قضايا

غواص في كتاب سيبويه (1)

محمود محمد علييعد كتاب سيبويه أول كتاب نحوي كامل يظهر للناس، فقد ضمنه مؤلفه سيبويه قوانين لغة العرب التي استقاها من لغتهم . وضمنه الأبنية التي يستعملونها في هذه اللغة، وموضوعات صرفية أخرى كالتصغير، والنسب، وتضمن الكتاب أيضاً دراسات صوتية لغوية كالإدغام، والإمالة، والإعلال والإبدال، فكان بذلك جامعاً موضوعات علم اللغة الحديث كلها : النحو والصرف، والأصوات، وكان علامة مضيئة في حركة التأليف النحوي .

وقد اتخذ كتاب سيبويه مكانة لا يضاهيه فيها كتاب قواعدَ في أمَّةٍ من الأممِ، فقد جذَبَ أعيُنَ النَّاظرين، وتنافسَ في دراستهِ المتنافِسون وشرحه سبعةٌ وثلاثون شارحا من كبار فقهاء النَّحو ومُفتيه، وصار دليلا على تمكّنِ العالمِ ورسوخِه، ولا أدلَّ على عِنايتهم بهِ أنَّ بعضَهم كانَ يسردُهُ غيباً كما يحفظُ الكتابَ العزيزَ، وجاء في بعض الروايات أنّ "عبد الله بن محمَّد الأسلمي "(نحو 430هـ) كان يختمُهُ كلَّ خمسةَ عشرَ يوما وقد عده "السكاكي" المتوفي 626هـ، ( في كتابه مفتاح العلوم) كتاباً لا نظير له في فنه، ولا غني لامرئ في أنواع العلوم عنه، ولا سيما الإسلامية، فإنه فيها أساس وأي أساس، ورآه "ابن حمزة الأصبهاني" المتوفي سنة 360هـ :" زينة لدولة الإسلام". ولشدة اعتزاز "المبرد" بالكتاب كان يقول : لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثله "، وكان "أبو عمرو عثمان المازني "، يقول :" من أراد أن يعمل كتاباً كبيراً في النحو بعد كتاب سيبويه فليستحي مما أقدم عليه . وقيل : بل قال : فليستنجد به. وكان "صاعد بن أحمد الجياني"، من أهل الأندلس يقول في كتابه "طبقات الأمم" : لا أعرف كتاباً ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها، فاشتمل علي جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب . أحدها : المجسطي لبطليموس في علم هيئة الأفلاك . والثاني : كتاب أرسطاطاليس في علم المنطق. والثالث: كتاب سيبويه البصري النحوي . فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فنه شيء إلا مالا خطر له . وجاء في المُزهِر للسيوطي في وصفِ كتابِ سيبويه : " الكتابُ الَّذي أعجَزَ من تقدَّم قبلَه، كما امتنعَ على مَنْ تأخَّرَ بعدهُ "، ويكفيه رفعةً أنَّهُ الكتابُ الَّذي لا عُنوانَ له، فإذا قيلَ الكتابُ انصرفَت الأذهانُ إليه لشهرتِه وشهرةِ صاحبِه، وما تلك الوعُورةُ الظَّاهرةُ في أساليبهِ إلا بُرهانٌ على عقليَّةِ سيبويه الفذَّةِ .

وهذا دليل على أن الكتاب لا يحتوي على النحو والصرف فقط، بل يبحث في مختلف فروع العربية، ويتعرض لكثير من المسائل الدينية والدراسات القرآنية، فهو كالبحر في تعدد ما يحتويه من أصناف العلوم والفنون، لذلك كان القدماء يسمونه " البحر "، أو " البحر الخضم" تشبيها له بالبحر لكثرة جواهره ولصعوبة مضايقه، وكان المبرد إذا أراد إنسان أن يقرأه يقول له :" هل ركبت البحر؟ تعظيما واستصعاباً لما فيه فكاه لن يستطيع تحمل مشاق قراءته والصبر على استخراج دقائقه وعويصه إلا من ركب البحر وتحمل أهواله، وإلا من غاص فيه واستطاع استخراج درره وجواهره .

ولم يقف إجلال الكتاب على المعجبين بسيبويه من القدماء، إنما تعداهم إلى خصومه، فكان لهم نصيب كبير في الانتفاع به وتقديره لا يقل عن نصيب المحبين، فهذا "علي بن حمزة الكسائي (ت:  189 هـ)، مع خصومته لسيبويه – يقرأ علي أبي الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش كتاب سيبويه ويدفع له مائتي دينار . قال أبو العباس أحمد بن يحيي عن سلمه قال : قال حدثني "الأخفش" أن "الكسائي" لما قدم البصرة سألني أن أقرأ عليه أو أقرئه كتاب "سيبويه" ففعلت فوجه إلي خمسين دينارا وقيل بل وهبه سبعين دينارا، وكان يقول : كان الكسائي يقول لي : هذا الحرف لم أسمعه فاكتبه لي فافعل .

أما "أبو زكريا الفراء" وهو من يعلم تتبعاً لأخطاء "سيبويه" ومخالفة له حتي في ألقاب الإعراب وتسمية الحروف . والذي كان زائد العصبية عليه، حتى هذا الخصم نراه لا يستغني عن كتاب سيبويه، إنما يقرأه خلسة وقد وجد الكتاب تحت وسادته بعد وفاته.

ولما كان الكتاب موضوعاً لكل عصر، وليس مقصوراً على دارس دون آخر، نجد المحدثين قد اعتنوا بدراسته وقدروه حق قدره، ولم يكن تقديرهم له أو رأيهم فيه بأقل من رأي القدماء، فالجميع رأوا الحق واتبعوه وعبروا في أقوالهم عن إعجابهم وتعظيمهم للكتاب ولمؤلفه . فهذا الأستاذ أحمد أمين (في كتابه ضحي الإسلام) يقول في معرض حديثه عن نشأة النحو: وتاريخ النحو في منشئه غامض كل الغموض، فأنا نرى فجأة كتاباً ضخماً ناضجاً هو كتاب سيبويه ولا نري قبله ما يصح أن يكون نواة تبين ما هو سنة طبيعية من نشوء وارتقاء، وكل ما ذكروه من هذا القبيل لا يشفي غليلاً " . ويقول عند كلامه علي الخليل :"... واكتفي في ذلك بما أوحي إلى سيبويه من علمه، ولقنه من دقائق نظره، ونتائج فكره، ولطائف حكمته، فحمل سيبويه ذلك عنه وتقلده، وألف فيه الكتاب الذي أعجز من تقدم قبله، كما امتنع على من تأخر بعده ". ويقول متحدثاً عن الكتاب "وحاز الكتاب ثقة العلماء وتداولوه بالشرح وإذا قالوا الكتاب  فإنما يعنونه، وكل ما ألف في النحو بعده فمبني عليه ومستمد منه".

وهذا " بروكلمان" (في تاريخ الأدب العربي)، يقول عن سيبويه وكتابه :" وكان سيبويه الفارسي أشهر تلاميذ الخليل، ومصنف أول كتاب جمع ما ابتكره الخليل إلي محصول الباحثين السابقين " ويقول في موضع آخر: " أما كتاب سيبويه فهو أقدم مصنف، جمع مسائل النحو العربي كافة، وقد زاد المتأخرون كثيراً من تحديد مقاصد النحو، وتبيين حدوده، لكنهم لم يكادوا يضيفون شيئا ذا بال من الملاحظات المهمة " .

كما تحدث عن الكتاب حديث القدر المعترف بقيمته الدكتور" أحمد أحمد بدوي" إذ يقول: " أصبح كتاب سيبويه بعد أن ظهر للناس برنامجاً لمن أراد الدراسة إلا إذا قرأ كتاب سيبويه، وصار اسم الكتاب يطلق عليه، ويفتخر الطلبة بأنهم قرأوه ... والكتاب في نظرنا مرجع من المراجع نعود إليه عندما نؤلف كتابا في القواعد العربية . وهو صور لآخر ما وصل إليه التقدم العلمي في النحو في أواخر القرن الثاني الهجري، لأن الكتاب ثمرة لهذه الجهود المتصلة في تلك المادة منذ أن بدأها "أبو الأسود"، وهو صورة لما كانت عليه دراسة النحو في ذلك الحين من التعليل، والقياس، والاستنباط، والتفريع، واستيعاب الفروض . وفي رأيي كذلك أن كتاب سيبويه كان الكتاب الأول والأخير في النحو، فالكتاب سجل لقواعد النحو، وقف العلماء عندها ولم يزيدوا عليها، وكل من جاء بعده جعل الكتاب أساس دراسته "(ينظر بحثه عن سيبوبه منشور ضمن صحيفة دار العلوم الصادرة في يناير (كانون الثاني 1984م، ص 39).

وننتقل إلى عرض وتحليل لكتاب سيبويه ؛ ولعل أول ما يلاحظ علي الكتاب أن سيبويه لم يضع له اسماً يُفرده به، وربما أعجلته وفاته عن تسميته كما أعجلته عن وضع مقدمة بين يديه، وخاتمة ينتهي بها، فليس في مقدمة الكتاب ما يشير إلي أنه بداية له، وليس في نهايته ما يشير إلي النهاية، فهو مبتور البداية والنهاية، فنحن نفاجأ في أول سطر فيه بهذا العنوان " هذا باب علم ما الكلم من العربية "، وفيه تحدث عن أقسام الكلمة، وأنها اسم، وفعل، وحرف . ونمضي معه إلى نهاية الكتاب، فنجد الحديث ينقطع عند بيان حذف بعض العرب لحروف في بعض الأبنية تخفيفاً علي اللسان، ومثل لذلك فيما مثل بقول بعضهم " علماء بنو فلان " بحذف اللام في على أي علي الماء بنو فلان . ونحس كأنه لا تزال في نفسه بقية يريد أن يضيفها للكتاب . ولعلنا لا نبعد إذا قلنا إنه لم يأخذ الفرصة الكافية كي ينقح الكتاب، ويخرجه إخراجاً نهائياً . وربما كان هذا هو السبب الحقيقي في أننا نجد عنده شيئاً من الاستطراد كأن يتحدث في بعض أبواب النحو عن مسائل صرفية، وكان يتعرض لبعض صيغ ليست من الباب كتعرضه لبعض صيغ الحال في حديثه عن النعت، وقد يتحدث عن باب في موضعين علي نحو ما صنع بجموع التكسير في الجزء الثاني من الكتاب .

وينبغي ألا نظن من ذلك أن الكتاب لم يُكفل له منهج سديد في التصنيف، فقد نسق سيبويه أبوابه وأحكمها إحكاما دقيقا، وخاصة إذا عرفنا أنه أول كتاب جامع في قواعد النحو والصرف . فقد جعله في قسمين كبيرين هما : القسم الأوّل، وهو في أبواب النحو، والقسم الثاني في أبواب الصرف والأصوات، وقد تضمن القسم الأوّل المطبوع الأجزاء الآتية : الجزء الأوّل – مقدمة الكتاب، وإسناد الفعل والجزء الثاني - إسناد الاسم وأحوال إجرائه على ما قبله، والجزء الثالث – الإسناد الذي بمنـزلة الفعل، وقد ضم : الحروف الخمسة، وكم، والنفي بلا، والاستثناء. والجزء الرابع – أحكام الإسناد مع بدائل الاسم المظهر التام المنون : المضمر، والاسم الناقص، وما لا ينصرف، والأسماء في باب الحكاية . وقد ضم القسم الثاني الذي هو في الصرف والأصوات - لما يطبع - الأجزاء الآتية : الجزء الأوّل – أعراض اللفظ  تناول سيبويه في هذا الجزء ما يقع في اللفظ من الأعراض عند النسب، والتثنية، وجمع التصحيح، وإضافة الأسماء الستة وغيرها إلى الضمائر، والإضافة إلى ياء المتكلم، والتصغير، وحروف الإضافة إلى المحلوف به (القسم)، والتنوين، والتوكيد بالنون، وتضعيف آخر الفعل، والمقصور والممدود، والهمز، والعدد، وتكسير الواحد للجمع، وبناء الأفعال ومصادرها وما يشتق منها . الجزء الثاني : تأدية اللفظ : تناول سيبويه في هذا الجزء ما يجرى في اللفظ عند التلفظ به من تغيير صوتي، وصرفي، وأبواب هذا الجزء تلفظ أمثلة الأفعال، والأسماء، نحو يفعَل من فعَل، والإمالة، وإلحاق الهاء فيما يصير حرفاً نحو : عِه، وألف الوصل، والوقف، والإنشاد . والجزء الثالث : بناء اللفظ، وقد تناول سيبويه في هذا الجزء كيفية بناء اللفظ، وعدّة حروفه، وأحواله في الزيادة، والإبدال، والتصريف، والقلب، والتضعيف، والإدغام الذي ضم خمسة وستين باباً، فهو أطول الموضوعات في هذا الجزء، وبه يتم الكتاب .

ويتضح من هذا العرض أنه يخالف في ترتيبه الترتيب التي تتبعه كتب النحو والصرف اليوم، فأول ما يلاحظ من هذا الاختلاف أن ترتيب أبواب الكتاب يختلف عما في كتب المتأخرين، فهو لا يذكر المرفوعات على حدة، وإنما يخلط بعضها بالآخر، فيذكر المسند والمسند إليه، ثم ينتقل إلي الفاعل والمفعول والحال، والحروف التي تعمل عمل ليس، وإلي المبتدأ والخبر والاستثناء. ولا يسير في ترتيب أبوابه وفصوله ترتيبا منطقيا سليما، فهو يقدم أبواباً من حقها أن تتأخر، ويؤخر أبواباً من حقها أن تتقدم، ويضع فصولاً في غير موضعها. وهو يذكر الباب العام ويتكلم عليه، ثم يعقد بابا خاصا لكل مسألة صغيرة حتى يستغرق الكلام جزئيات الموضوع الواحد ومسائله الصغيرة . ولا يذكر مسائل الباب الواحد متصلة متتابعة، بل يذكر بعضها في بعض وبعضها الآخر في موضع ثان، بعد أن يفصل بينها بأبواب غريبة عنها، وفي هذا تجزئة للموضوع الواحد، وتفرقة لمسائله في مواضع كثيرة. وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم