قضايا

غواص في كتاب سيبويه (2)

محمود محمد عليفي الجزء الثاني من مقالنا "غواص في كتاب سيبويه"، نناقش منهجية سيبويه في الترتيب، والتبويب، والمصطلحات، حيث نلاحظ أنه علي الرغم من أن كتاب سيبويه أول كتاب وصل إلينا في النحو حاول أن ينهج النهج الطبيعي القريب إلي الإفهام والإدراك في زمانه؛ إذ كان الناس، وكانت مؤلفاتهم تعتمد علي ما يدور في مجالسهم من آراء ومناقشات، وروايات في مختلف الموضوعات . ويعتمد كل موضوع في هذه المؤلفات على أسلوب هؤلاء الشيوخ وطريقتهم في الجدال والنقاش، لذلك نجد أسلوب سيبويه في الكتاب يختلف من باب إلي آخر تبعاً للموضع نفسه، ولسهولته، أو صعوبته، ولتحديد معالمه في زمانه أو جدته عليه، لأن سيبويه عمل كتابه علي لغة العرب وخطبها وبلاغتها . ولذلك كانت ألفاظه تحتاج إلى عبارة وإيضاح لأنه ألف في زمان كان أهله يألفون مثل هذه الألفاظ فاختصر علي مذاهبهم . اتبع سيبويه في كتابه أسلوب العرض السهل السريع القائم علي الإيجاز في التعبير والإكثار من الأمثلة، فهو يعرض القاعدة ثم يمثل لها بأمثلة مستقاه من كلام العرب . مثال ذلك كلامه في باب "اللفظ للمعاني". يقول: "اعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعني واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين، فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس، وذهب. واختلاف اللفظين والمعني واحد نحو : ذهب وانطلق، واتفاق اللفظين والمعني مختلف قولك : فوجدت عليه من الموجدة، ووجدت إذا أردت وجدان الضالة وأشباه هذا كثير ". وقد يفسر ما يقوله كما نري عند كلامه على باب نفي الفعل .

فهو هنا يحاول أن يوضح أمثلته ويقربها إلى أذهان القارئين بتشبيه عبارة بأخرى أقرب منها إلى الأذهان : يفعل هذا في الأبواب البسيطة الواضحة . وقد يستشهد بآراء شيوخه أو بفصحاء العرب في المواضع الصعبة التي يرى أنه من الواجب أن يستشهد عليها بآرائهم، أو لاختلاف شيوخه في المسألة الواحدة، ولنستمع إليه في باب " ما يذهب التنوين فيه من الأسماء لغير إضافة، ولا دخول الألف واللام، ولا لأنه لا ينصرف، حيث كان القياس أن يثبت التنوين فيه، فهو ينقل هنا رأى "يونس" و"أبي عمرو" وفصحاء العرب لحاجته إلى آرائهم في هذا الموضوع ولاختلاف العرب فيه، ونجده يشير إلي صحة قول "يونس" بقوله :"وهكذا سمعنا من العرب " .

في هذه الأمثلة، وفي غيرها نجد أسلوب سيبويه سهل الفهم، قريب التناول ويعسر في بعض الأحيان فهم تعبيره لغموض العبارة واستغلاقها، مثال ذلك قوله عند كلامه في باب الأمر والنهي .

وسيبويه في طريقة بحثه يذكر القاعدة وأمثلتها، ويمزج ذلك بالتعليلات، وبيان وجه القياس، ويعرض الآراء المختلفة في الموضوع الواحد، ويفضل بعضها حسب ما يراه موافقا للصواب . ويفرض فروضا يضع لها إحكاما فيقول مثلا:" إذا سميت رجلا بأثمد لم تصرفه، لأنه يشبه اضرب .وإذا سميت رجلا بإصبع لم تصرفه لأنه يشبه اصنع .وإن سميته بابلم لم تصرفه لأنه يشبه اقتل".

وكثيراً ما نجد سيبويه يمزج أبواب النحو في صورة عجيبة، فهو ينتقل من الباب إلى غيره، قبل أن يستوفي أحكامه، فمثلاً نجد الكلام على الفاعل قد ابتدأ من الصفحات الأولى في الكتاب، ونثر الحديث عنه في صفحات الكتاب في قفزات غير منتظمة، بحسب تداعي المعاني الذي أثر على منهجه، فهو لا يحدثك عن أحوال الفاعل مع فاعله تذكيرا وتأنيثا إلا عند حديثه عن الصفة المشبهة ليقول :" إن الوصف مع مرفوعه كالفعل مع فاعله في التذكير والتأنيث "، ولكنه لا يستكمل الحديث علي تأنيث الفعل للفاعل إلا في الجزء الثاني، فضلا عما أسبغه علي الفاعل من أبواب ليس لها بها علاقة مباشرة، والحديث فيها أو لأجلها قد لا يختص بالفاعل .

وتتعجب من منهجه، وهو يقدم لك المادة النحوية، المرفوع إلى جانب المنصوب والمجرور " فعندما تحدث عن المسند والمسند إليه، كان عليه أن يستوفي أبواب المسند إليه من ابتداء، أو فاعلية، أو غيرهما ثم يعود إلى المسند ليستوفي أنواعه وأحكامه، ولكنه لم يتبع ذلك، وكثيرا ما تقول وأنت تقرأ الكتاب : ليت ذلك الباب وضع هنا، أو ليت ذلك الفصل قد انتقل إلي هناك، وقد يكون باب الإسناد أحسن حالا من باب الحال الذي لم يضع له عنوانا مميزا، بل نثر الكلام عليه هنا وهناك، فنجده ضمن أبواب المفعول، والمفعول المطلق، والتوكيد، والمصادر، والاستفهام، موزعاً مسائله في أماكن شتي تبعاً للمناسبات التي تستدعيها، فهو وإن فكر في صناعة الأبواب لمسائل النحو إلا أنه لم يستطع ضم مسائل كل باب بعضها إلى بعض، ليكون منها سلاسل متصلة الحلقات متتابعة الاختصاص، بل راح يذكر بعضها في موضع ولا يوفيه حقه من البحث إلا في موضع آخر، بحسب استدعاء المناسبة له، وكأنما برزت العلاقة بين المسألتين أو المسائل النحوية بطريق الصدفة، فأثبتها في مكانها لكي لا تنسى، ولو فكر في وضع كتابه وضعا أخيرا ونهائيا، فربما كان يجمع المتفرق إلي بعضه، ويخلص كل باب مما هو بعيد الصلة به، فيجعل حديثه عن المرفوعات أولًا حتي إذا ما انتهي منها، انتقل إلى المنصوبات، فالمجرروات، وهكذا، ولكن فكرة الأبواب لم تكن بعد قد تميزت عنده التميز الكافي شأنها شأن النحو نفسه، والذي لم يتميز عنده بعد عن غيره من علوم العربية، فكثير من الأبواب لم تتحدد معالمه.

هذا النظام في التبويب جعل سيبويه يضطر إلى وضع المسائل النحوية في صورة أبواب كبري شاملة، تندرج تحتها أبواب صغرى ومسائل متعلقة برأس الباب، فطال العنوان بالقدر الذي تضمه مسائل الباب من مشكلات، فلكي يتحدث مثلا عن الأفعال المتعدية، واللازمة، وما يعمل عملها من المشتقات عقد لها باباً من أطول عنوانات الكتاب، قال فيه :" هذا باب الفاعل الذي لم يتعد إليه فعل فاعل،  ولا تعدي فعله إلي مفعول آخر، وما يعمل من أسماء الفاعلين والمفعولين عمل الفعل الذي يتعدي إلي مفعول وما يعمل من المصادر ذلك العمل، وما يجري من الصفات التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تجري مجري الفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وما أجرى مجرى الفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وما أجرى مجرى الفعل وليس بفعل ولم يقو قوته، وما جري من الأسماء التي ليست بأسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا من الصفات التي هي من لفظ أحداث الأسماء، ويكون لأحداثها أمثلة لما مضي وما لم يمض، وهي التي لم تبلغ أن تكون في القوة كأسماء الفاعلين والمفعولين التي تريد بها ما تريد بالفعل المتعدي إلى مفعول مجراها، وليست لها قوة أسماء الفاعلين التي ذكرت لك، ولا هذه الصفات، كما أنه لا يقوي قوة الفعل وما جري مجراه،وليس بفعل "، ثم بعد هذا يفصل سيبويه ما أجمله هنا في أبواب كثيرة، هذا التفصيل قاده أحيانا كثيرة إلي الاستطراد، والانتقال إلى موضوعات قد لا تكون الرابطة بينها قوية، وهو واحد من المآخذ على الكتاب.

