آراء
عصمت نصّار: مقامة لسانيّة في المعنى والدلالة والحروب العصرية (3)

(في الأكاذيب المُخادعة، والمعارف المضللة، والمكور المُهلكة)
القلم: كنت قد اعتدتُ التجسس على وحي أفكار صديقي الكاتب كيما أتعرف على طبيعة المداد الذي يسكبه في أحشائي حتى أسطر به الأوراق التي تحوي الكلمات والجمل المعبرة عن المقاصد والمآرب، تلك التي تستقبلها الأذهان فتقود بدورها المدركات والمشاعر وتولد آليات الفصل بين الأخطاء والصوائب، فبصرتُ إلهامات علوية تقود كاتبنا للكشف عن مخاطر الأضاليل والأكاذيب والمكائد التي باتت عُدة المخططين المعاصرين للحروب ومخترعي الأسلحة ومفتعلي الكوارث والمصائب، وفطنت أن الدلالات والمعاني وألفاظ الكلام ما هي إلا أجراس تنبّه الأيقاظ وتوقظ النيام، وتأكد لهم أن حروب هذا العصر لها أساليب شيطانية فالوسوسة وإفساد الأفكار، أقوى من البارود والقنابل في هدم الحضارات وتفكيك المجتمعات وإحداث الدمار.
وتذكرت لحظتها سفسطة الكذب التي ابتدعها إبليس، وصنع منها سيف المخادع وخنجر الخائن وسم المتآمر الخسيس.
وأدركتُ كذلك حكمة فلسفة الكذب التي حوتها أقوال الفلاسفة والحكماء لمناهضة وساوس الشيطان الماكر، وتيقنت أيضًا من صدق نية كاتبنا الذي أزمع أن يحدثنا عن تلك المخاطر وآليات الإنقاذ من شرورها الخفي منها والظاهر.
الكاتب: مهلًا أيها الرفيق، في زمن غاب فيه ود الصديق وحنان الشقيق؛ فلما العجلة فقد اخترقت الحجاب المستور، الكامن في السرائر من الأفكار والأمور. وقادتك ظنونك أني أهملت أسئلتك واستفساراتك التي شغلت بالك وبدلت أحوالك. واعلم أني وضعتها في بؤرة الشعور والاهتمام، وهي قيد البحث والتحري حتى تسلم جوائبها من التدليس والأوهام والإيهام.
فسؤالك عن كيفية استحالة الكلمات والمعاني والدلالات إلى قنابل وألسنة من اللهب، وصواريخ تنطلق من جوف الأرض، فتبدد سكينة الأمنيين إلى دمار تعجز عن وصفه كتب التاريخ، ذلك فضلًا عن تحول الحوارات إلى صراع وعراك بين الدول والحضارات، وانقلاب رؤساء البلاد القوية، إلى نهيبة وبلطجية، وقطاع طرق لسرقة أرزاق المستضعفين والمسالمين والمغفلين والمخدوعين بأكاذيب النخب المأجورة، والجماعات المدسوسة المفطورة على الغش وبصناعة الفتن وبالخيانة مأمورة.
ولما العجب يا صاحبي فقد سطر معجم الدروس، ومفردات القاموس عصبة من المحتالين واللصوص. فعرّفوا الحرية، بأنها لعبة مخفية، يتاجر بها في المجتمعات الرجعية وأصحاب الديانات السماوية؛ تارة باسم العقلانية والعلوم والمدنية، وأخرى من أجل المساواة وحقوق الأقلية.
وللحرية دلالة أخرى لا يعيها إلا أبناء الأمم الراقية، من الأوربيين والأمريكان وأصحاب البنوك والشركات والأقمار والاتصالات التي تجوب الآفاق السارية.
وقالوا عن العدالة: أن ميزانها من صنعهم الذي لا يقضي إلا بأحكامهم؛ فمن أبى وعصى جزاءه السجن والشنق والعصى، وإن كان مظلوماً ..
أمّا الكريم من أصحاب المعالي؛ فهو المستبد الذكي الحصيف الذي يفتح خزائنه ليعطيهم؛ فجرائمه تستحق الحماية وأنين شعبه يحتاج للأدب والرباية.
وقالوا عن العولمة: أنها خدعة وهمية يصعب تحقيقها في زمن العقول الغبية، إذ ذاك أمكن أن يكون للحديث بقيّة.
***
بقلم: د. عصمت نصّار