قضايا

المفارقات المنهجية في نشأة اللغة العربية (2)

محمود محمد علينعود إلي الجزء الثاني من حديثا عن المفارقات المنهجية في نشأة لغتنا العربية فنقول : كان أول من تعرض للحديث عن نشأة النحو "ابن سلام الجمحي" (المتوفي 232هـ) قال : " وكان أول من أسس العربية، وفتح بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسها أبو الأسود الدؤلي "؛ ويذكر أبو الطيب اللغوي (المتوفي 351هـ) روايات أخرى تُجمع على أن أبا الأسود هو الواضع لعلم النحو، ولا تشير إلي الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، أو غيره، وذكر "أبو سعيد السيرافي"  (284هـ - 368هـ) بعد الرواية التي تشير إلى اختلاف الناس في واضع النحو روايات متعددة تُجمع على أن أبا الأسود هو الواضع لعلم النحو بعد قوله في الرواية السابقة "وأكثر الناس على أبي الأسود". ونفس الشيء  ذهب إليه ابن قتيبة الدينوري في كتابه " الشعر والشعراء " (213 هـ-15 رجب 276 هـ)، إذ يجعله " أول مَنْ عمل في النحو كتابا ".

ويمكن أن نعلق على الروايات الثلاث، ففيما يتعلق بالرواية الثانية والثالثة  التي تعزي وضع النحو إلى "أبي الأسود الدؤلي" بمشاركة "نصر بن عاصم الليثي"، و"عبد الرحمن بن هرمز" الإمام "علي بن أبي طالب" (كرم الله وجهه)، أو تفرده بوضع النحو  فإننا نقول استناداً إلى الروايات الكثيرة الواردة في وضع أبي الأسود للنحو إن أبا الأسود هو الذي يصح أن يعد واضع النحو والمؤسس الحقيقي له، وذلك لما لهذا الرجل من علم واسع في علوم العربية، وإطلاع غزير على مسائلها، زد على ذلك أنه وضع أول نقط يحرر حركات أواخر الكلمات في القرآن الكريم . علاوة على أن أبا الأسود هو البادئ بوضع هذا العلم بتدوين يء من أصوله وضوابطه . ولا يعنينا إن كان عمله هذا بدافع ذاتي أو بحث من الإمام علي أو زياد أو ابنه عبيد الله .

وأما فيما يتعلق بالرواية الأولي، التى تُعزي وضع النحو لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، فإننا لا نؤيد أن يكون الإمام علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) هو من وضع علم النحو كما قالت الروايات في هذا الصدد، وذلك لأن  " الأعباء التي كان يضطلع بها الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أثقل من أن تتيح له التفكير في وضع النحو ؛ إذ كان - كرم الله وجهه – موزع الجهد والفكر لتثبيت دعائم الدولة، وإقامة أحكام الدين، وتدبير شئون الرعية، وإحباط المكائد.

وننتقل إلى نقطة أخرى نود أن نناقشها، وهي تتعلق بعملية نشأة القاعدة النحوية، فمن المعروف أن النحو العربي قد مر في نشأته بمرحلتين :-

المرحلة الأولى - ضبط النص القرآني، وكانت هذه المرحلة العاجلة التي تطلبت حلاً سريعًا، ولقد كان هذا الحل – الذي قام به أبو الأسود الدؤلي – خطوة تمهيدية لنشأة القواعد اللغوية، بيد أنها مع ذلك جوهرية . ولقد اتسم ضبط النص القرآني، الذي اصطلح عليه فيما بعد بنقط الإعراب – بالضرورة باعتبار أن الحاجة العاجلة إلى العربية لغة إنما تنطلق من الرغبة في صحة التعامل مع النص الديني أداء، وهذه الرغبة متصلة أوثق الاتصال بالعقيدة، ومن ثم كان يشتد إلحاحها مع اتساع دائرتها، وازدياد انتشارها.

المرحلة الثانية - الانتقال إلى التصدي المباشر للمشكلة اللغوية، ولقد بدأت هذه المرحلة عقب الانتهاء من المرحلة السابقة، إذ لفت نظر أبي الأسود أثناء ضبطه للنص القرآني هذا الاختلاف في الحركات في أواخر الكلمات، وليس من المستبعد أن يحاول  أبو الأسود إيجاد تصنيف من نوع ما لهذه الحركات، بل لقد صنفها بالفعل إلى : مضمومات، ومفتوحات، ومكسورات : منونة، وغير منونة . وهكذا أدرك  أبو الأسود ظواهر التصرف الإعرابي، وإن لم يستخدم بالضرورة المصطلحات التي وضعت له من بعد، وكان هذا الإدراك نقطة البدء في التفكير في ظواهر اللغة، ومن ثم التناول الموضوعي لهذه الظواهر.

وهكذا أثمرت الخطوة الثانية، التي تم فيها التصدي لمواجهة تحديد المشكلة اللغوية – بعد فترة طويلة من المعاناة في استكشاف ظواهر اللغة، وتحديدها، والتردد في تصنيفها وتشكيلها – وضع قواعد النحو، تلك القواعد التي أتيح لها أن تنمو، وتتطور، وتنضج، وتستقر، حتى يصيبها الاستقرار بما يصيب كافة الظواهر من تجمد واحتراز، وهذه القواعد كما قلنا من قبل، قد انفرد بروايتها " أبو القاسم عبد الرحمن الزجاجي، (توفي عام 340 هجري) "، وهو أحد نحاة القرن الرابع الهجري حين نسب علم النحو إلى الإمام علي بن أبي طالب من خلال الرواية التي ذكرناها له من قبل، عندما دخل عليه  الصحابي الجليل "أبو الأسود الدؤلي" وبدأ يملي عليه أبواب النحو " ؛ وهذه الرواية تناقلها المؤرخون بعد ذلك بنصها، فوجدنا " أبو البركات الأنباري (513 هـ-577 هـ )، وهو أحد نحاة القرن السادس الهجري في كتابه "نزهة الألباء "؛ وكذلك كل من ياقوت الحموي (المتوفي 626هـ) في كتابه "معجم الأدباء"، والقفطي (المتوفي 645هـ) في كتابه " أنباء الرواة "، وهما من نحاة القرن السابع الهجري، وعنهما سار كل النحاة الباحثين عن نشأة النحو يعولون على روايتهما.

وهذا الأمر يجعلنا نتساءل : كيف تسني لعصر أبي الأسود أو الإمام علي بن أبي طالب( والذي أطلقنا عليه بأنه يمثل المرحلة الوصفية من نشأة علم النحو)، أن يحمل كثيراً من التعريفات، والتقسيمات، والأبواب، في النحو؟  من أين جاء تقسيم الكلام إلى أسماء، وأفعال، وحروف، ثم يضع لكل منها تعريفا ؟! وكذلك تقسم الأسماء إلى ثلاثة : ظاهر، ومضمر، ومبهم، ويوضع لكل منها تعريفاً، ثم يُضرب لها أمثلة ؟! وكذلك تُوضع أبوابًا في النحو عديدة منها : باب الفاعل، والمفعول، والتعجب، والمضاف، وأدوات الرفع، والنصب، والجر، والجزم، والنعت، والاستفهام ؟! وليت الأمر وقف عند ذلك، بل رأينا الكثير من كلام بعض المؤرخين ما يُفهم منه أنه قد وضعت أبواب النحو جميعًا وبتمامها؟!

إنني أعتقد بأن هذه الرواية التي رواها " الزجاجي "، ومن بعده " ابن الأنباري "، و"ياقوت الحموي"، و"القفطي"  عن نشأة النحو وأجمع على ذكرها عليها جميع النحاة المتأخرين بعد ذلك، قد حملت في تقسيم أبواب النحو بُعدين : بُعد شيعي، وبُعد منطقي، ويمكن توضيح ذلك على النحو التالي:-

1- البُعد الشيعي:

وهذا البُعد رجحه الكثير من أساتذة النحو المعاصرين ؛ حيث رأوا أن كل الروايات التي رواها المؤرخون بداية من القرن الرابع الهجري وما بعده، والتي أكدت على أن "علي بن أي طالب" رضي الله عنه،  هو الذي قسم أبواب النحو، حملت بُعداً شيعياً، فوجدنا مثلاً بعض الباحثين المعاصرين المتعصبين للفكر الشيعي أثناء تعليقه على روايات النحاة المتأخرين، يقول :" والذي نراه أن الإمام "علي بن أبي طالب" رضي الله عنه، لم يكن شخصاً اعتيادياً، بل هو إمام معصوم، نشأ نشأة عربية خالصة، وتربي على يد الرسول الأكرم" محمد" صلي الله عليه وسلم، فليس غريبًا أن يوجه أبا الأسود الدؤلي ويرشده ويشرف عليه في وضع اللبنة الأولى للنحو العربي وكثرة المعارك التي شهدها عصره، لم تعفه من هذه المهمة الجليلة، فالإمام خاض المعارك ضد المشركين والمنافقين والطامعين من أجل إعادة الناس إلي جوهر الإسلام ولب العقيدة، ووضع القواعد النحوية جزء لا يتجزأ من واجباته التي يراها ضرورية لحفظ القرآن الكريم، وتنقيتها من الشوائب واللحن والفساد، وقدراته في العربية غير خافية على أحد وتُعد خُطبه التي جمعها "الشريف الرضي (ت:406هـ) " فيما بعد خير دليل على ما نقول، ففيها من براعة الأسلوب ومتانة اللغة ما يدل على علو باع الإمام علي بدقائق اللغة، ومعرفة دقائق مسائلها .