أما عناوين الكتاب فتبدو في أمور كثيرة غامضة كل الغموض، وهذا الغموض قد يصل خفاؤه إلي أن يقف القارئ أمامه لا يدرك قدرة حتي يقرأ الباب كله أو جله، ليستنتج من الأمثلة أن هذا الباب انعقد لكذا، فمثلا قوله " باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول، واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد "، لا اعتقد أن القارئ سيفهم منه لمجرد العنوان أن سيبويه عقده للكلام علي (كان وأخواتها)، وذلك للغموض الذي يلفه باستخدام مصطلحات (اسم الفاعل، واسم المفعول) بدلا من (اسم كان وخبرها) لأن التفكير قد ينصرف أثناء قراءة هذا العنوان إلى الاسم المشتق الذي يجيئ علي وزن (فاعل) أو (مفعول) ويعمل عمل فعله (أما إطلاق اصطلاح (الفاعل) على اسم كان و( المفعول) على خبرها، فعلى المجاز لشبه الأول بالفاعل والثاني بالمفعول، ومثل ذلك غموضا وخفاء الباب الذي عقده للتنازع معنوناً له بقوله :" هذا باب الفاعلين والمفعولين اللذين كل واحد منهما يفعل بفاعله مثل الذي يفعل به "، فما حل هذه الرموز غير قوله :" وهو قولك، ضربت وضربني زيد، وضربني وضربت زيدا .

وهنا ينبري الدكتور "علي النجدي" (في كتابه عن سيبويه) يحدثنا عن منهج سيبويه، فيقول: نهج سيبويه في دراسة النحو منهج الفطرة والطبع، يدرس أساليب الكلام في الأمثلة والنصوص؛ ليكشف عن الرأي فيها صحة وخطأ، أو حسنا وقبحا، أو كثرة وقلة، لا يكاد يلتزم بتعريف المصطلحات، ولا ترديدها بلفظ واحد، أو يفرع فروعا، أو يشترط شروطا، على نحو ما نرى في الكتب التي صنفت في عهد ازدهار الفلسفة واستبحار العلوم".

ونفس الشئ أكد عليه الدكتور " حسن عون " (في كنابه تطور الدرس النحوي)، حين قال: "إننا نظلم الكتاب حينما نعتبره كتابا في النحو، كما إننا نظلم النحو نفسه حينما نفهمه بذلك المعني الضيق الذي يتعارف عليه الناس في عصرنا هذا ... كتاب سيبويه يمثل النحو في شبابه الزاهر، ويرويه لنا في صوره الخصبة الأولي " .

ومن هنا نخلص إلي أن كتاب سيبويه لم يتجاوز المرحلة التجريبية، تلك المرحلة التي تبين استحالة تأثر سيبويه بالمنطق الأرسطي بسبب منهجه التجريبي الذي اتبعه، وأهم ما يلاحظ في هذا المنهج عند سيبويه هو أنّ منهجيته في الكتاب اعتمدت علي العمل الاستقرائي المرتبط بالواقع الاستعمالي لِلُّغة، محاولا تصنيفها، وتحديد علاقاتها على أساس التماثل الشكلي، والوظيفي، وصولا إلى وضع الأحكام والقوانين العامة، بقدر المستطاع، وهذا ما جعل أسلوبه يتسم بالتباين بين الوضوح تارة، والغموض تارة أخرى ممّا استدعى في أحيان كثيرة شرح اللاحقين وتوضيحهم، في حين تميز أسلوب النحاة اللاحقين غالباً وبالأخص عند نحاة القرن السادس الهجري وما تلاها ويجسد هذا الاختلاف تحول أسلوب معالجة المسائل النحوية ؛ إذ تحوّلت من التأسيس تمثيلا لدى سيبويه إلى التأسيس صياغةً لدى النحاة اللاحقين . فلم يكن مثلاً مفهوم الكلام النحوي محدّدا عند سيبويه، ومصاغا بعبارة واضحة، في حين حُدِّد فيما بعد، وقُسِّمَ، ووضع حدٌّ لكل قسم، وفُرِّق بينه وبين الكلم، والكلمة، والقول، واللفظ.

وهذا إن دل فإنما يدل علي أنّ النظرة النحوية اللاحقة في المنهج والأسلوب قد اتّسمت في أغلبها بالتنظيم، والشمول، ومحاولة التفصيل في القضايا النحوية المطروحة، وهو الذي جرَّ النحاة– فيما يبدو– إلى إشاعة النقاشات، والحوارات، والجدل . والتي أفضت بدورها إلى إشاعة التأويل، والتعليل، والعبارات الفلسفية، والمنطقية التي تتطلّبها أصول المناقشة والجدل

فبعد سيبويه ظهر نحاة كبار ارتقوا بالدرس النحوي ومصطلحاته، فصقلوا ما نقلوا، وزادوا على ما وجدوا، وطوروا وابتكروا، ووفوا المصطلح حقه من الدقة والإيجاز والوضوح. ومنهم قطرب محمد بن المستنير (ت: 206هـ) والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت: 211هـ) وأبو عمر الجرمي صالح بن إسحاق (ت: 225)، وأبو عثمان المازني بكر بن محمد (ت: 249هـ)، وأبو العباس المبرد محمد بن يزيد، فقد استطاع هؤلاء النحاة البصريون بمناقشاتهم الخصبة أن يرتقوا بمصطلحات النحو إلى مرحلة من النضج قاربت الكمال، وفي هذا نجد الدكتور " حسن عون" (في كتابه الدرس النحوي كما ذكرنا من قبل ) قائلا :" أما النحاة بعد سيبويه فإنهم يوجهون همهم إلي صياغة القاعدة النحوية أولًا صياغة علمية منهجية تكشف عن مدي التأثر بالنظريات والمبادئ الفلسفية : تعريف ثم تقسيم للأنواع، ثم حصر للنماذج المستعملة ؛ فتراهم هنا يفرقون بين – إن – المكسورة الهمزة، و- المفتوحة الهمزة ؛ ثم يذكرون مواضع استعمال الأولي مع ذكر الأمثلة علي ذلك، ومواضع استعمال الثانية مع ذكر الأمثلة .‏

وفي هذه الحقبة نفسها ظهر نحاة الكوفة وأبرزهم " الكسائي "، و "يحيى بن زياد الفراء" و "أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب (ت: 291هـ)". وحاولوا أن يصوغوا آراءهم بمصطلحات جديدة، فلم يصيبوا إلا حظاً يسيرا من التوفيق. ودل الدرس النحوي على أن مصطلح الكوفيين للمواد النحوية مصطلح لا يتصف بالشمول والسعة. وعلى أن الكوفيين يفتقرون إلى الإحكام في مصطلحهم . وآية ذلك أن المصطلح الواحد عندهم يدل على موضوعات عدة، كمصطلح التفسير الذي يعني عندهم التمييز والمفعول لأجله. وآيته كذلك أن نحاة بغداد ومصر والأندلس في القرن الرابع الهجري، والقرون التي أعقبته آثروا مصطلح البصرة على مصطلح الكوفة فيما صنفوا، وأن "ابن يعيش "و"ابن هشام الأنصاري"، و"أبا حيان الأندلسي" و"جلال الدين السيوطي"، وأمثالهم استطاعوا أن يكتبوا بمصطلحات البصرة أضخم كتب النحو في لغة العرب. وللحديث بقية!!

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل- جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم