آراء

الجهاد الأمريكي ضد الشيوعية

محمود محمد عليفي غمرة الحملة المعادية للسوفييت في أواخر سبعينات القرن الماضي، طلبت الخارجية الباكستانية من كل سفاراتها في الخارج بتسهيل دخول الشباب العربي والمسلم من دخول باكستان لـ" الجهاد" ضد الشيوعية من منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً من السعودية، ومصر، والمنظمات الفلسطينية المتطرفة. وأعدت "الاستخبارات الباكستانية بالتعاون مع قادة الأفغان المسلمين ترتيبات استقبالهم، من سكن وتدريب وإلقاء المحاضرات التي تثير فيهم الحماس لحماية الإسلام في أفغانستان" .

كانت الفترة ما بين 1982-1989 مميزة في تاريخ تطوع الشباب، فقد بدأ حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة – السعودية، ومصر، وباكستان- في تنظيم حرب المقاومة بمساعدة أمريكية، وتعالت أصوات النظام السعودي، ووسائل الإعلام، والمساجد، مطالبة بمساندة الجهاد ضد الشيوعيين الكفرة (علي حد تعبيرهم) في كل أنحاء المملكة، في حين لعبت رابطة العالم الإسلامي التي يدعمها السعوديون دوراً رئيسياً في إرسال الأموال.

وكانت السعودية والولايات المتحدة هما الممولين السخيين الرئيسيين للحرب وقدم كل منهما نحو ثلاثة مليارات دولار، "وكان الأمير " تركي الفيصل بن عبد العزيز آل سعود " رئيس المخابرات هو الذي يدير التمويل السعودي، وعمل في ذلك من بين كثيرين آخرين مع " أسامة بن لادن"، وهو ابن رجل أعمال ثري له روابط وثيقة مع الأسرة المالكة؛ وكان ابن  لادن الذي استخدم موارده الخاصة لمساعدة المقاومة الأفغانية، من بين أوائل العرب الذين وفدوا للمشاركة في الجهاد، فقد جاء في 1980 واستمر طوال الحرب بأكملها، وإن لاحظ أحد المحللين أن "ابن لادن" زار لندن أيضاً في مطلع الثمانينيات، وأنه ألقي عظات وخطباً دينية كثيرة في مركز "ريجنت بارك" الإسلامي.

كما يعتقد أن الملك السعودي "فهد بن عبد العزيز"، الذي تولي السلطة في المملكة في عام 1982، وولي العهد "عبد الله بن عبد العزيز"، قد التقيا ابن لادن ومولاه كما قدمت وكالة المخابرات الأمريكية  (CIA)، أحدث أنواع الأسلحة التي يمكن للأفراد الأفغان استخدامها ضد الطائرات السوفيتية، واعتبرت الولايات المتحدة أن دعمها لأفغانستان هو أفضل فرصة للانتقام من السوفييت ودورهم في فيتنام. واعتبر قادة الـ" CIA، أن أفغانستان ستشكل فيتنام الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفيتي؛ خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي كان يضم ست دول مسلمة في آسيا الوسطي، وللعديد منها حدود مع أفغانستان" .

وقد استخدم "ابن لادن" نقوده الخاصة لتجنيد المتطوعين العرب وتدريبهم في باكستان وأفغانستان، وإقامة علاقات طيبة مع قادة أفغان مثل "حكمتيار" و"شاه الدين مسعود"، وغضت المخابرات الباكستانية الطرف عن ذلك، وليس هناك أدلة علي دعم أمريكي مباشر لـ " ابن لادن"، لكن أحد "مصادر المخابرات المركزية ادعي أن مبعوثين أمريكيين التقوا بصورة مباشرة، ولاحظ "جون جولي" الصحفي الأمريكي أن  وكالة المخابرات الأمريكية التي كانت منبهرة بوثائق اعتماد "بن لادن" السعودية الخالية من العيوب، أطلقت له العنان في أفغانستان، لتنظيم المقاتلين المتأسلمين" .

وفي عهد الرئيس "أنور السادات"، كانت مصر تمثل لاعباً رئيسياً ثانياً، فقد نظمت نقل المتطوعين المصريين إلي أفغانستان، بمن فيهم الإخوان المسلمين، الذين شكلوا نسبة كبيرة من المقاومة المناوئة للسوفيت . وبعد "اغتيال دعاة الإسلام السياسي للسادات في 1981، قام بعض من هؤلاء الذين سجنوا مؤقتاً، بهذه الرحلة لاحقاً، ومنهم "محمد عاطف"، الذي أصبح معاوناً لصيقاً لـ"ابن لادن"، وحارب كثيرون من دعاة الإسلام السياسي المصريين المتشددين مع حزب حكمتيار الإسلامي" .

وتم تنظيم شحنات الأسلحة المقدمة إلي المتمردين الأفغان ونقلها من خلال باكستان، خاصة عن "طريق جهاز المخابرات الباكستاني، وفي اجتماع عقده الجنرال "ضياء الدين" مع "بريجينسكي" في يناير 1980، أصر علي ألا تقدم وكالة المخابرات المركزية إمدادات مباشرة للأفغان، بغية الإبقاء علي سيطرة باكستان علي العملية؛ ومن بين الكميات الضخمة من الأسلحة المصدرة إلي باكستان، بافتراض توزيعها من هناك علي الجماعات الإسلامية، باعت القوة الباكستانية نحو الثلث منها في السوق السوداء، ولم تحصل مطلقاً إلي متلقيها المقصودين، ومن 1983 إلي 1987، ارتفعت الشحنات السنوية من الأسلحة من 10 آلاف إلي 65 ألف طن" .

وقد جري تنظيم المقاومة الأفغانية في سبع مجموعات أساسية، عرفت باسم "بيشاور"، علي اسم مدينة تقع في شمال غربي باكستان؛ حيث تمركزت في قواعد، وكانت أهم أربع جماعات جميعها من المتشددين الجهاديين، الذين يؤمنون بالحرب المقدسة والتزموا ببناء مجتمع إسلامي، وقد أسماها أحد المؤرخين بأنهم "الإخوة  الوهابيون"- إذ تأثرت بأيديولوجية الإخوان المسلمين (الإخوانية) والايديولوجية المحافظة بصورة مغالى فيها للسعوديين (الوهابيين). وانقسم الحزب الإسلامي إلي فصيلين، "أحدهما يقوده "قلب الدين حكمتيار"، الذي كان قد انشق علي جماعة رباني الإسلامية، وهيمن عليها الإخوان المسلمون، وكانت هذه هي أقوي الفصائل الباكستانية وتلقت أكبر حصة من المعونة الخارجية؛ خاصة من جهاز المخابرات الباكستاني، والجماعة الإسلامية الباكستانية.

وكان الفصيل الثاني من الحزب الإسلامي بقيادة "يونس خالص"، وهو مُلا وعالم كان يبلغ من العمر 60 عاماً، وكان من بين قواده العسكريين "جلال الدين حقاني" و"عبد الحق"، ثم كانت هناك الجماعة الإسلامية لـ" برهان الدين رباني" الذي كان "أحمد شاه مسعود" هو قائده العسكري في الميدان. وكانت الجماعة الرابعة هي الاتحاد الإسلامي الذي يقوده "عبد الرسول سياف"، وهو وهابي له ارتباطات بالسعودية، التي قدمت معظم دعمها لسياف إلي جانب حكمتيار؛ وكان سياف هو الذي ذهب معه بن لادن وكذلك "خالد شيخ محمد"، مهندس 11 سبتمبر، إلي المعركة أولاً" .

وتم إلحاق المتطوعين الإسلاميين غير الأفغان بهذه الجماعات، وانضم معظمهم إلي حكمتيار وسياف، وتتباين تقديرات من تدربوا في أفغانستان وحاربوا فيها بصورة واسعة، من 25 إلي 85 ألفاً. وعلي الرغم من أن إسهامهم في المجهود الحربي ضد المحتلين السوفييت كان كبيراً في بعض الأوقات، فإنه لم يكن له شأن مقارنة بالقوات الأفغانية نفسها، التي وصل عددها إلي 250 ألف في كل الأوقات. وكان المنظر الرئيسي للمتطوعين " الأفغان العرب" هو "عبد الرحمن عزام"، وهو أخ مسلم فلسطيني وأستاذ في الجامعة لقي ترحيباً في السعودية في الستينات، وأثر التعليم الذي قام به في جدة علي "أسامة بن لادن". "وكان عزام قبلاً مسئولاً عن التعليم في رابطة العالم الإسلامي، التي أرسلته إلي إسلام أباد في 1980 للتدريس في الجامعة الإسلامية الدولية، وكانت هي نفسها تمول جزئياً من قبل الرابطة الإسلامية ويشرف عليها الإخوان المسلمون.

وفي 1984، انتقل "عزام" إلي بيشاور بعد أن حصل علي موافقة الرابطة لفتح فرع هناك، وسمح له هذا بأن يقيم مكتباً للخدمات لتنظيم قوة المتطوعين المجاهدين، وإدارة أموالها ونشر فكرة النضال الدولي المسلح. وقد أقيم مكتب بيشاور بمساعدة الجماعة الإسلامية الباكستانية وموله أسامة بن لادن في البداية إلي جانب هبات كبيرة من السعودية. وأنفق المكتب 200 مليون دولار من المعونة القادمة من الشرق الأوسط ومن الغرب، أساسهاً أمريكا وبريطانيا، المكرسة للجهاد في أفغانستان، وغالباً ما اعتمدت جهوده في مجال التجنيد علي شبكة مكاتب الإخوان المسلمين" .

هكذا تم إعداد أفغانستان من قبل واشنطن لحرب مروعة دامت 12 عاماً ضد الاتحاد السوفيتي، لم يكن الشعب الأفغاني قد طلبها أو أرادها، وقد كانت حكومة كابول في ذلك الوقت تعد البلاد إلى حكم علماني إصلاحي، أما الولايات المتحدة، فكانت تسعي كما سبق القول إلى تحويل أفغانستان إلى فيتنام للسوفييت هذه المرة، لكى تراق دماء الروس فيها، مثلما أريقت دماء الأمريكيين في فيتنامهم، ولم يكن يهم واشنطن كثيراً أن تتحول أفغانستان إلى دولة إسلامية أصولية متطرفة وهو ما كانت تعادي إيران الإسلامية بعد سقوط الشاه بسببه، بقدر ما يهمها أن ينتشر هذا المد الأصولي الإسلامي إلي جمهوريات الاتحاد السوفيتي في آسيا الوسطي ويقلب الأوضاع على موسكو، "ولم يكن الأمريكيون يجرؤون على استخدام تعبير" الإرهابيين" في وصف هؤلاء المتمردين الإسلاميين، حين كانوا يسقطون بقذائفهم طائرة مدنية في أفغانستان ويزرعون المتفجرات في المطار" .

تمكن المجاهدون الأفغان – وبدعم من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، وبريطانيا، ودول أخرى من دحر قوات الاحتلال السوفيتي، وحملها على الانسحاب من أفغانستان؛ حيث تكبدت موسكو خسائر عسكرية كبيرة وعلاقات دولية متوترة. وكان "المحاربون غير النظاميين الأفغان يتم تسليحهم وتمويلهم وتدريبهم بشكل رئيسي من قبل الولايات الأمريكية المتحدة، والسعودية، وباكستان" .

أثار الغزو السوفيتي لأفغانستان ردود فعل قوية على الصعيد الداخلي والدولي، وعمت الثورة أرجاء البلاد، فقد وافق رئيس الولايات المتحدة الأمريكية "جيمي كارتر "على برنامج جديد للمساعدات العسكرية للمقاومة الإسلامية الأفغانية والمعروفة باسم "المجاهدين"، أنفقت الولايات المتحدة الأمريكية ما يقدر بـ 10 مليارات دولار أمريكي على الأسلحة والمساعدات الأخرى، وذلك من بداية الغزو السوفيتي لأفغانستان وحتى سقوط الاتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991" .

وبعد سقوط 13.000 جندياً قتيلا وإصابة أخرون كثر، سعى النظام الإصلاحي السوفياتي بقيادة " جورباتشوف"  لخروج يحفظ به ماء الوجه من هذه الغلطة باهظة الثمن، وفي منتصف مايو عام 1988م أحذت القوات السوفيتية تنسحب من أفغانستان، وذلك بعد زيارة "جورباتشوف للولايات المتحدة بعام، وخلال اتفاقية جنيف المجتمعة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وأفغانستان والتي تهدف لاتفاق إلى حل سياسي، وتم التوقيع على الاتفاقيات الخمس والتي تتعلق بتسوية الوضع في أفغانستان، وبموجب هذه الاتفاقية كان على الجيش السوفيتي المهاجم مغادرة الأراضي الأفغانية مقابل وقف تمويل السلاح للأفغان من قبل باكستان والحكومة الأمريكية"

هذه نظرة سريعة في التاريخ الأفغاني ودور أمريكا في توجيه العرب والمسلمين في دعمه، حيث رأت أمريكا فى هذه الحرب منفعة لها، فالاتحاد السوفيتي هو العدو الأقوى لها، فإن تأججت نار الجهاد الإسلامي ضده، فأمريكا ستربح في حالتي نصره على السوفييت بطبيعة الحال، أو حتى إن انهزم الجهاد فسيكون أنهك القوات السوفيتية وهو ما فيه النفع للأمريكان.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم