قضايا

كيف انطلقت بدايات النحو العربي عند مدرستي: البصرة والكوفة؟!

محمود محمد عليشهدت المرحلة الثانية من نشأة النحو العربي، وهي تلك المرحلة التي تبدأ بالخليل بن أحمد وتنتهي بسيبويه، فتمتد بذلك قرنا ونصف القرن من المرحلة التي شهدها النحو العربي لدى أبي الأسود الدؤلي، وقد بينا أن هذه المرحلة من أهم المراحل التي مر بها النحو العربي، إذ شهدت تحولا كبيرا في التعامل مع مادته المستمدة – في أغلب الظن – من منهج وصفي – علي وفق ما وصفت به المرحلة الأولي إلي منهج تجريبي . وإذا كانت الآلية الشفاهية هي الطريقة الوحيدة في النظر إليه في المرحلة الأولي، فإن الأمر انقلب تماما عند سيبويه الذي أنتج لنا نظرية نحوية مدونة ومؤسسة علي منهج تجريبي واضح يشير إلي نضوج التفكير النحوي عنده، الأمر الذي يعني أن المرحلة التي سبقته كانت مرحلة ناضجة أيضا، ولكنها لم تفلح في تأسيس نظرية مدونة، ليصبح سيبويه – فيما بعد – رائدا لعملية التدوين وبداية لمرحلة جديدة في تاريخ النحو، إذ إن النظر إلي الكتاب ينبئ عن رصانة التفكير النحوي، وتمكن العقل العربي من الانقلاب به من مجرد المشافهة إلي مشروع فكري ناضج خاضع لمنهج تجريبي ناضج أيضا .

وننتقل هنا إلي المرحلة الثالثة من نشأة النحو العربي، وهي التي جاءت بعد سيبويه، والتي بدأ من خلالها يظهر أثر المنطق في النحو وأصوله واضحا إلي حد ما، نتيجة حركة الترجمة التي بدأت تتسع شيئا فشيئا خلال القرن الثالث الهجري؛ حيث وصلت إلينا كل كتب الاورجانون الأرسطي، ووجدنا أعلام مدرستي البصرة والكوفة يسعون جاهدين إلي مزج النحو بالمنطق. ولكن هذا المزج في الأغلب الأعم كان قاصرا علي الشكل، والمنهج، والتنظيم، والتهذيب، وطرق الجدل، ووسائل الحجاج، ثم علي شئ من المصطلحات والأساليب والتقسيمات .

ويؤكد الكثير من الباحثين أن نحاة البصرة كانوا أسبق من نحاة الكوفة إلي الانتفاع بالمنطق، وأن عقولهم كانت أكثر خضوعا وإذعانا لسلطانه ومناهجه . وهم يرون أن سبق البصريين إلي الانتفاع بالمنطق لم يكن محض اتفاق، وإنما يعود إلي صلة البصرة المبكرة بالدراسات المنطقية والفلسفية، ولذلك ظهر تأثير المذاهب المنطقية والفلسفية في البصرة قبل ظهوره في غيرها . كما بين نحاة البصرة كثيراً من المتكلمين والمعتزلة الذين حرصوا علي الإحاطة بعلوم الفلسفة والمنطق، والتعمق فيها والتسلح بها لدفع الشبهات عن القرآن، ثم أفسحوا السبيل بعد ذلك لهذه العلوم لكي تؤثر في دراستهم للنحو . وكان نتيجة خضوع نحاة البصرة لسلطان المنطق ومناهجه أن سُموا " بأهل المنطق ".

والذي يظهر بوضوح أن تأثير المنطق في العصر الأول لوضع النحو كان تأثيرا ضعيفا خافت الصدي، وكان من أوضح آثاره استخدام آلة القياس والتوسع بواسطتها في وضع القواعد النحوية . وقد أجمعت كتب تراجم النحويين وطبقاتهم علي أن "عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي" (ت : 117هـ) يعد أعلم البصريين، لأنه أول من فرع النحو، واشتق قواعده، وطرد القياس فيها، وعللها تعليلا يمكن لها في ذهن الدارسين.

وظل الدرس النحوي محافظا علي أصالته طوال هذه المرحلة، يظهر ذلك بوضوح في محافظة النحاة والدراسات النحوية علي الغرض أو الغاية التي وضع النحو من أجلها، وهي " انتحاء سمت كلام العرب في تصرفه " . فبقي النحو دراسة للأساليب التعبيرية إلي جانب عنايته بالإعراب والبناء. وقد وجدنا لهذه الروح الأصيلة امتداداً في المرحلة التالية.

وفي أوائل القرن الثالث الهجري، انفتح المجتمع الإسلامي أكثر علي ثقافات العالم، وتوسع في نقل علوم المنطق والفلسفة، وقد انبهر علماء هذه المرحلة – ومنهم النحاة بهذه الثقافات المختلفة في مصادرها والمتنوعة في فنونها، وقد حرصوا علي الإلمام بها، بل أجهدوا أنفسهم في استيعابها وتمثلها، حتي أصبح بعضهم موسوعة لثقافات عصره.

وننتقل إلي حديثنا عن بدايات مزج النحو بالمنطق عند مدرستي البصرة والكوفة في أوائل القرن الثالث الهجري، فنقول : لقد حاول النحويون بعد "سيبويه" إعادة النظر في كتابه مادة وأسلوبا، فشرعوا يذللون صعبه بالشروح، ويخرجون شواهده ويختصرونه، ورأوا مع كثرة المدارسة أنه يمكن اختصار عنواناته الطويلة في صورة محددة يستقر عليه المصطلح الذي حام "سيبويه" حوله وأوشك أن يقع عليه، ورأوا كذلك الاستقرار علي واحد من مصطلحاته الكثيرة التي كان يطلقها علي المسألة الواحدة، فيكتفون بهذا المصطلح عما عداه .

وقد أخذ التجديد في المصطلح بعد سيبويه منحيين : أولهما : التسمية، والآخر : وضع الحدود الخاصّة بها وأُلّفت في ذلك الكتب، وكان من أقدمها كتاب "الإمام أبو زكريا يحيى بن زياد المعروف بالفرّاء " الذي ألفه في " حدود النحو"، واشتمل على ستين حدّا .

وفيما هم آخذون بخدمة هذا الكتاب، أخذت تشتد بينهم الخلافات في مسائله، فمنهم من تابعه وأخلص له، ومنهم من خالفه في جانب وتبعه في آخر، ولم يكن هناك نحوي واحد خالفه مخالفة تامة في مسائله جميعها، حتي إن " الكسائي" وهو إمام أهل الكوفة وفي مقدمتهم، والذي وُصف بأنه اجتمعت له أمور لم تجتمع لغيره، فكان أوحد الناس في القرآن، وكان أعلم الناس بالنحو، وأوحدهم في الغريب،ما يقول ابن الأنباري، الكسائي الذي كان يقف منه موقف الند يناظره ويخالفه الرأي لم يستغن عن دراسة كتاب سيبويه، وتأثر به حتي في المصطلحات، ولا غرابة في أن يكون كتاب سيبويه دستور النحاة من بصريين وكوفيين، ومائدتهم الكبري في صناعة النحو، فسيبويه تلقي أكثر نظرياته عن "الخليل بن أحمد"- أستاذ البصريين والكوفيين علي السواء بشهادة الكثير من المؤرخين.

وإذا كان الخلاف بين البصريين والكوفيين هو الشائع بين النحاة بصفة عامة، فإن الكوفة لن تنسي تلمذة "الكسائي" علي يد "الخليل"،  و" يونس"، ولا تلمذة " الفراء" علي يد " يونس بن حبيب"، وأن "الخليل" كان السبب في توجيه نظر "الكسائي" للرحلة إلي البادية ليتعلم الفصاحة واللغة ، وهذا كان بشهادة الرواة الذين أكدوا أن :" الكسائي خرج إلي البصرة، ولقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، وأنه سأله عن علمه من أين أخذته؟ فقال له: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فخرج الكسائي، ورجع، وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوي ما حفظ، ولم يكن لهم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات، وجلس في موضعه "يونس بن حبيب " البصري النحوي، فجرت بينهما مسائل أقر له "يونس " فيها، وصدره في موضعه.

وهنا نريد أن نقول بأن مدرسة الكوفة لم تكن تختلف عن مدرسة البصرة في الأصول العامة للنحو . فالكوفيون قد بنوا نحوهم علي ما أحكمته البصرة من تلك الأصول، وذلك لأن أئمة النحو الكوفي قد أخذوا النحو من مدرسة البصرة . فالكسائي قد تتلمذ علي "الخليل بن أحمد "، وقرأ كتاب سيبويه علي الأخفش . والفراء قد رحل إلي البصرة وتتلمذ علي يونس بن حبيب كما ذكرنا منذ لحظات، وأكب علي كتاب سيبويه يقرأه، كما أكب عليه جميع أئمة الكوفة من بعده . وكل خلافهم مع البصريين، إنما كان في بعص المصطلحات النحوية، وفي جوانب من العوامل والمعمولات.

وهنا نستطيع القول مع بعض الباحثين بأن الكوفيين لم يكونوا يشكلون مدرسة نحوية تتميز بأسلوبها الخاص ومنهجها الذاتي، وذلك لأنهم لم يخرجوا علي منهج مدرسة البصرة في دراسة النحو، فالبصريون والكوفيون يتحركون في إطارات متشابهة ويطبقون أصولا واحدة، وإن اختلفوا فيما بينهم في بعض الجزئيات فإنه اختلاف لا ينفي عنهم وحدة المنهج واتفاق الأصول.

ومن يرجع إلي كتاب " الأنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين " لأبن الأنباري، يجد أن عامة المسائل التي خالف فيها الكوفيون البصريين لا يمكن أن تجعل من الكوفيين نحاة من نمط جديد، أو تجعل آراءهم التي جاءوا بها تؤلف مدرسة نحوية متميزة، وبهذا يصبح كل ما قيل في عصرنا هذا من كلام من صيغ في الثناء علي الكوفيين لتميزهم في العمل النحوي أمراً مبالغاً فيه.

وليس صحيحا ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من أن الكوفيين كانوا أقل من البصريين انتفاعا بعلوم المنطق والفلسفة، فقد كان للفراء أثر واسع في التفسير، وفي اللغة، وفي النحو، وقد طلب إليه المأمون أن يجمع أصول النحو . وأن يجمع ما سمع من العرب .. فعكف علي ذلك وألف الكتب، وضبط النحو وفلسفه، فألف فيه كتاب "الحدود" واسم الكتاب يدل علي تأثره بالمنطق، فهو يريد بالحدود التعاريف. كـ (حد المعرفة والنكرة) وحد (النداء) وحد (الترخيم) .. إلخ، وهذه أمور لم يعن بها سيبويه في كتابه كثيرا، وهي أثر من آثار الفلسفة والمنطق، كما ذهب أحمد أمين في كتابيه - ضحي الإسلام وفجر الإسلام.

فالنحاة الكوفيون ومتأخرو البصرة كانوا سواء في اهتمامهم بالمنطق، فقد سلكوا سبل المنهج الكلامي نفسها، هذا المنهج هو الذي يقوم علي المحاكمة المنطقية . أما ما كنا نأخذه علي الأقدمين من تمسكهم بالعامل، فهو منصب علي البصريين والكوفيين علي السواء، فقد قال الكوفيون بالعامل وتمسكوا به كما فعل البصريون تماما، فالطرفان لم يختلفا في جذور نظرية العامل، وربما اختلفا في ضبط هذا العامل وتعيينه في المسائل التي اختلفا فيه، كاختلافهم في رافع خبر المبتدأ، فذهب الكوفيون إلي أن المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ، فهما مترافعان . وذهب البصريون إلي أن المبتدأ يرتفع بالابتداء والمبتدأ معاً، وذهب آخرون إلي أنه يرتفع بالابتداء.

إلا أنه لما قامت المنافسة بين علماء البصريين نُسب كل واحد إلي بلده، فهذا بصري وذاك كوفي، واستقلت كل طائفة بشخصية مميزة وقامت بين علماء الفريقين مناظرات وصلت بهم إلي حد تعرض بعضهم للبعض الآخر بالهجاء.

ولست هنا متحدثاً عن قيام هاتين المدرستين، فقد ثبت ذلك وكتب عنه كثيرون في القديم والحديث، وألف كل منهما بحثًا مستقلًا، ويكفينا ما كتبه من المحدثين : الدكتور مهدي المخزومي في كتابه "مدرسة الكوفة"، وما كتبه الدكتور عبد الرحمن السيد في كتابه "مدرسة البصرة"، فقد تكفل كلاهما ما يمكن أن أقوله في هذا المقام.

ولكن تبقي لي كلمة أنهي بها حديثي في هذا المقال فيما يتعلق بالطريقة التي من خلالها تمت عملية مزج النحو بالمنطق ؛ خاصة بعد أن صار الخلاف كبيرا بين الفريقين إلي حد ما، حتي شاع بين الدارسين المتأخرين أن نحاة البصرة كانوا أميل لمزج النحو بالمنطق، في حين كان نحاة الكوفة رافضين لهذا المزج . ولقد أفادت قضية علاقة النحو بالمنطق من خصومة الفريقين فائدة كبيرة، إذ نظر كل فريق إلي تلك العلاقة نظرة الناقد، ثم شرعوا في تطويرها وتهذيبها وتطويرها، حتي وصلوا بها جميعاً إلي الاستقرار الذي لم يكن من اليسير علي "سيبويه" أن يصل إليه بسبب نزعته التجريبية، فالاستقرار مرحلة تالية لمرحلة شهدت مدارسات، وخصومات شديدة ومناظرات في هذا العلم لم تهدأ حتي استقر النحو، ورست حدوده ومصطلحاته بالشكل الذي وصل إلينا .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم