قضايا

أدوات الفهم، ووسائل التَّساؤل حول الاِحتجاجات الأخيرة في العراق اِنطلاقاً من سوسيولوجيا الفهم(1)

محمد حسين الرفاعيمن أجل حقن دماء الأبرياء

إلى رجال السلطة، والدِّين،

والمحللين السياسين بعامَّةٍ، والعرب بخاصَّةٍ:

قَبلَ كل شيء: ثَمَّةَ عادات ذهنية مجتمعيَّة، أصبحت، ما بعد اِنتفاضة 1 أكتوبر، قديمةً، هي، على أقل تقدير، ثلاث:

العادة الذهنية الأولى تمثَّلت بوضع النقد في سلة العداوة. فقَبلَ أن يرتفع الصوت في نقد رجال السلطة الشيعة، تُصبِح صهيونيَّاً- أمريكيَّاً- سعوديَّاً، عدواً في كُلِّيَّة وجودك. قَبلَ أن يرتفع الصوت في نقد رجال السلطة السنة، تُصبح صفويَّاً- إيرانيَّاً. قَبلَ أن يرتفع الصوت في نقد رجال السلطة الكرد تُصبِح عنصريَّاً- قوميَّاً- بعثيَّاً، وهَلُمَّ جرَّاً.

العادة الذهنية الثَّانية تمثَّلت بوضع نقد رجال الدِّين في سلة الكفر. واعتبار رجال الدِّين كائنات مقدسة.

العادة الذهنية الثَّالثة تمثَّلت في الاِستخفاف بالمجتمع بعامَّةٍ، وبالذوات الفاعلة بخاصَّةٍ. يتجسد ذلك في عبارات من نوع: "مجتمع نائم"، "مجتمع ميِّت"، "مجتمع مهما حصل له لا يحرك ساكناً"، "شباب مخدَّر"، "مجتمع خروف"، "مجتمع قطيع"، "مجتمع نزق يلحق زعيمه"... إلخ من هذي العبارات العدمية البائسة.

ومع علمنا بهذي العادات الذهنية الشائعة جداً، والطاغية على الوعي المجتمعيِّ، جداً، ومع وعينا بحضورها، دائماً قَبْلِيَّاً، في ذهن قارئ هذي السطور، نتساءل فنفكِّر فنفهم على النحو الآتي:

I - بأية معانٍ يمكننا أن نفهم اِنفجار المجتمع، والجيل الجديد، من الداخل؟ وكيف نفهم حركة مجتمعيَّة شاملة تقودها جملة مطالب تُحدَّدُ بالاِنطلاق من الجوع، والفقر، والبطالة، واِحتكار السلطة من قِبَلِ رجال الفساد ما بعد 2003؟ وضمن أيَّة مفاهيم يمكننا أن نلج إلى اِنتفاضة يقودها شباب مُهَمَّشٌ مخصيٌّ مقصيٌّ من قِبَلِ رجال السلطة والدين؟ ولماذا لا يمكن للمفاهيم القديمة أن توظف في فهم وتفسير وتحليل وتأويل الاِنتفاضة الأخيرة؟

نشير، أولاً، مباشرةً، إلى ملاحظة حاسمة: اِنتفاضة العراق مسألةٌ مجتمعيَّةٌ كُليَّةٌ، وليست سياسيَّةً فحسب. وإذا ما اِكتُفي بمعالجتها سياسيَّاً، فسوف تعود، لا محالة، بقوة، مرة أخرى. وهي، بكل صراحة وأمانة، ليست تُفهم اِنطلاقاً من الحَكيلوجيا، وشيخ الحكواتيين- الحكواتي القديم فيها، ومن نظريَّات، وكتب المرحوم"علي الوردي".

II- اِنتفاضة العراق تتعلَّق بمسألة السلطة، والحوامل المجتمعيَّة التي من شأنها. إنَّها نتجت عن تفكُّكٍ بنيويٍّ في الحوامل المجتمعيَّة التي من شأن السلطة، ومصادر المشروعيَّة التي من شأنها، منذ ستة عشر عاماً.

III- اِحتكار السلطة بِيد القلة القليلة (الأوليغارشية) من رجال الطوائف، جعلت من المجتمع في غربة عن السلطة، وجعلت السلطة في غربة عن المجتمع.

IV - تعيش السلطة، ويعيش رجالها، ويعيش الدِّين، ويعيش رجاله، اِغتراباً كُلِّيَّاً عن الشارع، وكلمة الشارع. وذلك يجد تجليه الأساسي في الهوة العميقة، الناتجة عن شيخوخة رجال السلطة، بين رجال الأمس الأزلي، وجيل التسعينات، والمئوية الجديدة.

V - تبيَّن ذلك في خطاب الرئيسَيْن، وخطاب المرجعية. والحلول الترقيعية الظرفية. ولكن لماذا؟

VI - إنَّنا أمام جيل من الشباب هم من مواليد نهاية التسعينات، وبداية الألفية الجديدة. هذا الجيل، من أجل أن نفهمه، يتطلَّب تساؤلاً جديداً، وتفكيراً جديداً، وفهماً جديداً، لعالَمِهِ في كُليَّتِهِ.

VII- يتوهم من يتصوَّر أن هذا الجيل يمكن أن يستندَ إلى ثُنائيَّات تقليدية بائسة في محاولاته لفهم عالمه. ثُنائيَّات من نوع: [شيعة- وسنة]، [إيران- وأمريكا]، [سلطة- ومعارضة]، [عرب- وعجم]، [شرق- وغرب]، [نحن- وهم]، [ديننا- ودينهم]، [موالاة- ومعاداة]. كما يتوهَّمُ من يتصوَّر أنَّه بإمكانه فهم هذا الجيل اِنطلاقاً من الثُنائيَّات هذه.

VIII- لهذا الجيل لغة العالَميَّة، وفهم العالَميَّة، وتفكير العالَميَّة، ووجود العالَميَّة في كُليَّتِهِ. معنى ذلك، أن العالَميَّة هي التي، وهي الوحيدة التي، تستطيع أن تقول كلمته، ويقول كلمتها. كيف؟ ولماذا؟

IX- لقد انتقلت العالَميَّة إلى هذا الجيل، وانتقلت جملة مفاهيمها عَبرَ الثورة السيبرانية بعامَّةٍ، ووسائل التواصل الاجتماعي- الافتراضي (الواقع المُضاف)، بخاصَّةٍ، ولم يعد للعالَم كما كان من قَبْل، معنى عنده.

X- هذا الجيل واعٍ جداً، ومجنون جداً، فشجاع جداً. فهو واعٍ جداً باعتباره قد كوَّنَ وعيه وفقاً لأحدث المفاهيم، والنظريات، والمناهج في فهم المجتمع، والإنسان، وكل الموضوعات التي تنضوي تحت هذين العنوانين. وهو مجنون جداً باِعتباره لا يملك أيَّ شيء. ففي أفخم أمنياته تكمن الهجرة إلى الغرب. ومثلما أن "رأس المال جبان"، فغياب رأس المال يجعل من المرء لا شجاعاً بل مجنوناً في شجاعته.

XI- تقول فرضيَّةٌ أنَّ السفارة الأمريكية وراء هذي الاِنتفاضة. في الحقيقة، لا تحتاج السفارة الأمريكية لأنْ تدعم هذي الاِنتفاضة، فهي تحضر في تفاصيل وجود هذا الجيل. في تفاصيل حياته المملة. من فنجان القهوة، إلى الـ Facebook، إلى فهمه لكل المفاهيم المجتمعيَّة بعامَّةٍ، والسياسية، بخاصَّةٍ.

XII- تقول فرضيَّةٌ أنَّ الاِنتفاضة هذي كلها عبارة عن مؤامرة تريد تغيير النظام السياسي بعد 2003. في الحقيقة، النظام السياسي الذي لا يعرف، ولا يفهم، ولا يعي، ولا يقدِّر، ولا يتدبَّر، التعاملَ مع المؤامرات، إلاَّ بالقتل العمد (وليس العنف المفرط)، هو في أحسن أحوال فوضى سياسية، وليس نظاماً سياسياً.

XIII- لقد تفجَّرت الطاقات، والأفعال، وكل إمكانات الفعل، عند جيل الشباب المُهمش- المَخصي من قِبَلِ رجال السلطة، بعد أن كانت السلطة في مسعى دائم، في، وعَبْرَ، جملة الإجراءات، والقوانين، والقواعد، والأعراف السياسيَّة، الموضوعة، أو التي يُراد لها أن تُوضع، لإخضاعها.

XIV- غبيٌّ من يَستَغبي الجيل الجديد بجملة أكاذيب الأمس الأزلي. لأنَّه، (أي هذا الجيل)، يتوفَّر على مصادر معرفة تستطيع تفكيك أفخم كذبة تتطلَّب أياماً لبنائها، بدقائق قليلة.

XV- فقد الدِّينُ رمزيَّتَهُ، كما فقد التدُّين معناه، في المجتمع. وذلك بعد أن أتى الدِّين إلى مستوى الواقع وصار أرضيَّة مشروعيَّة الفساد بعامَّةٍ، وسرقة ونهب مؤسسات الدولة، بخاصَّةٍ. وهكذا، لا ثَمَّةَ احترام مجتمعيٍّ، من بعد، لرجل الدِّين، ولا ثَمَّةَ وظيفة مجتمعيَّة من بعد لرجل الدِّين. لماذا؟ لأننا أمام جيل ذاتيٍّ- فردانيٍّ بامتياز، لم يعد يتفاعل مع لغة رجال الدِّين القديمة.

XVI- سبقت الاِنتفاضة هذه جملةُ أحداث، والوعي بها من قِبَلِ الشباب، لم تُقدَّرْ عواقبها.

XVII- يشير الحدث الأوَّل إلى اِنتقال السيد عادل عبد المهدي من كونه عالِماً، واِقتصاديَّاً، وزاهداً بالمناصب، وصاحبَ مشروع دولة حديثة- من خلال كتبه، من جهة، ومقالاته في صحيفة "العدالة"، من جهةٍ أخرى- إلى كونه رجلَ سلطة، أتى بنفس فريق الأمس، ولم يستطع فرض شخصية واحدة معروفة بنزاهتها على أي حزب. فعالِم الأمس أصبح رجلاً يحتار بإرضاء شِلَّةِ الفساد نفسِها التي تجذر وجودها منذ عامّ 2003، بتلاعب وقح من قِبَلِها، وأكاذيب صريحة، ووعود مراوغة، على المرجعية الدينية في النجف الأشرف.

XVIII- تمثَّل الحَدَث الثَّاني في الاِعتماد من قِبَلِ السيد رئيس مجلس الوزراء على نفس رجال الأمس المعروفين بأحزابهم الفاسدة، تحت ذريعة الضغط الممارس عليه من قِبَلِ الأحزاب، من جهة، وأنَّهُ لا ثَمَّةَ كتلة بارلمانية كبيرة مساندة له، من جهة أخرى. فبدلاً من تقديم أسماء وزراء معروفين بوطنيَّتهم ونزاهتهم للبرلمان، أو الاِستقالة في حال عدم تصويت البرلمان عليهم، ذهب السيد الرئيس بوعود فارغة من جهة أحزاب الأمس، إلى تعميق الهوة بينه، ومشروع الدولة الحديثة.

XIX- تمثَّلَ الحدث الثَّالث في التصويت على قانون سانت ليغو 1.9. وهو، كما لا يعلم الغالبية الساحقة من النواب، والذين صوتوا بعمىً أخلاقي- وسياسي عليه، يعني أنَّه كلما كانت النسبة الأولى (1 أو 1.5 أو 1.7 أو 1.9) أعلى كلما كانت نسبة تمثيل القوائم الصغيرة أقل. وهذا معناه إعادة إنتاج السلطة لذاتها، وغلق كل إمكان من إمكانات المشاركة السياسية- بالتمثيل السياسي بخاصَّةٍ للجماعات الصغيرة.

XX- تمثَّلَ الحدث الرَّابع في اِستقالة وزير الصحة المثيرة للتساؤل والجدل. وجملة الحقائق التي تم السكوت عنها. من بينها صفقة الفساد- الرشوة الكبيرة التي تم الكشف عنها، وبسببها وَضَع الوزير اِستقالته على طاولة الرئيس، ولم يتخذ هذا الأخير أي إجراء مكتفياً بإعطائه إجازة مفتوحة.

XXI- تمثَّلَ الحدث الخامس في قمع غريب عجيب لاِحتجاجات أصحاب الشهادات العليا.

XXII- تمثّل الحدث السادس في نقل رمز وطني- عراقي، شئنا أم أبينا، هو السيد فريق الركن عبد الوهاب الساعدي، إلى الإمرة؛ الذي يمثِّل لعدد ليس قليلاً من العراقيِّين رمزاً للاِنتصار على داعش، والشجاعة والتضحية.

سوف نأتي معكم إلى مستوى المؤامرة، ونقول: نعم توجد مؤامرة، بل مؤامرات. لكن، ماذا فعلتم في مواجهة هذي المؤامرة، قبلَ حدوثها؟ وألستم- إذا كانت ثَمَّةَ مؤامرة تحاك- كلُّكُم نتاجٌ مؤامرة مضادة، والحال هذي؟ فكيف يمكن لعقل سليم أن يقول شيئاً هو يتهم نفسه به؟

XXIII- ولكن كيف يُفهم القتل العمد (وليس العنف المفرط) في التعامل مع الاِحتجاجات؟

XXIV- في الحقيقة، اِنتقل التهديد بممارسة العنف، أو ممارسته، بوصفه فعلاً مشروعاً للدولة، ولمؤسساتها، لأوَّلِ مرة، منذ عامّ 2003، إلى الوحشية، وممارستها، والإعلان عن ممارستها.

XXV- ومن جهة أن العنف يهدد شروط إمكان التعايش، والسلم الأهلي- المجتمعيِّ في العمق، فإنَّ الوحشية تقضي، قضاءً تامَّاً، على كل شروط الإمكان هذه، ومسارات تحديدها المستقبلية المختلفة. فالوحشية، بعدَ الفساد، هي الوسيلة الأقوى في تفكُّكَ بِنيَة المجتمع.

XXVI- وهكذا، نكون مباشرةً أمام اِستحالةِ السلطة، وممارستها، كما كانت قَبلَ الاِحتجاجات، قَبلَ 1 أكتوبر. لماذا؟

XXVII- إنَّ الوحشيةَ بلغت درجةً هي الأقصى اِنطلاقاً من إرادةٍ سياسية- دولية لا يمكن أن تُفهم، كفايةً، ضمن الأزمة المجتمعيَّة هذي، بمعزل عن جملة الأدوات الأكثر بُعداً عن بِنيَة السياسة: السلطة، ومشروعية السلطة، ومصادر المشروعية، ما بعد 2003.

XXVIII- إنَّ إرادة تدمير المجتمع، واِحتقاره، وإقصائه، وإذلاله، اِنطلاقاً من تدمير وإقصاء واِحتقار وإذلال الجيل الطالع- الجديد إنَّما هي تستمد ماهيَّتَها من اِغتراب السلطة عن المجتمع. إنَّ سلطةً تمارَسُ على المجتمع، هي ليست منه، هي، على هذا النحو أو ذاك، ليست أكثر من مشروعِ تدمير المجتمع، وإخصائه. وفي هذا السِّياق، فإنَّ المواجهةَ بالردِّ بواسطة اِستخدام نتائج صناديق الاِقتراع تُصبح هلوسةً.

XXIX- ولكن، ما ضرورة هذه الوحشية وأولويَّتِها على كل ضرب من ضروب اِحتواء، أو حتَّى الحدّ من الاِحتجاجات؟

XXX- لا يمكن ممارسة الوحشية على الإنسان، إلاَّ بعد إلغاء الإنسانيَّة فيه اِنطلاقاً من تحديد هَوَويٍّ- وجوديٍّ ما؛ أي بعد أن يتمُّ حصرُ الإنسانيَّةِ ضمن ديانةٍ، أو طائفةٍ، أو ملَّةٍ، أو أمَّةٍ بعينها، دون غيرها. إنَّ مقولة المؤامرة، والاِنقلاب، والتآمر، إنَّما هي تريد أن تُلغيَ الإنسانيَّة في مَنْ تواجهه. وهكذا، يُصبح تحوليه إلى لحم مفروم، وعظام متناثرة على أسفلت الشارع أمراً مشروعاً، بل اِنتصاراً هائلاً على الأعداء.

XXXI- إنَّ النقيض الأصليّ للمجتمع ليس يتمثَّل في الفرد، بل في الفردانية التي تُحدَّد اِنطلاقاً من إرادة الوحشية التي تهدد الفرد بممارستها عليه، وعلى وجوده المجتمعيّ، حالما يفكِّر في تخطي جملة معايير المؤسسة المجتمعيَّة. فإنَّ الفردانية بوصفها حقل الوجود الذي يُقذف الفرد داخله إنَّما هي، خلافاً لما يُصوَّرُ، ليست من صناعة الفرد ذاته. وهكذا، نكون أمام أفراد منعزلين ضحايا جاهزين لتسويق أيَّة فكرة آيديولوجية منغلقة تجاه العالَميَّة، أو شعار آيديولوجيّ، يتطلَّب الدفاعُ عنه / عنها القتلَ.

XXXII- إنَّ التطابق بين الفكرة، أو الشعار، وقابلية الفكرة على تجاوز الحدود، وكل ضرب من ضروب التحديد، واِستدعاء قوى القمع- العنف، هو أرضيَّة مشروعيَّة ممارسة الوحشية، بعد أن تسلب هذي الأخيرة، من الكائن الإنساني إنسانيَّتَهُ بوصفها فائضاً عن اللزوم. وتحكم عليه بأن يُسحق وجوده- ويُحطَّم جسده. هذا التطابق يذهب إلى ترسيخ مباني الديكتاتورية التي تُحدَّدُ اِنطلاقاً من إرادة تخترق كل ضرب من ضروب التحديد، وكل الحدود المرسومة سلفاً باِعتبارها قد أصبحت ضرورة للحفاظ على الوطن، في ضرب من فهم الوطنية هو يحدِّدَها من خارجها، ويحكم على من يقع خارج هذي الحدود الجديدة بوصفه خائناً- متآمراً- مدسوساً.

XXXIII- وفي المقابل، إنَّ رأس المال الأصليَّ الذي يمتلكه، بل يحمله هذا الجيل في ذات نفسه العميقة، إنَّما هو يتمثَّل بعدم اِمتلاكه لأيِّ رأس مال. وعلى هذا النحو، نكون مباشرةً أمام الاِختلاف، والتباين البنيوي العميق بين جيل يأتي من المستقبل، وجيل اِنتهى في الحاضر، وأُغْلِقَت أبواب المستقبل أمامه.

XXXIV- إنَّها مسألة ثقافية باِمتياز. على صعيد بِنيَة الثقافة نواجه نظرة  جديدة لحقل الدِّين كمصدر أساسي لمشروعية السلطة، وممارستها، مفادُّها الآتي: اِنسحاب الدِّين إلى الجوامع، والمساجد، والحسينيات، بعد أن تحوَّلَ إلى مصدر شَرعَنَةِ الفساد. وإحلال نمط جديد من المعرفة الدينية محلَّ المعرفة الدينية التي تُشَرْعِنُ السلطة، ورجالها.

XXXV- ما هي مصادر المعرفة الدينية الجديدة؟ إنَّها ثلاثة على أقل تقدير:

I - فهم العالَميَّة للدين،

II - والدِّين لا يصلح لضبط عمل السياسي،

III - والدِّين ينتمي إلى علاقة خاصَّة بين الذَّات- وفهمها لخالقها. وعلى ذلك، لا يمكن للدين، من بعد، ولا ينجح رجل الدِّين، من بعد، في حشد، وتجميع مجموعات بشرية- لحوم بشرية يمكن وضعها ضمن مفهوم "العَبد"، إلاَّ بعد تهديدها، وتخويفها، وترهيبها، بواسطة سلب حقوقها منها تحت عناوين شتَّى.

XXXV- وهكذا، تنتمي الاِنتفاضة هذه إلى نموذج جديد كُلِّيَّاً من الوعي المجتمعيّ، يقوم، على أقل تقدير، على أربعة مفاهيم، ووعي جديد بها:

I - مفهوم الحُرِّيَّة: والدفاع عن الذَّات في أبسط شروط وجودها بوصفه حريَّةً،

II - ومفهوم الهَويَّة: ينتمي هذا الجيل إلى هَويَّة تختلف جذريَّاً عن كل الهويات المُصاغة قبليَّاً بواسطة المقولات الدينية، والآيديولوجية، والسياسية، والقومية، والليبرالية، والماركسية، والإسلامية، وأية تحديدات ناتجة عن منظومات تحديد تسبقه في الزمان. ومن جهة أنَّه يريد أن يكون، لا أن يوجد فحسبُ بوصفه كائناً بايولوجيَّاً- تراثيَّاً، بل أكثر من ذلك، يريد أن يكون كائناً إنسانيَّاً- حديثاً- متحدِّثاً، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ شيءٍ، فإنَّهُ يفهم مُكَوِّنات الهويات القديمة وفقاً لطرق فهم جديدة تقطع مع فهم الآباء، والأجداد، لها، بعامَّةٍ. فعلى سبيل المثال: يفهم هذا الجيل التُّراث من جهة الفردانية، ولا يفهمه من جهة المجتمعيَّة؛ كما هو يفهم الرموز الدينية اِنطلاقاً من فهم بسيط لا يرى فيها غير الحق، والعدل، والأخلاق، والإنسانية، والكمال الإنساني. ولا يرى فيها إمكان شَرْعَنَةِ الفساد، والنهب، والسرقة، في مؤسسات الدولة.

III - ومفهوم الذَّات- والتَّذَوُّت: يستند في فهمه لذاته إلى مصادر معرفية بعينها، هي على أقل تقدير ثلاثة:

I - العالَميَّة، والثورة السيبرانية، وبخاصة الثورة في التواصل. ما جعلت منه فاهماً- واعياً في العمق لجملة الحقوق، والواجبات التي من شأنه.

II - والصراع الأصليّ داخله بين: جهاز سلطة يريد أن يجعل منه كائناً بايولوجيَّاً- كتلة لحم- خروفاً يأكل ويشرب وينام، وبين كونه ذاتاً فاعلةً تستطيع الخلق والصنع والإنتاج والإبداع، في شتى الحقول الوجودية- الواقعيَّة.

III - والفهم الجديد للعالَم، وللوجود في العالَم، اِنطلاقاً من وحدة العالم من جهة ما هو قائم على المشترك الإنساني- والمجتمعي.

IV - واِنهيار مفهوم الدولة: للدولة، بوصفها مؤسسة المؤسسات المجتمعيَّة، ثلاث وظائف مجتمعيَّة أصليَّة:

I - بناء البيروقراطية، والحفاظ عليها: تتمثَّل أكثر الوظائف جذريَّةً للبيروقراطية في التنمية المجتمعيَّة والاِقتصادية بعامَّةٍ. لقد سقطت مشروعيَّة البيروقراطية مع الوساطة، والتوسط، من قِبَلِ رجال نافذين يخترقون ببساطة كل إجراءاتها وقوانينها الداخلية، لفعل ما يريدون فوق كل البيروقراطية ورجالها.

II - وتحديد- وتقنين- والرقابة على الأفعال المجتمعيَّة، بعامَّةٍ، وعلى السلوك والأخلاق والعواطف وردود الأفعال والمشاعر الإنسانيَّة، بخاصَّةٍ.

-III والدفاع عن الوطن ضد أيِّ تهديد خارجي: سقطت هذه الوظيفة بوجود عشرات الميليشيات التي تقع بكُلِّيَّتِها خارج سيطرة الدولة.

XXXVI- فما هي التَّساؤلات المباشرة لرجال السلطة، ورجال مشروعيَّة السلطة: رجال الدِّين؟

I - نفترض أنَّه ثَمَّةَ طرف ثالث استطاع أن يخترق الاِحتجاجات، ولكن، لماذا تم تهيئة كل الظروف والشروط المجتمعيَّة لإمكان ظهوره؟

II- نفترض أنَّه ثَمَّةَ إرادة حقيقية لدى السلطة في معالجة الفساد، ومحاكمة الفاسدين الكبار، ولكن، لماذا لم يتغيَّرْ فريق السلطة الخاصّ منذ سنوات عديدة؟

III - كيف يمكن فهم تدوير المناصب والمواقع في الدولة بين شلَّة معروفة من رجال السلطة، منذ 2003 إلى الآن؟

IV - لماذا يجب على الذين يُستوزرون أن يكونوا خدماً لجهات خارج الحدود الوطنية؟

V - كيف نفهم اِحتكار المناصب والمواقع من قِبَلِ شيوخ السلطة الذين لا يسمحون لجيل الشباب بالدخول إلى عالَم السياسة، وممارسة السلطة؟ بشتى الوسائل بدءاً من القوانين والأعراف، إلى القمع والترهيب، إلى الملاحقة والاِغتيال، والقتل؟

 

د. محمَّد حسين الرفاعي

 

في المثقف اليوم