلاد الأرز، رغم جائحة فيروس كورونا، وإمكانيّة تعرّضه للإصابة بالفيروس القاتل، تحت عُنوان التضامن مع لبنان المنكوب بعد انفجار المرفأ، يُمعن الرئيس الفرنسي بمشهد التضامن المُفترض، وأمام عدسات الكاميرات، يحرص على احتضان سيّدة لبنانيّة مُرتديًا الكِمامة، ويُؤكّد أنّ بلاده تقف إلى جانب الشعب اللبناني.

لم يكتف ماكرون بذلك بل أعلن صراحة قائلا :" لست هنا لتقديم الدعم للحكومة أو للنظام، بل جئت لمساعدة الشعب اللبناني، أنا هنا لأعبّر عن تضامني معكم وجئت لأوفّر لكم الطعام والأدوية، وجئت لأبحث بموضوع الفساد وأريد مثلكم شعباً حُرّاً ومُستقلّاً".. بل ويذهب بعيدًا حين يتحدّث ماكرون عن “ميثاق جديد”، وذلك حين طالبه أحد اللبنانيين بدعمهم ضدّ الطبقة السياسيّة، وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة وشكل هذا الميثاق، وحقيقة ما يُحضّر للبنان، فبعد الانفجار الغامض، ليس كما قبله، يقول مراقبون.

ثم قال “سأعود في الأول من سبتمبر:" وردا على طلب بعض المتجمعين بعدم تسليم المساعدة الى الحكومة، قال ماكرون “أؤكد لكم أن هذه المساعدة ستكون شفافة، وستذهب الى الأرض، وسنضمن ألا تذهب الى أيادي الفساد".

وصرح ماكرون فور وصوله الى مطار بيروت أن “الأولوية اليوم لمساعدة ودعم الشعب من دون شروط. لكن هناك مطلب ترفعه فرنسا منذ أشهر وسنوات حول إصلاحات ضرورية في قطاعات عدة”، مشيراً ، خصوصاً إلى قطاع الكهرباء الذي يُعد الأسوأ بين مرافق البنى التحتية المهترئة أساساً، وكبّد خزينة الدولة أكثر من 40 مليار دولار منذ انتهاء الحرب الأهلية (1975-1990).

وأضاف أنه يتمنى إجراء “حوار صادق” مع المسؤولين اللبنانيين، “لأنه بعيداً عن الانفجار، نعلم أن الأزمة خطيرة وتنطوي على مسؤولية تاريخية للمسؤولين”، متابعا “في حال لم تنفذ الإصلاحات، سيواصل لبنان الغرق".

ويطالب المجتمع الدولي وصندوق النقد الدولي لبنان بإصلاحات ضرورية كشرط لدعمه للخروج من الانهيار الاقتصادي الذي يشهده منذ نحو عام.

من جهة أخرى، أعلن ماكرون أنه يريد “تنظيم مساعدة دولية” بعد الانفجار الضخم الذي حوّل العاصمة اللبنانية إلى مدينة منكوبة.

قال ماكرون:" أنا هنا لإطلاق مبادرة سياسية جديدة، هذا ما سأعبّر عنه بعد الظهر للمسؤولين والقوى السياسية اللبنانية”، مشيراً إلى ضرورة بدء “الإصلاحات (…) وتغيير النظام ووقف الانقسام ومحاربة الفساد".

وبالتزامن مع زيارة ماكرون وقع أكثر من 40 ألف لبناني عريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي للبنان، حيث أطلق نشطاء عريضة إلكترونية عبر الموقع الشهير آفاز (Avaaz petition) طالبوا فيها بعودة الانتداب الفرنسي إلى لبنان لمدة 10 سنوات مقبلة، بعد يومين من حادثة انفجار المرفأ في بيروت.

وكانت أبرز التغريدات المثيرة للجدل هي للفنانة اللبنانية كارمن لبس، التي كتبت فيها "تعا وجيب معك الانتداب، ما بقى بدنا ها الاستقلال"، في إشارة إلى زيارة الرئيس الفرنسي إلى لبنان.

واستنكر مغردون الدعوات لعودة الانتداب ورفضوها بشكل قاطع، معتبرين أنها تفريطٌ في دماء الشهداء الذين قاوموا الاحتلال، كما طالبوا نقابة الفنانين والجهات المسؤولة بالوقوف عند هذه المطالب ومحاسبة القائمين عليها.

والسؤال الآن: ما الرسالة التي حملها ماكرون إلى لبنان بعد انفجار بيروت؟

بعض المحللين السياسيين أكدوا :" الخلاصة التي انتهى إليها هي: لا أمل في جماعة السلطة الذين ينادون بالوطنية ويطلقون الوعود بالإصلاح، لكنهم فاسدون ويرهنون البلد للخارج ويدمِّرون الدولة. والأمل الحقيقي يبقى في الناس الذين كفَروا. وهؤلاء الناس أوصلوا رسالتهم إلى ماكرون: لا تُجرِّبوا المجرَّب. هؤلاء لن يسيروا بالإصلاح ولو على قطع رأسهم. إنّهم يكذبون عليكم ويكسبون الوقت فقط. إذا أردتم فعلاً إنقاذ لبنان، ساعدونا للتخلّص منهم.. كان ماكرون واضحا أمام المسؤولين: السلطة إما أن تُغيِّر سلوكها وإما أن تتغيَّر. وحتى اليوم، أثبتت أنّها لا تريد لا أن تغيِّر السلوك ولا أن تتغيَّر. وهذا ما سيدفع باريس إلى خيارات أخرى أكثر حزما، وبالتأكيد ستظهر سريعا. لا غطاء لكم بعد اليوم

وتحت عنوان “ماكرون في بيروت، فخّ الحماسة الزائدة”، يقول أرنست خوري في صحيفة العربي الجديد اللندنية “وصل الرئيس الفرنسي إلى بيروت، وانصرف إلى التعاطي والتصريح بصفته حاكمًا محليا أو صاحب سلطة وصاية. والناس، من شدّة يأسها وغضبها في آن، صفقت له، أو صمتت على اعتبار أن الإهانة الكامنة في تصريحاته موجّهة إلى حكام البلد، لا إلى مواطنيه.. ويضيف الكاتب: “تطرح زيارة ماكرون، وتصريحاته وسلوكه، سجالات يهواها كثيرون: هل نفرح بأن يهين مسؤول أجنبي حكام البلد، لأنهم يستحقون أكثر بكثير من مجرّد الإهانة؟ ولكن ماذا عن نوايا الوصاية التي يحملها خطاب الرجل وسلوكه؟.

وفي صحيفة المجد الأردنية، يقول عبد اللطيف مهنا إن ماكرون “أشبع اللبنانيين تضامنا موعودا لا مضمونًا ومننهم سلفاً به، لكنه منعه من الصرف عندما ذكَّرهم بأن مساعداته مشروطة. إذا ما أزيلت قشرة النفاق الأوروبي التليد ومساحيق الإنسانية الاستعمارية الغربية التي لا تفارق السحن الأوروبية، فهي ذات الاشتراطات الصهيونية-الأمريكية.. ويضيف مهنا: “حبل الكذب قصير، لكنما وجود الرئيس هذه المرة أطلع أفاعي لبنان وديدانه من جحورها. جنبلاط ومخاتير الطائفية يريدون لجنة تحقيق دولية تعيد البلد إلى حقبة ما بعد اغتيال الحريري، وبقايا الانعزالية الضاربة جذورًا والمعتَّقة سموما، وجدت في ماكرون صدر أمها الحنون التي هجرتها، والجائل تلقفها قبل أن يلقّفهم ثدييه مطالبًا بميثاق لبناني جديد.

وتحت عنوان “ماكرون يعرض استعمارنا بخمسين من فضة”، يقول ابراهيم الأمين في صحيفة الأخبار اللبنانية: “ليس لدى ماكرون ما يعطينا إياه سوى دروس تعكس عقلية فوقية، وتنفع مع أصحاب العقليات الدونية الموجودين بيننا بكثرة. وليس لدى رئيس فرنسا ما يقدمه سوى إعادة تكرار الشروط الغربية الهادفة الى إعادة استعمارنا، ولو برغبة بعضنا. وليس لديه ما يمكن القيام به سوى التلويح بالأسوأ.. ويضيف الكاتب “لكن الخطير أن ماكرون يمكنه تعزيز مناخ الفتنة الداخلية، متأملاً خروج الناس تناشده التدخل، كما فعل اللبنانيون مع كل الخارج. لكن، إذا اعتقد ماكرون، أو المسؤولون الفرنسيون، أن لبنان لا يزال كما صنعوه هم، فهذا وهم. ولا بد أن يخرج من بيننا من يوقظهم من هذا الحلم البغيض قبل رحلته الثانية مع مطر سبتمبر”.

الآن على لبنان أن يسدد -وحده- فاتورة «العمى السياسى» لمن يعيدون ترسيم خريطة المنطقة أو «خريطة الدم» وفقاً للحدود الإثنية والدينية.. بينما نتخبط نحن فى السؤال: من أغرق المنطقة فى الفوضى.. من فجّر لبنان؟!.

يجب أن ينتبه الإعلام لذلك. من فجر بيروت ارتكب جريمة ضد الإنسانية لن ينساها أحد ولن تسقط بالتقادم، وعقابه سينفذه الشعب العربى كله.. ولن تسقط بيروت أبداً وهذا ما أكدته لبنان طوال التاريخ.. وعلى العرب أن يتعلموا من درس بيروت ويستعدوا للأحداث الدموية القادمة بالتضامن والعمل المشترك وإطلاق طاقة الشعوب فى مواجهة القادم.

وأخيراً وليس آخراً أقول : لك الله يا لبنان، رحم الله الحريرى، ورحم الله شعب لبنان العظيم.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم