آراء

ثامرعباس: الباحث والحدث.. الارتقاء بالكتابة إلى مستوى الواقع

ليس من قبيل الافتئات القول إن نسبة كبيرة من العراقيين، ممن لا يزال يتعامى عما يضجّ به الواقع من مفارقات، ويتغابى عما يضبح به المجتمع من نكبات، لاسيما على صعيد من يمتلكون سلطة القرار ويديرون دفة الدولة في هذا البلد الغارق في دوامات المشاكل وأعاصير الإشكاليات . وهو الأمر الذي يفسّر لنا على نحو قاس ومؤلم أسباب ؛ انهيار أوضاعنا الاجتماعية، وانكسار أحوالنا  النفسية، وانحسار معاييرنا الأخلاقية . ولكن أن يستمر الباحثين والأكاديميين - بشكل خاص - بتجاهل ما يحدث من أزمات خطيرة، وتستمر شريحة المثقفين - بصورة عامة - بالتغاظي حيال ما يجري حولها من تداعيات، دون أن يكون لهم دور يلعبونه فيما يجري، أو يتمخض عنهم رأي يعلنونه فيما يحصل، أو يتشكل لديهم موقف يبدونه فيما يقع، فضلا"عن إخفاقهم الفاضح إزاء تخطي حالات الترهل الذهني والتكاسل المعرفي، والتخلي من ثم عن مطمح الارتقاء بطروحاتهم الفكرية والنهوض بمعالجاتهم الإجرائية إلى مستوى ما يلفظه الواقع من حمم بركانية مدمرة، فتلك - والحق يقال – مسألة تحتاج إلى أكثر من وقفة تأمل وأبعد من موقف مراجعة ! .

والأنكى من كل ذلك ما نلاحظه حيال بعض المسحوبين على رهط الأكاديميين والباحثين العلميين، ممن يتقلدون المناصب الرفيعة في المؤسسات الثقافية العامة، ويتبوءون الصدارة في مراكز الأبحاث والدراسات الفكرية الخاصة، بخصوص افتقارهم ليس فقط لأبسط مقومات البحث العلمي والدراسة المنهجية لمختلف الظواهر الاجتماعية والإنسانية التي يعج بها واقعنا العراقي المضطرب فحسب، بل ويعجزن كذلك عن بلوغ الحدّ الأدنى من القدرات المعرفية والمهارات المنهجية، التي يفترض بها حملهم على تعميق مستوى تحليلاتهم السوسيولوجية وتوسيع حقل تأويلاتهم الابيستمولوجية . للحدّ الذي أفضى بتلك الظواهر أن تتحول في وعيهم إلى عقد مستعصية يستحيل فتح مغاليقها برغم كونها صارخة من الوضوح، وطلاسم غامضة يصعب تفسير مغزاها برغم كونها ضاجّة من الشفافية . ولهذا فقد شاعت في ميدان الكتابة الصحفية ظواهر من مثل (الرطانة) الخطابية بدلا"من (الرصانة) العلمية، و(الفجاجة) الإيديولوجية بدلا"من (الحجاجة) المعرفية، الأمر الذي استتبع أن تتسم أغلب الكتابات بالسطحية في التحليل والضحالة في الاستنتاج . 

ومن جملة العيوب والمثالب الأخرى التي ابتليت بها أوساطنا الصحفية ومؤسساتنا الثقافية، هي إن أغلب من يستكتب من الباحثين والأكاديميين للكتابة في المواضيع السياسية والاجتماعية والفكرية، لا ينطلقون من رؤية معرفية تتصف بالحياد العلمي والموضوعية المنهجية، بحيث تتيح أمامهم فرشة واسعة من المداخل والخيارات التي تمكنهم من ولوج ميادين الفكر ورحاب الثقافة، بقدر ما يشرعون من خلفيات إيديولوجية متحجرة ومنظومات ثقافية رثة، كانت - وستكون على الدوام - سببا"في العجز عن رؤية ما يمور به الواقع السياسي من جيشان في الأزمات، والإخفاق في استيعاب ما يستعر به الواقع الاجتماعي من احتقان في العلاقات . وذلك إلاّ من خلال ؛ إما المنظور القومي المتعصب، أو المنظور الطائفي المتطرف، أو المنظور العشائري المتخلف، حيث (الأنا) يتقدم على (الأنت)، و(النحن) تتقدم على (الهم)، و(الذات) تتسامى على (الآخر) !.  

ولعل من أكثر التيارات الثقافية الناشطة داخل الساحة العراقية حاليا"، حاجة إلى النقد المعرفي والتقويم المنهجي والمراجعة الفكرية، هي تلك المتحصنة خلف واجهات إيديولوجية كلاسيكية يمتد طيفها من أقصى اليمين (الليبرالية) إلى أقصى اليسار (الماركسية) . إذ برغم ما يتمتع به أتباعها وأنصارها من باع طويل، سواء في ممارسة العمل السياسي / الحزبي والانخراط في السجالات الإيديولوجية على مدى عقود، أو من خلال التمرس في الكتابة الصحفية والتأليف العلمي في المؤسسات الثقافية الجامعية، التي أتاحت لهم – بالتأكيد - فرص توسيع مداركهم وتعميق معارفهم وتنويع خياراتهم . نقول برغم ذلك كله فأن الغالبية منهم - وللأسف الشديد - لم يبلغوا مستوى ما كان متوقعا"منهم على صعيد التفكير بالواقع السوسيولوجي العراقي والتنظير لاشكالياته، لاسيما وان مخاضات هذا الواقع وتداعياته من تكاثر الانثيال وتواتر التناسل، بحيث لا تحتاج إلاّ القليل من الجهد المعرفي والدربة المنهجية ؛ لتشخيص مصادرها ومنابعها، ومتابعة مساراتها ومثاباتها، ورصد إفرازاتها ومؤثراتها، وتعيين تخومها ومئآلاتها .

والجدير بالملاحظة في هذا الصدد إن هذه المآخذ والملاحظات التي نسجلها على البعض من رموز نخبنا، لا يراد منها الإيحاء كونها تنم عن ضعف معرفي ولا تشي عن ضحالة فكرية – كما قد يتبادر إلى الذهن لأول وهلة - بقدر ما نعتبر أنها نتيجة منطقية لتغليب قوالبهم الإيديولوجية المنمطة والأحادية على الأطر الاجتماعية ذات الطابع الدينامكي المركب من جهة، وفرض تصوراتهم المبتسرة والاختزالية بفعل الممانعات الذاتية، على بنى الوعي المتحولة وأنساق الثقافة المتغيرة ومنظومات القيم المتقلبة من جهة أخرى، بحيث يغيب عمق الأشياء المضمرة خلف سطوحها الظاهرة، وبالتالي يسقط عنها طابع الكلية والشمول . وهكذا يختفي من أفق التفكير ليس فقط طابع التقاطع والتصارع بين الظواهر الاجتماعية والإنسانية على نحو جدلي متواصل فحسب، بل وكذلك يسدل الستار على ما تمتاز به من حيوية في التفاعل وخصوبة في التواصل .

ولكي تكتمل لدينا ملامح المشهد الدرامي في إطار هذا الموضوع، فان من الضرورة بمكان الإشارة إلى أن الواقع الاجتماعي العراقي من الغنى في المعطيات والثراء في التداعيات، بحيث إن ما من نظرية واحدة تستطيع توصيف تصدعاته على هذا النحو من الفوضى، وما من منهجية متفردة تتمكن من تصنيف صراعاته بهذا الشكل من القسوة . الأمر الذي يتطلب أن يتسلح المرء (الباحث) المعني بأكثر من منظور معرفي مهما كان امتيازه، وأن يتمنطق بأكثر من طريقة منهجية مهما كانت ارجحيتها، ليس فقط لاكتناه طبيعته المعقدة واكتشاف علاقاته المتشابكة فحسب، بل وكذلك لاستنباط المعالجات المعقولة واجتراح الحلول المقبولة . أما الإصرار على التمسك بنظرية واحدة نتصور أنها معصومة من الخطأ، والتشبث بمنهجية أحادية نعتقد أنها مستثناة من الزلل، فان من شأن ذلك أن يكرس ظواهر الإعاقة في وعينا والتخلف في تفكيرنا والسطحية في طروحاتنا، وبالتالي المزيد من العتامة في الرؤية لآفاق الواقع والقتامة في التوقع لمئآلات المجتمع . خصوصا"وأن غالبية العلوم الاجتماعية والإنسانية المعاصرة قد طورت جملة من المعارف النقدية والمنهجيات التفكيكية، التي يمكن من خلالها وبالاعتماد عليها سبر أغوار المخفي من الدوافع وهتك أسرار المحجوب من النوازع، التي لم تبرح تغذي خلافاتنا السياسية وصراعاتنا الاجتماعية وكراهياتنا الدينية واحتقاناتنا النفسية وتصدعاتنا القيمية !. 

ولعل من هنا تكتسب دعوتنا لأرباب القلم – بمختلف مستوياتهم المعرفية وتنوع تخصصاتهم العلمية - بالتخلي عن الأساليب التقليدية في صياغة الرؤى وطرح التصورات، وجاهتها المنطقية ومشروعيتها الأخلاقية في نفس الآن، لاسيما وان تسارع الأحداث وتدفق المعطيات وانثيال التداعيات، غالبا"ما تأتي لتكذب تلك الرؤى الزائغة عن الوقائع، وتفضح تلك التصورات المنحرفة عن الحقائق . إذ لم يعد من الوطنية في شيء، ولا حتى من اللائق بالنسبة لمن يصنف نفسه ضمن خانة الشريحة المثقفة، أن يستمر التعويل على أسلوب الكتابة الخطابية المؤدلجة في معالجة أوضاعنا السياسية والاجتماعية والثقافية المكركبة، كما لو أننا لا نزال نعيش في عصر حركات التحرر الوطني والقومي التي سادت في عقود منتصف القرن الماضي . ذلك لأن نمط التحديات المصيرية التي يواجهها المجتمع العراقي بكل أطيافه ومكوناته، لم تعد تتحمل أن تطرح من منظور الإيديولوجيات التقليدية التي أكل عليها الدهر وشرب، سواء أكانت من صنف الراديكالية بكل تياراتها، أو الطوباوية الدينية بكل فصائلها، أو الرومانسية الوطنية بكل عناوينها . إنما هي بحاجة إلى من يحلل طبيعتها الملتبسة ويفكك بناها المتكلسة ويحرر طاقاتها المحتبسة، على وفق فكريات ابيستمولوجية حديثة ومنهجيات نقدية معاصرة، حيث تستلهم لغة العلم وتستبطن قيم العقلانية . ولذلك فان هذا النمط من التفكر والتدبر لا تشجع التباكي على الأطلال والمراهنة على الآمال، بقدر ما تحضّ على التصادم مع عقبات الواقع والاشتباك مع محرمات المجتمع، حتى وان كانت النتائج مؤلمة والخسائر مكلفة . أما الاكتفاء بلعن هذا الطرف ولعن ذاك المكون من باب إسقاط الفرض، نعتقد انه لم يعد يجدي فتيلا"في مضمار المصائب فيه متواصلة والنوائب فيه متناسلة . وهكذا فعلى من يجد في نفسه القدرة على خوض غمار هذا التحدي الكبير، ويعتبر انه أهلا"للقيام بهذه المهمة الجليلة والخطيرة، أن يتقدم ليدلي بلوه وبساهم بقسطه وإلا فان إيثار الركون إلى الصمت يكون أكثر مدعاة لاحترام النفس وتقدير الذات !.  

 

ثامرعباس

 

في المثقف اليوم