آراء

عبدالحسين الطائي: ثورة 14 تموز 1958 في العراق

عبد الحسين صالح الطائيأحدثت ثورة 14 تموز نقلة نوعية في نظام الحكم، برز أثرها على كل مناحي الحياة السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، واسهمت في إبراز الهوية الوطنية وبناء الشخصية العراقية التي توفرت لها البيئة المناسبة وأتاحت لها حرية الإنتماء للأحزاب والتعبير في الصحافة  وتفعيل المؤسسات الاعلامية والارتباط بمؤسسات المجتمع المدني.

شرعت الحكومة الفتية بزعامة عبدالكريم قاسم الكثير من الانجازات والقرارات والقوانين والتشريعات التي تخدم قطاعات المجتمع المختلفة، كقانون الإصلاح الزراعي رقم (30) في 30/09/1958، الذي أحدث نقلة كبيرة في تحجيم سلطة الاقطاع، وتحسين حياة الفلاح ونشر الثقافة بين الفلاحين وتطوير أساليب الزراعة. وقرار خروج العراق من حلف بغداد يوم 24/03/1959 يمثل أحد الأهداف الرئيسية للثورة ، وخروجه من الكتلة الاسترلينية التي أضرت بالاقتصاد العراقي في 23/06/1959. وقانون رقم (80) في نهاية 1961، ألغى الامتيازات وحدد مساحة الأرض للشركات الاحتكارية النفطية العاملة، أي تشمل فقط الحقول المستثمرة وسيطرة الدولة العراقية على باقي الأراضي غيرالمستثمرة من قبل الشركات النفطية التي تقدر بأكثر من (98) من مساحة العراق.

توجه العراق إلى تطوير المؤسسة العسكرية والأمنية بتنويع مصادر السلاح والانفتاح على الكتلة الشرقية وبالأخص الاتحاد السوفيتي بموجب اتفاقيات لتجهيز العراق بالاسلحة الحديثة. وبادرت الحكومة بتطوير مشاريع الاسكان وتوسيع الخدمات في مجالات شبكة  الكهرباء، والاهتمام بقطاع التعليم وذلك بتشييد الآلاف من المؤسسات التعليمية، وتوسعت بالقطاع الصحي بمختلف مناطق العراق في الأرياف والمدن.

نفذت الحكومة العديد من المشاريع التنموية، ورسمت الخطط الخمسية  التي تهدف إلى تنوع الاقتصاد ورفده بقيمة مادية مضافة من الصناعات التحويلية والصناعات الثقيلة والخفيفة لتوفير فرص عمل جديدة للقضاء على البطالة. وقد هيأت الدولة المراكز والمعاهد الفنية للتدريب والتطويرلتأهيل الطاقات الابداعية والارشادية في عموم العراق لتحويل البنية التحتية المتخلفة إلى بنى تحتية حديثة تواكب تطلعات ثورة 14 تموز والنهوض بالمجتمع العراقي في المجالات كافة. حيث تمكن الزعيم عبدالكريم من تحقيق أكثر من (85%) من أهدافه، مما أدى إلى تحقيق الرفاهية بنسبة عالية في أكثر أوجه النشاط الاقتصادي.

ناصب الرئيس المصري جمال عبدالناصر العداء لثورة 14 تموز، كان ناقماً على القيادة العسكرية العراقية، مد يد العون لكل من وجد فيه الإمكانية لمقارعة وتقويض الحكم في العراق حسب اعتراف الكثير من القيادات القومية. كان حلم عبدالناصر بضم العراق إلى دولته الكبرى لتحقيق الوحدة التي لم ترَ النور. ذكر طالب شبيب في حديثه عن الوحدة بين مصر والعراق، نقلاً عن كتاب علي كريم سعيد، عراق 8 شباط 1963: "كانت اذهاننا تضج بشعارات ومشاريع كبرى دون التفكير بآليات تحقيقها ورغم ذلك عقدنا العزم واندفعنا فاصطدمنا برجل مثل عبدالكريم قاسم الذي كان وطنياً ولا يخرج في أفكاره عن نطاق تصورنا فقضينا على بعضنا وخرجنا جميعاً خاسرين".

سقطت الوحدة بين مصر وسوريا يوم الخميس 28/09/1961 بعد أن استولى على مقاليد الحكم في دمشق ضباط من الجيش السوري بقيادة العقيد صبري العسلي وإعلان الانفصال عن مصر.

تعرضت ثورة تموز للتآمر على منجزاتها من ادعياء القومية العربية، وجرت محاولات عدائية كثيرة ضد مسيرة الثورة. اعلن التمرد والعصيان في الموصل بعد عقد مؤتمر انصار السلام يوم الجمعة 06/03/1959، كانت الأمور طبيعية وبعلم آمر اللواء الخامس العقيد الركن عبدالوهاب الشواف، ولكن مظاهرات معادية تم تدبيرها من البعثيين والقوميين والاقطاعيين وعملاء الشركات النفطية أدت إلى حالة من الفوضى والسلب والنهب ونشوب حرائق وتدمير سيارات.

تمت السيطرة على مدينة الموصل بقوات عسكرية يقودها المقدم اسماعيل هرمز آمر الفوج الثاني من اللواء الخامس، وتم اطلاق سراح المعتقلين من القوميين والمعادين لثورة تموز واعتقال العناصر الموالية للثورة وايداعها السجون، وإعتبار منظمة انصار السلام واجهة من واجهات الحزب الشيوعي العراقي، وإن عقد مؤتمرها في الموصل يُعد تحدياً لمشاعر القوميين وأنصارهم.

اعلن البيان الأول للتمرد من اذاعة في مقر قيادة العقيد الركن عبدالوهاب الشواف في معسكر الغزلاني القريب من مدينة الموصل. وتم الاتصال بالجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) لطلب المساعدة في إعلان بيان التمرد والتدخل لنصرتهم، وبالفعل وصلت الطائرات إلى مطار الموصل، ولكن بسبب فشل التمرد تم الاتصال بالطيارين العرب وطلب منهم العودة إلى سوريا. وقد سيق المتهمون بمؤامرة الموصل إلى المحكمة العسكرية العليا الخاصة في بغداد (محكمة الشعب) برئاسة العقيد فاضل عباس المهداوي، وجهت لهم تهمة التآمر لقلب نظام الحكم والتعاون مع دولة أجنبية.  أصدرت المحكمة أحكام مختلفة بينها حكم الاعدام، تم إعدام (22) ضابطاً ومدني من مجموع (74) متهماً، ممن تآمروا وارتبطوا في حركة الموصل ومعهم أربعة من العهد الملكي.

كان الدور الرجعي في العراق والمنطقة العربية والاقليمية هو بث السموم الفكرية لتسميم الرأي العام وتأليب الناس للنيل من ثورة تموز من خلال مختلف وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمكتوبة في القاهرة ودمشق والرياض وطهران وتركيا ولندن وصوت امريكا والكويت وبيروت، أضف إلى ذلك دور الأحزاب الاسلامية المرتبطة بمصر وايران خوفاً من الخطر الشيوعي.

ذكر أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث فؤاد الركابي بعد خروجه والوزراء القوميين من تشكلية الحكومة العراقية برئاسة عبدالكريم في شباط 1959 "فكرنا باغتيال عبدالكريم قاسم والاستيلاء على السلطة بالعراق بالتعاون مع حركة القوميين العرب". وتطوع لهذه المهمة مجموعة من شقاوات وعصابات بغداد ومن افراد عاطلين عن العمل اغروا بأموال خيالية ومناصب في حالة تنفيذ الاغتيال ونجاح الخطة، ومن هؤلاء صدام حسين.

وفي خطوة انسانية عفا الزعيم عبدالكريم عن المتآمرين بعد سنتين من إصدار الأحكام عليهم، ولكن هؤلاء المفرج عنهم ازدادوا تآمراً وخيانة، حيث استمر مسلسل التآمر حتى اغتالوا الثورة بانقلاب فاشي في الثامن من شباط 1963، بمؤامرة دبرتها المخابرات الأمريكية والبريطانية والمصرية والأردنية وايتام العهد الملكي.

كان عبدالسلام عارف على دراية بالانقلاب كوجه عسكري معروف على صعيد العراق لاشتراكه باذاعة بيانات ثورة 14 تموز من دار الاذاعة، وكانت القيادة المدنية لحزب البعث التي قادت التآمر مكونة من حازم جواد وهاني الفكيكي وطالب شبيب وحميد خلخال وعبدالستار الدوري وحمدي عبدالمجيد. تولت بعض القطاعات الصغيرة الاستيلاء على مرسلات الاذاعة في ابي غريب واذاعة بيان مضلل باغتيال الزعيم عبدالكريم بالقصف الجوي على وزارة الدفاع واحالة الضباط الآخرين من ذوي الرتب العالية على التقاعد.

لكن الزعيم ومن معه من الضباط على بينة وصدمة حقيقية من المتآمرين. صعدت الجماهير الشعبية من هجماتها على المتآمرين وهاجمها المتمردون بكافة أنواع الاسلحة مما أدى إلى استشهاد اعداد كبيرة، واستمرت المعركة مع المتآمرين ثلاثة أيام من بعد إعدام الزعيم عبدالكريم وطه الشيخ أحمد وفاضل عباس المهداوي وكنعان خليل حداد.

لا غرابة في نجاح مؤامرة الانقلاب واغتيال ثورة تموز في اليوم الأسود الثامن من شباط 1963، لأنهم مارسوا كل أساليب الخديعة، وحسب عضو القيادة القطرية هاني الفكيكي في كتابه أوكار الهزيمة أن البعثين تلقوا الدعم المادي والتدريب على السلاح من الجهات الأجنبية، أي تمت الخيانة الوطنية بالإستعانة بالأجانب والتآمر على الحكم الوطني وممارسة الدور الاجرامي بحق المواطنين العراقين.

تبقى ثورة 14 تموز رمزاً للوطنية العراقية، والمجد والخلود لكل الشهداء.

 

د. عبد الحسين الطائي

أكاديمي عراقي مقيم في لندن

.....................

المراجع:

- عارف عبدالواحد المحمودي: اغتيال ثورة 14 تموز 1958 في العراق، مؤسسة ثائر العصامي، بغداد 2017.

- د. فائزة عباس المهداوي: هل انصفنا التاريخ، دار ومكتبة كلكامش للطباعة والنشر، بغداد 2020.

 

 

في المثقف اليوم