قضايا

نحن الغاضبين جداً والإنحطاط المعرفيّ

mohamadhusan rifaei|إلى الأساتذة الجامعيين، والباحثين، والعلماء، والفلاسفة، والمفكرين، وطلاب المعرفة،

إلى الجامعات، والكليات، والآكاديميات، والمعاهد في العلوم الإجتماعية والإنسانية،

إلى وزارات التعليم العالي، ووزراء التعليم العالي، والبحث العلمي،

في بلداننا العربية، بعامَّة؛ وفي لبنان الحبيب، والعراق الحبيب، بخاصَّة.

هذا الذي بين أيديكم، لا هو خطاب معرفيّ، ولا هو بحث علمي، ولا هو بحث ضمن المعرفة العلمية بالمجتمع والإنسان. إنَّه رسالة روحيَّة من الرُّوح إلى الرُّوح؛ إنَّه، أيضاً، إلى روح العالّم.

(I)

بلغت المعرفة، في بلداننا العربية، مستوىً من الإنحطاط المعرفيّ الذي لا يمكن أن يُتعامل معه، ولا أن يُتناول بأي ضرب من ضروب الصَّمت. لقد بلغْنا ذاك المستوى، الذي فيه، تُؤخذ المعرفة العلمية الحديثة: المعرفة العلمية الحديثة بعلوم المجتمع والإنسان، بوصفها سرداً ساخراً ورديئاً للمفاهيم العلميَّة العميقة. أمّا بشأن تسميتها بالأدب، والآداب، فذلك يدلُّ على مدى الجهل بها، والتجاهل في تناولها.

(II)

بوصفي (اللاّ- أحدَ- الأصليَّ)، يحقُّ لي، والحقَّ أقول، إنَّهُ يحقُّ لي، بتمامِ الحقِّ، من شدَّة الألم المعرفيِّ، أن أضع شيئاً ما، هو (لا- شيئيٌّ- بكليَّتِهِ)، ههنا- والآن، من أجلنا (نحن- رفاق- الرُّوح) الغاضبين جدَّاً.

لقد هربنا طويلاً من الإنحطاط المعرفيّ بضروب وجوده المختلفة؛ إلى أن أصبح كُلَّما يلتقي بنا، يغيّر طريقاً هو يسير عليها، تفكيراً (على- الضدِّ- من- التفكير- بعامَّة).

لقد أصبح ضيفنا في كل ليلة؛ إنَّه يلاحقنا حتّى إلى سرير نومنا.

(III)

ولكننا، مع ذلك، نحن بحاجة إليه؛ إننا دائماً، نحن معشر المتفلسفة الجُدُد، والجُدُد جدَّاً، لا يمكن لوجودنا أن يتحقق، من دون موضوعه.

وكوننا (موضوعيَّاً- في- الذات- نكون)؛ لا نسمح لأنفسنا أن نكون إلاّ منصهرين، بكليَّتِنا، في بوتقة الموضوع.

ومن أجل أن ثمَّةَ آيديولوجيا تلاحقنا دوماً، فإننا نوجد فوق (الصراع- بعامَّة).

يكفي أن نشُمَّ رائحة آيديولوجيا عفنة، حتّى نهرب بها إلى نقاوتها العميقة؛ المُحتَجبة والمنسية، دوماً.

(IV)

نحن، أيضاً، لسنا نتمتع ببرود يسمح لنا أن نغوص في صيرورة شيء، وفي الوقت نفسه، الشيءُ هو ذات نفسه الأعمق ذاهب إلى حتفه. فعلى سبيل التمثُّل، لا الحصر: لا نسقط في صيرورة مفهوم، ولا ننحط إلى مستواها الزمني، وفي الوقت نفسه، نعي أن الواقع المجتمعيَّ لا يقدم أيَّ تبرير لهذا السقوط والإنحطاط. فعندنا، وبعبارة صارمة: المفهوم إمّا أن يكون آتياً من الواقع المجتمعيِّ، وإمّا أن يكون ذاهباً إلى الواقع المجتمعيّ.

(V)

يا حرفيِّي عالَم العلم، أيها الموظفون بـ (د.) فقاعية،

إنَّ البيت يحترق، فلماذا أنتم منشغلون بسقي وردتكم المفضلة، في غرفتكم المفضلة، في بيت آيل إلى رماده؟

يا أيها الرفاقُ في الرُّوح،

إنَّّ البيت يحترق، وروحيّ تحترق. فلِمَ أنتم منشغلون بالتفكير بتحفكم البالية؟ بتلك المومياءات التي تنشر العَفَن في العالَم؟

يا أيها الرفاقُ بالرُّوح، للرُّوح،

إنَّ الرُّوح، ههنا، تنزف دَّماً، فلِمَ لا تنفك قهقهتكم الساخرة تتساقط سِهاماً على الفكر؟

يا روحَ العالَم،

إنَّما التفكير أصبح ضرباً من الوهم، والفكر غدا سلعةً؛ أصبح في العرض- والطلب مفعولاً به.

إنِّي لا أستطيع أن أكون بارداً، كل هذا البرود، وفي الوقت نفسه، نهر الدَّمِ، بتدفُّقٍ هائل، يجري في بلداننا.

... ولكنَّنا نحترق، نحن الكافرين جداً بالإنحطاط المعرفيِّ، نحترق من أجل أنَّ جيلاً من الشباب بأكمله، من الغاضبين جداً، أولئك الذين سوف ينشرون (قلق- التساؤل) في كل حقول الوجود، سوف يكون، ويستمر في كينونته، لا محالة. نحن نحترق من أجل أن نكون نوراً في طريقهم الطاهرة.

(VI)

سوف نقول، وبما أنَّنا نعي أنَّ ما يُقال، ههنا، (ميتا- لُغَويٌّ)، ولمجرَّد أنَّ (العقل- العَبد) لا يتَّسعُ، بِحِيَلِهِ المنطقيَّة المختلفة، للقول:

إنَّما موتُ التساؤلِ، وتمويته، لهو موتُ الرُّوح، وتمويتها.

وفي هذين الأمرين، يتوقف (الوجود- في- كليَّته)، من جهة، وثَمَّ فَهْمٌ ليس يقوم إلاّ (على- الضِّدِّ- من- ذاته)، من جهة أخرى.

(VII)

لا يليق بنا، نحن العقلانيّين جداً، نحن الشعوريِّين جداً، أن نكون ضمن موقِفَيْ الـ (مع- ...)، أو (على- الضِّدِّ- من-...).

إنَّنا، والحال هذي، نترك الأشياء أن تكون هي ذات نفسها، كما هي (في- كلِّ- مرَّة) تُقدِّم نفسها إلينا.

هكذا نستضيف الإنحطاط المعرفيّ في ضيافة روحيَّة عظيمة.

وإنَّنا نجد عين التصرف السليم، والصائب جداً، أن يُتعامل معنا، في حضرته (الإنحطاط المعرفيّ)، بضروب التجاهل، وحتّى الإهانة. وكُلُّ إهانةٍ، ههنا، لهي مُرحَّبٌ بها؛ وبما أنَّ كلَّ إهانةٍ جرحٌ مفتوح، ولأنَّ "الجُرح يستنهض الشجاعة"(: وحتّى لا أقول العُنف)؛ فبالمنطق نفسه، لا يُستنهض التساؤل الأصليّ، القائم على التفكير الأصليِّ، عَبر فهم الإنحطاط المعرفيِّ، الآتي بعلمٍ أصليٍّ، إلاّ بتوسُّط (الإنحطاط- المعرفيّ- بعامَّة).

(VIII)

بشجاعةٍ، وبقوَّةٍ، نذهب إلى حتفنا. نحن الذين لا نستطيع أن نوجد ناقصين، في حقل وجود مزيَّف، ولا نتوفَّرُ على إمكانية الوجود فيه.

إنَّنا الغارقينَ جداً في (حقل- الفهم)، المتسائلين دائماً، نحن الذين لا نهدأُ إلاّ في ممارسة (التفكير- بعامَّة)، في كليَّة الأشياء، في كل شيء، حتّى (اللا- شيء- العظيم)، لا يمكن أن نوجدَ إلاّ كُليَّاً.

(IX)

إنَّ دعوةً من أجل (وَضْعِ- قلق- التساؤل) في الرُّوح اللاّ- رُّوح التي من شأن الإنحطاط المعرفيّ، لهي المبرر الآنطولوجيّ الحقيقي لوجودنا الكلّيّ.

(X)

بيد أنَّهُ كيف للإنحطاط أن يتلقّى تساؤلَنا؟

إنَّهُ يتجاهله، ويتجاهله، ومن ثُمَّ يتجاهله. ومن بعدُ يهينه؛ بضروب مختلفة من ممارسة العنف.

ولكنَّني، في الأفق، أرى، كما أرى الشمس كل صباح، ثَمَّةَ أزمةً معرفيَّةً هي من التفكير بالإنحطاط المجتمعيِّ بعامَّة تكون.

إنَّما ضروب الإنحطاط المجتمعيِّ في البُنى المجتمعية الأساسية (سياسة- ثقافة- إقتصاد)، تجعل من غَضبِنا مُقدَّساً نقيَّاً نبيلاً هو ذاهبٌ إلى تفكيك الأسس.

يا لهذا الغضب العظيم.. إنَّه القوَّة العظيمة التي تذهب إلى البناء، ولا تتجاهل ذاك الهَدم المستمر.

(XI)

كلُّ أزمة معرفيَّة تقوم على تساؤلات معرفيَّة أصليَّة؛ تؤدي الأزمة، لا محالة، إلى الثورة المعرفية. يتم التعامل مع هذي الثورة، من قِبَلِ مجتمع العلماء، والمفكرين، والباحثين، والفلاسفة، والطلاب، والأساتذة الجامعيين، ضمن إحتمالين لا ثالث لهما:

1- إمّا الرفض التام للتساؤلات، وفي أكثر الأحايين حجبها، وتغييبها، من قبل الباحثين الكبار في السن، أولئك العَجَزَة الذين لا يسمح لهم وجودُهم بالتشكيك فيه، وبه، لأنَّ التشكيك به لهو تشكيك بذواتهم، وأنواتهم،

2- وإمّا التعامل مع التساؤلات بوصفها مشروعةً، تَبُثُّ القلق، أوَّلاً وفوق كل شيء، في مجتمع الباحثين القُدامى. ولأنَّ القلقَ: (قلق- التساؤل) لا يمكن أن يُطاق إلاّ من قبل الباحثين وطلاب المعرفة الشباب جداً، أولئك أصحاب الأرواح النقية، والأجساد الأكثر قوَّةً؛ فسوف نكون، والحال هذي، أمام حقل علم جديد يُبنى.

(XII)

يا أيها الرفاق، يا إخوتي في (الإنسان)، و(المجتمع)،

إغضبوا، فإنَّ الغضب أكثر فاعليَّةً من الحزن، وأكثر قُرباً إلى ماهيَّة الإنسان الإنساني جداً، وسط هذي المجزرة.

(XIII)

يا أيتها الأرواح النقيَّة،

لقد جئنا لنُقلق العالَم. إنَّنا لا نعوِّلُ على ما لا يُكتب بدَّمٍ روحيٍّ.

ونحن أيضاً...

ولكن من نحن؟

نحن أولئك القادرين على تجاوز ذواتهم (في- كلِّ- مرَّةٍ)؛ إننا لسنا نوجد إلاّ (في- كلِّ- مرَّةٍ).

 

 محمَّدحسين الرفاعي

رفيقُكم في الرُّوح، والإنسان، والمجتمع؛ المتسائلُ دائماً.

 

في المثقف اليوم