وإلى مثل هذا الرأي ذهبت الدكتورة " خديجة الحديثي"  في كتابها "الشاهد وأصول النحو في كتاب سيبويه"، ولكنها لم تنسب ذلك إلى التشيع، وإنما إلي أن أبا الأسود ربما نسب ما فعله إلى الإمام "علي" ليضفي عليه صفة دينية ؛ وفي هذا تقول :" ومثل هذه الرواية القائلة بأن الإمام "علي بن أبي طالب" هو الواضع الأول لعلم النحو، لأن الصحابة الأوائل، وعلي رأسهم علي (رضي الله عنه)، لم ينصرفوا إلى هذه الناحية، إنما كان جل همهم منصباً على تثبيت أركان الإسلام ونشره خارج الجزيرة العربية، والذي نراه أنه كان من بين الذين حثوا "أبا الأسود" إلى ما وضعه مما اشتهر به من نقط المصحف، والذي هو جزء من الإعراب والنحو، لما عرف عنه من ملازمته إياه واتصاله الدائم به . وقد يكون "أبو الأسود" نفسه هو الذي وضع النحو للإمام "علي" حتي يشتهر ما وضعه ويأخذ به الناس بعد أن يكتسب صبغة دينية تبين قيمة هذا العمل الذي قام به .

ومن جهة أخرى تؤكد الدكتورة "خديجة" في كتابها " المدارس النحوية"، حين قالت :" إنه من غير المعقول أن يكون الإمام "علي"، قد وضع أول ما وضع هذه التحديدات والرسوم والتقسيمات الناضجة المحددة للكلام، وأقسامه، وتحديد كل قسم بلا أمثلة، إنما بتحديد نظري لم نجد مثله في كتاب سيبويه، الذي جاء بعد "علي" رضي الله عنه، بمائة وأربعين سنة، وكذا تقسيمه الأشياء،أو الأسماء، إلي ظاهر، ومضمر غير منطقي، وغير معقول وجوده في زمن كزمن الإمام "علي" . أما وضع أبي الأسود لحروف النصب ونسيانه "لكن" وقول الإمام "علي" له: هي منها فزدها فيها "، فيدل على أن النحو قد بلغ في أيامهما أوج نضجه واكتماله ؛ لهذا فالرواية غير واقعية ولا مقبولة . وسار على منهجها من التشكيك الشيخ "محمد الطنطاوي".

وبالسياق نفسه يحاول المفكر اللغوي الدكتور " علي أبو المكارم" (المتوفي في 26 يوليو 2015م)  في كتابه "تقويم الفكر النحوي"، استبعاد أن يكون الإمام "علي" من أوائل الذين وضعوا النحو محتجًا بسببين : الأول - وضوح الهدف السياسي من نسبة هذه الأولية إليه . والثاني - أن طبيعة الظروف السياسية وعمق التغيرات الاجتماعية التي جابهته كانت من العجلة بحيث فرضت عليه مواجهتها، وشغلت فكره عن الالتفات إلى غيرها .

وأما أستاذنا الدكتور " شوقي ضيف " (المتوفي 10 مارس 2005م)، في كتابه " نشأة النحو وتطوره"، فقد أعلن أن "الروايات التي وردت بشأن نشأة النحو على يد أبي الأسود أو الإمام "علي"  تحمل تضاعيفها ما يقطع انتحالها لما يجري فيها من تعريفات، وتقسيمات منطقية، لا يُعقل عن علي بن أبي طالب أو عن أحد معاصريه، ولعل الشيعة هم الذين نحلوه هذا الوضع القديم للنحو الذي لا يعقل في شيء  وأولية هذا العلم ونشأته".

وذهب إلى مثل هذا المذهب الدكتور "أحمد مكي الأنصاري" في بحث له بعنوان "التيار القياسي في المدرسة البصرية"، فقال :" وإذا أردنا أن نناقش هذه الروايات – يعني نشأة النحو مناقشة علمية هادئة هادفة، ينبغي أن نستبعد منذ البداية تلك الروايات التي تنسب إلى الإمام "علي" كرم الله وجهه أنه هو الذي وضع النحو العربي، وليس معني ذلك أن الإمام عليا أعجز من أن يضع مثل هذا النحو المفصل، ولكن لأن الزمن لا يلائم هذا التفصيل المنطقي، كما أن الإمام "علي" كان مشغولاً بما هو أهم من ذلك بكثير في تلك الظروف السياسية المضطربة التي كانت في أمس الحاجة إلي جهود متكاملة". ثم ذهب الدكتور "الأنصاري"، وهو يحاول أن يرد الروايات التي نسبت وضع النحو إلى الإمام علي إلى أن " نسبة الوضع التفصيلي للإمام علي جاءت من فكرة التشيع التي تنسب إليه دائمًا عظائم الأمور، في حين أن مكانته العظيمة في غنى عن مثل هذا الانتحال الواضح، ولكن العصبية المذهبية تطغي على العقول، ومن يدري لعل أبا الأسود نفسه هو الذي نسب ذلك إلى الإمام "علي" إرضاء للنزعة الشيعية المتعمقة ". وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم