قضايا

كيف طغي المنطق اليوناني علي النحو العربي

محمود محمد عليحاول النحويون بعد "سيبويه" إعادة النظر في كتابه مادة وأسلوباً، فشرعوا يذللون صعبه بالشروح، ويخرجون شواهده ويختصرونه، ورأوا مع كثرة المدارسة أنه يمكن اختصار عنواناته الطويلة في صورة محددة يستقر عليه المصطلح الذي حام "سيبويه" حوله وأوشك أن يقع عليه، ورأوا كذلك الاستقرار علي واحد من مصطلحاته الكثيرة التي كان يطلقها علي المسألة الواحدة، فيكتفون بهذا المصطلح عما عداه .

وقد أخذ التجديد في المصطلح بعد سيبويه منحيين: أولهما: التسمية، والآخر: وضع الحدود الخاصّة بها وأُلّفت في ذلك الكتب، وكان من أقدمها كتاب "الإمام أبو زكريا يحيى بن زياد المعروف بالفرّاء " الذي ألفه في " حدود النحو"، واشتمل على ستين حدّاً .

وفيما هم آخذون بخدمة هذا الكتاب، أخذت تشتد بينهم الخلافات في مسائله، فمنهم من تابعه  وأخلص له، ومنهم من خالفه في جانب وتبعه في آخر، ولم يكن هناك نحوي واحد خالفه مخالفة تامة في مسائله جميعها، حتي إن " الكسائي" وهو إمام أهل الكوفة ومقدمتهم، والذي وُصف بأنه اجتمعت له أمور لم تجتمع لغيره فكان أوحد الناس في القرآن، وكان أعلم الناس بالنحو وأوحدهم في الغريب كما يقول ابن الأنباري. الكسائي الذي كان يقف منه موقف الند يناظره ويخالفه الرأي لم يستغن عن دراسة كتاب سيبويه، وتأثر به حتي في المصطلحات، ولا غرابة في أن يكون كتاب سيبويه دستور النحاة من بصريين وكوفيين، ومائدتهم الكبري في صناعة النحو، فسيبويه تلقي أكثر نظرياته عن "الخليل بن أحمد"-  أستاذ البصريين والكوفيين علي السواء بشهادة الكثير من المؤرخين.

وإذا كان الخلاف بين البصريين والكوفيين هو الشائع بين النحاة بصفة عامة، فإن الكوفة لن تنسي تلمذة "الكسائي" علي يد "الخليل" و" يونس"، ولا تلمذة " الفراء" علي يد " يونس بن حبيب"، وأن "الخليل" كان السبب في توجيه نظر " الكسائي" للرحلة إلي البادية ليتعلم الفصاحة واللغة، وهذا كان بشهادة الرواة الذين أكدوا أن:" الكسائي خرج إلي البصرة، ولقي الخليل بن أحمد، وجلس في حلقته، وأنه سأله عن علمه من أين أخذته ؟ فقال له: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فخرج الكسائي، ورجع وقد أنفذ خمس عشرة قنينة حبراً في الكتابة عن العرب سوي ما حفظ، ولم يكن لهم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات، وجلس في موضعه "يونس بن حبيب " البصري النحوي، فجرت بينهما مسائل أقر له "يونس " فيها، وصدره في موضعه .

وهنا نريد أن نقول بأن مدرسة الكوفة لم تكن تختلف عن مدرسة البصرة في الأصول العامة للنحو . فالكوفيون قد بنوا نحوهم علي ما أحكمته البصرة من تلك الأصول، وذلك لأن أئمة النحو الكوفي قد أخذوا النحو من مدرسة البصرة . فالكسائي قد تتلمذ علي "الخليل بن أحمد "، وقرأ كتاب سيبويه علي الأخفش . والفراء قد رحل إلي البصرة وتتلمذ علي يونس بن حبيب كما ذكرنا منذ لحظات، وأكب علي كتاب سيبويه يقرأه، كما أكب عليه جميع أئمة الكوفة من بعده . وكل خلافهم مع البصريين، إنما كان في بعص المصطلحات النحوية وفي جوانب من العوامل والمعمولات .

وهنا نستطيع القول مع بعض الباحثين بأن الكوفيين لم يكونوا يشكلون مدرسة نحوية تتميز بأسلوبها الخاص ومنهجها الذاتي، وذلك لأنهم لم يخرجوا علي منهج مدرسة البصرة في دراسة النحو، فالبصريون والكوفيون يتحركون في إطارات متشابهة ويطبقون أصولاً واحدة، وإن اختلفوا فيما بينهم في بعض الجزئيات فإنه اختلاف لا ينفي عنهم وحدة المنهج واتفاق الأصول .

ومن يرجع إلي كتاب " الأنصاف في مسائل الخلاف بين ﺍﻟﻨﺤﻮيين ﺍﻟﺒﺼﺮﻳﻴﻦ ﻭﺍﻟﻜﻮﻓﻴﻴﻦ "  لأبن الأنباري، يجد أن عامة المسائل التي خالف فيها الكوفيون البصريين لا يمكن أن تجعل من الكوفيين نحاة من نمط جديد، أو تجعل آراءهم التي جاءوا بها تؤلف مدرسة نحوية متميزة، وبهذا يصبح كل ما قيل في عصرنا هذا من كلام من صيغ في الثناء علي الكوفيين لتميزهم في العمل النحوي أمراً مبالغاً فيه .

وليس صحيحاً ما ذكره بعض الباحثين المعاصرين من أن الكوفيين كانوا أقل من البصريين انتفاعاً بعلوم المنطق والفلسفة، فقد كان " للفراء أثر واسع في التفسير وفي اللغة وفي النحو، وقد طلب إليه المأمون أن يجمع أصول النحو . وأن يجمع ما سمع من العرب .. فعكف علي ذلك وألف الكتب، وضبط النحو وفلسفه، فألف فيه كتاب "الحدود" واسم الكتاب يدل علي تأثره بالمنطق، فهو يريد بالحدود التعاريف . كـ ( حد المعرفة والنكرة) وحد ( النداء) وحد ( الترخيم) .. الخ، وهذه أمور لم يعن بها سيبويه في كتابه كثيراً، وهي أثر من آثار الفلسفة والمنطق، كما ذهب أحمد أمين "

فالنحاة الكوفيون ومتأخروا البصرة كانوا سواء في اهتمامهم بالمنطق، فقد سلكوا سبل المنهج الكلامي نفسها، هذا المنهج هو الذي يقوم علي المحاكمة المنطقية . أما ما كنا نأخذه علي الأقدمين من تمسكهم بالعامل، فهو منصب علي البصريين والكوفيين علي السواء، فقد قال الكوفيون بالعامل وتمسكوا به كما فعل البصريون تماماً، فالطرفان لم يختلفا في جذور نظرية العامل، وربما اختلفا في ضبط هذا العامل وتعيينه في المسائل التي اختلفا فيه، كاختلافهم في رافع خبر المبتدأ، فذهب الكوفيون إلي أن المبتدأ يرفع الخبر، والخبر يرفع المبتدأ، فهما مترافعان . وذهب البصريون إلي أن المبتدأ يرتفع بالابتداء والمبتدأ معاً، وذهب آخرون إلي أنه يرتفع بالابتداء.

إلا أنه لما قامت المنافسة بين علماء البصريين نُسب كل واحد إلي بلده، فهذا بصري وذاك كوفي، واستقلت كل طائفة بشخصية مميزة وقامت بين علماء الفريقين مناظرات وصلت بهم إلي حد تعرض بعضهم للبعض الآخر بالهجاء .

ولست هنا متحدثاً عن قيام هاتين المدرستين، فقد ثبت ذلك وكتب عنه كثيرون في القديم والحديث، وألف كل منهما بحث مستقل، ويكفينا ما كتبه  من المحدثين: الدكتور مهدي المخزومي في كتابه مدرسة الكوفة، وما كتبة الدكتور عبد الرحمن السيد في كتابه مدرسة البصرة، فقد تكفل كلاهما ما يمكن أن أقوله في هذا المقام.

ومع مطلع القرن الرابع والخامس الهجريين اشتد اهتمام النحويين بالحدود والعلل والعوامل وأفردوا كتباً خاصة بها وعاب بعضهم بعضاً بأن حده ناقص أو فيه دور، وعلي هذا أخضعت الحدود النحوية للمقاييس المنطقية، ولذلك كثرت الحدود النحوية وتعددت للمصطلح الواحد وخرجت بعض الحدود عن إطارها النحوي إلي نطاق الفلسفة، وغذت بعض الحدود ألغازا فلسفية يصعب فكها، وسبب ذلك أن الوصول إلي حد جامع مانع كما يتطلب علم المنطق أمر عسير، حتي صارت الحدود النحوية في عهد سيبويه أسهل منالاً وأبسط في توضيح المراد، لأن الدرس النحوي يستغني بالمثال  فقط وليس في حاجة لمعايير المنطق الدقيقة، ولو اكتفي النحاة بحد المصطلح النحوي بحد عقلي جامع فقط لكان أدعي للوضوح، غير أن النحويين توهموا ضرورة الدقة الشديدة بالجمع والمنع في تحديد المصطلحات النحوية فإزدات الحدود غموضاً وابتعدت عن دلالاتها النحوية.

وفي القرون التي أعقبت القرن الخامس الهجري حتي وقتنا الحالي أضحت مصطلحات المنطق تدخل بشكل سافر في الحدود والتعريفات والعلل والعوامل والأقيسة والأساليب، ولا تكاد تجد كتاباً نحوياً إلا وهو ملئ بعلم المنطق، وكثرت المصنفات في الحدود النحوية وجمعها من أمهات الكتب النحوية ولم شعثها بعبارات موجزة جامعة دقيقة يستطيع الدارس استيعابها بأقصر طريق ليمكن تعلم القواعد وتيسير حفظها واستذكارها واستيعابها، فوجود متن يتميز بالاختصار والاقتصار علي الأسس العامة يكون معيناً علي حفظ أصول العلم وقواعده، وتقريب الحقائق إلي أذهان المتعلمين بشتي مستوياتهم، ولضبط أصول العلم بدقة، ومن هذه المصنفات:" رسالة في الحدود النحوية " المنسوبة لأبي الفضل القاسم التلمساني  854هـ وكان صاحب الرسالة يحد كل مصطلح بثلاث حدود، وبعضها قد يزيد عن الثلاثة، وقليل منها بحدين أثنين فقط، وهذا يعد توسعاً في مجال التعريفات . وأغلب حدوده منقولة بدقة من حدود "الرماني" وكتب "الفارسي " وجمل "الزجاجي" . ومن كتب الحدود في هذه المرحلة كتاب " حدود النحو " لشهاب الدين الأبذي 860هـ وهو كتاب موجز مختصر، لأنه ألفه للمبتدئين من طلبة العلم، وأكثر الحدود في كتاب الأبذي يعبر فيها عن الجنس بقوله: (ما) إشارة إلي الجنس البعيد دون تحديد نوع هذا الجنس" وهو تعريف دلالي .

ومن ثم وجدنا النحاة المتأخرين يصوغون النحو العربي علي حسب الحدود والمقاييس والمصطلحات والأساليب المنطقية، والتي وضع فيها الكثير من الألفاظ الفلسفية والصيغ المنطقية الأرسطية مثل القضايا الصغرى والقضايا الكبرى، والعموم والخصوص الوجهي، والمعروض والعرض، والماصدق والمفهوم، والمادة والصورة، والاجتماع والإنفراد، ومنع الجمع ومنع الخلو، والماهية الذهنية والتشخيص  الخارجي، والتقييد والإطلاق، والموضوع والمحمول، واللازم والملزوم، والموجود والمعدوم، والقوة والفعل، والجنس والفصل والخاصة، والعهد والاستعراض، والمطلق والمقيد، والذوات والمعاني والمتعلق، مثل: لزيادة الثقل زيادة أثر، وليس بعد الجواز إلا اللزوم، وزين متدرج تحت الجنس، والمعهود ذهني، وأفراد هذا الجنس، وبينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في كذا وينفرد الأعم بكذا، أو بينهما عموم وخصوص مطلق يجتمعان في كذا وينفرد كل منهما في كذا، والقضية وموضوعها ومحمولها، والبرهان المكون من صغري وكبرى ونتيجة ...وهلم جرا .

ومما يستغرب أن أحد المشتغلين بالنحو من المتأخرين وهو " جلال الدين السيوطي " ؛ حينما تحدث عن العلوم التي نبغ فيها، والتي لم يصل فيها إلي درجة النبوغ، وقسمها إلي درجات لم يسرد فيها علم المنطق ولا أدري ما الدرجة التي وضع فيها علم المنطق بالنسبة إلي معرفته بها .

ويبدو أن السيوطي غض البصر عن ذكر هذا العلم بين العلوم، لأنه آثر أن يتحدث عنه منفرداً لأمر يذكره، وعلة يبينها، فقال بعدما ذكر حديثه عن آلات الاجتهاد التي كملت عنده متحدثاً عن علم المنطق، ما نصه:" وقد كنت في مبادئ الطلب قرأت شيئاً من علم المنطق، ثم ألقي الله كراهته في قلبي، وسمعت أن ابن الصلاح أفتي بتحريمه، فتركته لذلك فعوضني الله تعالي عنه علم الحديث الذي هو أشرف العلوم" .

ومعني هذا  النص كما توحي دلالته أن السيوطي ليس جاهلاً في المنطق، وليس ضعيفاً، إنما تركه لشعوره بكراهيته في قلبه، وبخاصة بعدما أفتي ابن الصلاح بتحريمه، ولا أدل علي ذلك من أن السيوطي ألف في المنطق كتاباً سماه:" صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام " جمع فيه أقوال العلماء في إبطال المنطق الأرسطي وانتقاده، وأفاد بميله إليهم، ولكنه نهج في الوقت نفسه نهج النحاة المناطقة في تواليفه النحوية وسلك مسلكهم في ترك مسائل النحو كما نقلها ممتزجة بمفاهيم المنطق ومصطلحاته وفي حشد الكثير من الألفاظ والحدود المنطقية التي رددها النحاة من قبله ونقلها عنهم دون أن يظهر التذمر منها علي الأقل، ونجد في مصنفاته المتعددة الكثير ما يفيد ذلك فمثلاً يقول في تعريفة للجملة " .... وتنقسم أيضاً إلي الكبرى والصغرى فالكبرى هي الاسمية التي خبرها جملة نحو زيد قائم أبوه وزيد أبوه قائم، والصغرى هي المبنية علي المبدأ كالجملة المخبر بها في المثالين، وقد تكون الجملة كبري وصغرى باعتبارين نحو زيد أبوه غلامه منطلق فمجموع هذا الكلام جملة كبرى لا غير، وغلامه منطلق صغرى لا غير وأبوه غلامه منطلق كبرى باعتبار غلامه منطلق صغرى باعتبار جملة الكلام "، وفي تعريفة للفاعل يقول " ما أسند عامل إليه عامل مفرغ علي جهة وقوعه منه أو قيامه به . وفي أقسام الكلام يقول أيضا " والكلام مركب من ثلاث خبر وطلب وإنشاء وإن لم يغدو هو اسم جنس لكلمة لا جمع كثره ولا قله ولا شرط تعدد الأنواع خلافاً لزاعميها، وغير ذلك من الأمثلة الدالة التأثر بالمنطق.

ومن مظاهر النزعة المنطقية عند النحاة المتأخرين ما نجده لدي "خالد الأزهري المتوفي 905هـ"  ؛ حيث كانت له معرفة بالمنطق، ففي شروحه نجده يستعين بمؤلفات المناطقة لتوضيح بعض القواعد النحوية . فمثلاً في كتابه "التصريح " في باب النسب ذكر في نسبة (ذات) ما قاله الكافي في شرح ايساغوجي في المنطق فقال:" لا يقال ذاتي منسوب إلي الذات، فلا يجوز أن نقول الماهية ذاتية والإلزام انتساب الشئ إلي نفسه، وهو ممنوع لأنا نقول هذه النسبة ليست بلغوية حتي يلزم ذلك، بل إنما هي اصطلاحات فلا يرد ذلك .

علق الشيخ خالد علي قول الكافي السابق بما يدل علي موافقة له فقال:" والدليل أنها اصطلاحية، أن استعمال ذات مراد بها الحقيقة لا أصل له في اللغة ". وكذا نجد ثقافته المنطقية ممزوجة بشرحه، فمثلاً يستخدم لفظ الماهية، وأيضاً في تنافي الجمع بين أجزاء الكلمة عبر عن ذلك بعبارة منطقية قال فيها:" والعناد حقيقي يمنع الجمع والخلو ".وفي تعليل الإحاطة بتعريف كل قسم من الكلمة قال:" وقد علم بذلك حد كل واحد منها للإحاطة بالمشترك وهو الجنس وما به يمتاز كل واحد عن الآخر هو الفصل" .

أما نحاة العصر العثماني، فقد تلقفوا النحو الممنطق وأقاموا أنفسهم حراساً عليه، بل أمعنوا في ذلك إمعانا وزادو فيه زيادة كبيرة بفعل ما جد من التوسع في علم المنطق نفسه وفي درسه والاختصاص فيه علي حساب تراجع اللغة نفسها، فوجدنا كتبهم مملوءة بالحدود والأساليب المنطقية، وهذا يبدو واضحاً من خلال ألفية ابن مالك (ت: 672 هـ)، والشروح التي قامت علي توضيحها، مثل ابن هشام الذي ألف شرحاً لشواهد شرح ابن الناظم علي الألفية، والذي عرف بـ (شرح شواهد ابن الناظم أو شرح الشواهد الكبري، كذلك حاشية الصبان المتوفى في سنة 1206 مع شرح الأشموني لألفية ابن مالك، وكذلك في حاشية الخضري المتوفي سنة 1287هـ علي شرح ابن عقيل لهذه الألفية .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم